Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 19-19)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لقد اختلف الرسول صلى الله عليه وسلم مع القوم المناوئين له . والاختلاف يتطلب حكماً وبينة . والشهود هم إحدى البينات ، فما بالنا والشاهد هو الله ؟ ! إنه الشاهد والحكم والمنفذ . وشهادة الله لا تحايل فيها ، وحكمه لا ظلم فيه ، وإرادته لا تظلم عبداً مثقال ذرة ، ولا شهادة - إذن - أكبر من شهادة الحق لرسوله بأنه رسول من الله . ولو شاء الحق لجعلكم كلكم مؤمنين ، لكنه أراد للإنسان الاختيار . وحنان الرسول صلى الله عليه وسلم على البشر هو الذي جعله يتمنى إيمانهم ، لكن الحق يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3 - 4 ] . أي أن الحق يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشفق على نفسه وألاّ يقتلها بالحزن عليهم لعنادهم وعدم إيمانهم . ولو أراد الحق لجعلهم جميعاً مؤمنين بآية منه فمهمة الرسول هي البلاغ فقط . ولو شاء الحق لقهر الخلق جميعاً على الإيمان به كما سخّر الكون ليخدم الإنسان وليسبح الكون بحمد الله . لكنه سبحانه ترك للخلق الاختيار حتى يأتي إيمانهم مثبتاً صفة المحبوبية لله لأن إيمان المختار هو الذي يثبت تلك المحبوبية . والرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو نذير وبشير بهذا القرآن المُنزَّل عليه بالوحي . والنذارة تأتي هنا لأن المجال مجال شهادة لأن الشهادة إنما تكون على خلاف ، فهو صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإيمان ، والمناوئون له يدعون إلى الكفر وإلى الشرك ، وشهادة الله أكبر من كل شهادة أخرى . لذلك يقرر الحق هنا بأن الرسول نذير بالقرآن . وهذا الخطاب موجه لتبليغ المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولَمن وصله بعد ذلك أي شيء من القرآن ، فكأنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ووصله البلاغ عنه . فقد قال - سبحانه - : { وَمَن بَلَغَ } أي لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من البشر جميعاً . ويوجه الحق على لسان رسوله سؤالاً استنكارياً للمناوئين فيقول : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ } . إنه سؤال من سائل يثق أن من يسمع سؤاله لا بد أن ينفي وجود آلهة أخرى غير الله . إنه سؤال يستنبط الإقرار من سامعه . والمثال على هذا ما عرضه الحق على رسوله من أمر قد حدث في عام ميلاده فيقول : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [ الفيل : 1 ] . ونعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ما حدث في عام الفيل لأنه عام ميلاده ، ولكن حين يخبره الله بذلك فمعنى هذا أنه بلاغ عن الله ، والبلاغ عن الله يجعل الخبر القادم منه فوق الرؤية وأوثق وآكد منها . وهنا يأتي السؤال الاستنكاري : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ } . وعندما أعجزهم هذا السؤال في بعض مراحل الدعوة قال بعضهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] . وكأنهم أخيراً يعترفون أن المتقرَّب إليه هو الله ، ولكن الحق يحسم أمر الشرك فيقول على لسان رسوله : { قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يشهد بأي آلهة غير الله ، وألقى إليهم السؤال الاستنكاري لعلهم يديرون رءوسهم ليهتدوا إلى صحيح الإجابة التي يوجزها الحق في قوله للرسول : { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } . إن الكلام هنا موجه إلى فئة من المناوئين لرسول الله من عبدة الأوثان ، وهم بعض من الكافرين برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والبعض الآخر هم بعض من أهل الكتاب ، هؤلاء الذين تغافلوا عن الكتب المنزلة إليهم ، وغابت عنهم الخمائر الإيمانية التي كانت ترد العاصي عن معصيته ، فانتشر الفساد في الكون . لذلك أرسل الحق رسوله صلى الله عليه وسلم لأن العاصي لم يجد من يرده ، واختفت من المجتمع في ذلك الوقت النفس اللوامة ، وسادت فيه النفس الأمارة بالسوء . إن الحق سبحانه لم يترك أمر الرسول غائباً عن البشر ، فقد كان الرسول في كل أمةٍ ينبئ ويخبر عن الرسول الذي يليه حتى يستعد الناس لاستقبال النذير والبشير ، ولذلك كانت كل الرسالات تتنبأ بالرسل القادمين حتى لا يظنوا أن مدّعيا اقتحم عليهم قداسة دينهم ، ولأن الإسلام جاء ديناً عاماً ، فلم يأت الخبر فقط بمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة ، ولكن جاءت أوصافه وسماته أيضاً واضحة وبيّنه فيها . إن الذين قرأوا هذه الأوصاف لو أخرجوا أنفسهم عن سلطتهم الزمنية لآمنوا على الفور برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل " عبدالله بن سلام " رضي الله عنه حين قال : لقد عرفته حين رأيته وعرفته كابني ، ومعرفتي لمحمد أشد ونسي هؤلاء أنهم هم الذين نُصروا برسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يدروا فقد كانوا يستفتحون به على الأوس والخزرج ، وقالوا للأوس والخزرج : قَرُب مجيء نبي منكم سنؤمن به ونتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم . وأسرع الأوس والخزرج للإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين : لعل هذا هو النبي الذي توعدتنا به يهود ، هيا نسبق إليه . إذن فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتحم العالم بهذا الدين ، بل عَرَفَ نبأ مقدمه وبعثه وصورته ونعته كلُّ من له صلة بكتاب من كتب السماء . إنهم يعلمون أنه الرسول الخاتم الذي ختمت به أخبار السماء إلى الأرض . ولذلك يقول الحق سبحانه : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ … } .