Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 1-1)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ويبدأ سبحانه سورة الأنعام بقوله تعالى : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } . وساعة تسمع كلمة الحمد ، فعليك أن تفهم أنها كلمة المدح والثناء والشكر . فالحمد أمر فطري موجود ونوجهه لله ، فقد أخذ - سبحانه - بأيدينا ووضح وبين لنا أن الحمد لله حتى لا نختلف في مجال توجيهه لأنه سبحانه هو الذي أمد كل إنسان بشيء من أسبابه . وحين تسأل أحداً عن شيء فإن سلسلات ما أمدك به منسوبة لله . إذن فكل حمد يجب أن يتوجه إلى الله . وأضرب هذا المثل : هب أن إنساناً وقعت به طائرة في مكان ما موحش ، لا يوجد به أي شيء من أسباب الحياة ، وأراد ان يأكل ويشرب ويستتر حتى ينام ، لكنه لم يجد شيئاً من هذا . وأخذته سنة من النوم ثم استيقظ فجأة فوجد مائدة عليها كل أطايب الطعام والشراب ، وبجانب ذلك وجد خيمة فيها فراش وغطاء وصنبور للغسيل . وساعة يرى كل ذلك فهو لا يبدأ في استخدام أي شيء قبل أن يتساءل عن مصدره ، لأنه يريد أن يشكر الذي أنعم عليه كل هذه النعم السابغة . فكأنك أيها الإنسان حين واجهت الكون ووجدت أشياء تخدمك ولا عمل لك فيها ، ولا للسابقين عليك عمل فيها لأن أحداً لم يدعها لنفسه ، فوجدت شمساً تشرق ، وهواءً يهب ، وماءً يروى ، وأرضاً تُزرع ، وغير ذلك من كل ما يخدمك ، وأخبرك الحق أنه هو الذي منحك كل هذا ألا تشكره إذن ؟ إن البشرية عندما استفادت من المصباح الكهربائي قامت الضجة لتكريم اديسون الذي اخترعه ، فما بالنا بخالق الشمس التي تنير الكون كله ؟ إن الاختراعات البشرية تخلد أصحابها وتقوم الضجة لتكريمهم . فما بالنا بخالق الكون كله ؟ ما بالنا نكرم صانع المصباح الذي ينير مساحات ضيقة مهما اتسعت بالقياس إلى الأرض ويغفل بعضنا عن تنزيه خالق الشمس التي تنير الأرض في النهار وتختفي نصف اليوم حتى يستريح الإنسان ؟ ولكنها تسير سيرا دائماً ، فإن غابت عنك فقد أشرقت على غيرك فهي في فلكها تسبح . إذن فالحمد لله حينما استقبل الإنسان هذا الوجود . ووجد كل مقومات الحياة التي لا يمكن أن تخضع لقوة بشر ، ولا لادعاء بشر . إن الحمد أمر واجب الوجود وإن اختلف الناس حول من يوجه له الحمد . إننا نوجهه إلى الله تعالى لأنه هو واهب النعم . وسور القرآن التي بدأها الخالق بالحمد لله خمس سور هي : الفاتحة ، والأنعام ، والكهف ، وسبأ ، وفاطر ، وتتركز حول شيئين : تربية مادية بإقامة البنيان بالقوت أو بقاء النوع بالتزاوج أو بتربيتهم تربية روحية قيمية ، فيمدهم بمنهج السماء . فمرة يقول الحق : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] . وكلمة " رب " تعني أنه تولى تربية الخلق إلى غاية ومهمة ، والتربية تحتاج إلى مقومات مادية ومقومات معنوية ، روحية ومنهجية لذلك يأتي بها الحق شاملة للكون كله كما في فاتحة الكتاب : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] . فهو سيد كل العالمين ومالكهم ومربيهم ، وهو الذي ينشئهم التنشئة التي تجعلهم صالحين لأداء مهمتهم في الحياة بقوة البنيان وببقاء النوع بالتزاوج وبقوة القيم . ومرة ثانية يأتي الحق بالمنهج وحده ، مثل قوله الحق سبحانه : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ } [ الكهف : 1 ] . ومرة أخرى يأتي الحق بالأشياء المنظورة فقط فيقول : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [ الأنعام : 1 ] . إنه سبحانه يأتي هنا بأشياء تختص بالمادة المنظورة ، كالسمٰوات والأرض ، والظلمات والنور ، وهي أشياء يمكنك أن تراها بوضوح ، ومرة يأتي الحق بأشياء غير منظورة مع الأشياء المنظورة كقوله الحق : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] . ويأتي بالمجموع كله في فاتحة الكتاب ، ويأتي بالمنهج فقط كما في سورة الكهف ، ويأتي بالكون المادي كما في سورة الأنعام ، ويأتي بالكون المادي والمعنوي كما في سورة فاطر . إذن فالحمد مُسْتَحَقٌّ مستحق ، ويُوجه الله حتى ولو كانت أسبابه الظاهرة من غير الله لأن كل أسباب الدنيا والكون تنصرف أخيراً إلى الله . وهنا - في سورة الأنعام - خص الحق الحمد لله خالق السمٰوات والأرض بما فيهما من كائنات ، وأتى من بعد ذلك بالظلمات والنور . والخلق كما نعلم إيجاد من عدم . والجعل يأتي لشيء مخلوق ويوجه إلى الغاية منه . ولذلك قال الحق : { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } والظلمة أمر عدمي ، والنور أمر إيجابي ، والنور يبدد الظلمة . إذن فالأصل هو وجود الظلمة التي تختلف في ألوانها ، مثال ذلك : ظلمة الكهف ، وظلمة البحر ، وظلمة البر ، ولذلك قال الحق سبحانه : { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] . إنها يده يعرف اتجاهها ولكنه لا يكاد يراها . إذن فالحق يخصص الحمد هنا لخلق السمٰوات والأرض لأنها ظرف كل الكائنات . وقال العلماء : لا تأخذ الظلمة على أنها الظلمة المادية التي لا ترى فيها الأشياء لا غير ، ولا تأخذ النور على أنه النور الحسي الذي ترى به الأشياء فقط ، ولكن لنأخذ الظلمات والنور على الأمر المعنوي والأمر الحسي كذلك - وسبحانه - جعل الظلمات في هذه الآية جمعا وجعل النور مفردا ، لأن الظلمات تتعدد أسبابها لكن النور ليس له إلا سبب واحد . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] . والسبل هي جمع ، وسبيل الله مفرد لأنه واحد . كأن سبل الشيطان متعددة ، وسبل الناس كذلك متعددة حسب أهوائهم ، لكن سبيل الله واحد لذلك يجعل الهداية نوراً والضلال ظلمات . { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } ونقول : - ولله المثل الأعلى - إنك إيها الإنسان عندما يفيض الله عليك ويجعل من بين يديك ما تعديه من جميل إلى غيرك فأنت تقول : أنا صنعت لفلان كذا وكذا ثم ينكر من بعد ذلك . كأن " ثم " تأتي هنا للاستبعاد . إن " ثم " تأتي للعطف مثل حرف " الفاء " . ولكن الفاء تكون للجمع بين شيئين ليست بينهما مسافة زمنية ، مثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } [ عبس : 21 ] . ومن يحب إنساناً ومات هذا الإنسان فهو يعجل بدفنه ، وذلك حتى لا يرم ويتعفن أمامه . ولذلك يقول الحق سبحانه من بعد الإقبار : { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [ عبس : 22 ] . كأن فترة زمنية قد تطول حتى تقوم القيامة فينشر الحق خلقه . وقد يكون البعد بُعْدَ رتبة أو منزلة ، ولذلك يأتي الحق بـ " ثم " هنا كفاصلة بين خلق السمٰوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، وبين الذين كفروا بربهم ، { ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } إنهم الذين يساوون الله بغيره . ونستطيع أن نجعل " يعدلون " من متعلقات كفرهم … أي أنه بسبب كفرهم يسوون الله بغيره . أو يكون المراد أنهم يعدلون أي يميلون عن الإله الحق إلى غير الإله ، أو يجعلون لله شركاء . وهو قول ينطبق على الملحدين أو المشركين بالله . لقد أوجد سبحانه السمٰوات والأرض من عدم وليس لأحد أن يجترئ ليقول الله : كيف خلقت السمٰوات والأرض ؟ لأنه سبحانه يقول في آية أخرى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . وأوجد سبحانه السمٰوات والأرض من عدم ، فالسماء والأرض ظرف للكون وتم خلقهما قبل الإنسان وقبل سائر الخلق ، ولم يشهد خلقهم أحد من الخلق ، فلا يصح أن يسأل أحد عن كيفية الخلق ، بل عليه أن يأخذ خبر الخلق من خالقهما وهو الله . وقد أتى بعض الناس وقالوا : إن الإرض انفصلت عن الشمس ثم بردت ، وهذا مجرد ظنون لا تثبت لأن أحداً منهم لم ير خلق السمٰوات والأرض . وهؤلاء هم أهل الظنون الذين يدخلون في قوله تعالى : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ عَضُداً } [ الكهف : 51 ] . لقد قال القرآن ذلك من قبل أن يأتي هؤلاء . وكأنه سبحانه يعطينا التنبؤ بمجيء هؤلاء المضلين قبل أن يوجدوا ، فهم لم يشهدوا أمر الخلق ، بل طرأوا - مثلنا جميعاً - على السمٰوات والأرض ، وكان من الواجب ألا يخوضوا في أمر لم يعرفوه ولم يشاهدوه . وكذلك قولهم عن خلق الإنسان كقرد وهم لم يكونوا مع الله لحظة خلق الكون والإنسان ، ولا كانوا شركاء له ، ولذلك يعلمنا الحق الأدب معه فيقول سبحانه : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] . وعلينا أن نأخذ خبر الخلق عن الله القائل : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ … } .