Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 27-27)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

عندما ننظر إلى قول الحق : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } ، هنا لا نجد جواباً ، مثل ما تجده في قولك : لو رأيت فلاناً لرحبت به أو لو رأيت فلاناً لعاقبته . إن في كلٍّ من هاتين الجملتين جواباً ، لكن في هذا القول الكريم لا نجد جواباً ، وهذا من عظمة الأداء القرآني ، فهناك أحداث لا تقوى العبارات على أدائها ، ولذلك يحذفها الحق سبحانه وتعالى ليذهب كل سامع في المعنى مذاهبه التي يراها . وفي حياتنا نجد مجرماً في بلد من البلاد يستشري فساده وإجرامه في سكانها تقتيلاً وتعذيباً وسرقة واعتداءات ، ولا أحد يقدر عليه أبداً ، ثم يمكن الله لرجال الأمن أن يقبضوا عليه ، فنرى هذا القاتل المفسد يتحول من بعد الجبروت إلى جبان رعديد يكاد يقبل يد الشرطي حتى لا يضع القيود في يديه . ويرى إنسان ذلك المشهد فيصفه للآخرين قائلاً : آه لو رأيتم لحظة قبضت الشرطة على هذا المجرم ، وهذه العبارة تؤدي كل معاني الذلة التي يتخيلها السامع ، إذن فحذف الجواب دائماً تربيب لفائدة الجواب ، ليذهب كل سامع في تصور الذلة إلى ما يذهب . لأن المشاهد لو شاء لحكى ما حدث بالتفصيل لحظة القبض على المجرم وبذلك يكون قد حدد الذلة والمهانة في إطار ما رأى هو ، ويحجب بذلك تخيّل وتصوّر السامعين . أما اكتفاء المشاهد بقوله : آه لو رأيتم لحظة قبض الشرطي على هذا المجرم … فهذا القول يعمم ما يُرى حتى يتصور كل سامع من صور الإذلال ما يناسب قدرة خياله على التصور . وهكذا أراد القرآن أن يصور هول الوقوف على النار فأطلق الحق " لو " بلا جواب حين قال : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الأنعام : 27 ] . وقد أراد البعض أن يتصيد لأساليب القرآن ، ومنهم من قال : كيف تقولون إن القرآن عالي البيان ، فصيح الأسلوب ، معجزة الأداء ، وهو يقول ما يقول عن شجرة الزقوم ؟ إن القرآن الكريم يقول عن هذه الشجرة : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ٱلزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيۤ أَصْلِ ٱلْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ } [ الصافات : 62 - 65 ] . إن كل شجرة تحتاج إلى ماء وهواء ، وفيها حياة تظهر باخضرار الأوراق ، فكيف تخرج هذه الشجرة من النار ، أليس في ذلك شذوذ ؟ ثم تتمادى الصورة … صورة الشجرة ، فيصف الحق ثمارها بقوله الحق : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ ٱلشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } [ الصافات : 65 - 66 ] . نحن لم نر شجرة الزقوم ، ولم نر رأس الشيطان . ويَسْخَرُ الذين يتصيدون للقرآن في أقوالهم : بما أن أحداً من البشر لم يشهد رأس الشيطان ، وكذلك شجرة الزقوم ، فكيف يشبه الله المجهول بمجهول ، وتساءلوا بطنطنة : ماذا يستفيد السامع من تشبيه مجهول بمجهول ؟ ونقول رداً عليهم : إن غباء قلوبكم وفقدان طبعكم لملكة اللغة العربية هو الذي يجعلكم لا تفهمون ما في هذا القول من بلاغة . وحين نقرب المثل نقول : هب أن إنساناً أقام مسابقة بين رسامي " الكاريكاتير " في العالم ليرسم كل منهم صورة للشيطان ، ويوم تحديد الفائز ستوجد أكثر من صورة للشيطان ، وستفوز أكثر الصور بشاعة ، ذلك أن الفوز هنا ليس في الجمال ، ولكن الفوز هنا في مهارة تصوير القبح . وهكذا تتعدد أمامنا صور القبح ، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وقد أراد إطلاق الخيال لتصور شجرة الزقوم ، وكذلك تصور رأس الشيطان ؟ أراد الحق بهذا الأسلوب البليغ إشاعة الفائدة من إظهار بشاعة صورة الشجرة التي يأكل منها أهل الكفر . وكذلك هنا قوله الحق : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } والذي يحدث لهؤلاء الوقوف على النار لا يأتي خبره هنا ، بل يكتفي الحق بأن يعبر لنا عن أننا نراهم في مثل هذا الموقف لأن اليوم الآخر هو يوم الجزآء إما إلى الجنة وإما إلى النار . والجنة - كما نعلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . ونعلم أن رؤية العين محدودة ، ورقعة السمع أكثر اتساعاً ، ذلك أن الأذن تسمع ما تراه أنت وما رآه غيرك ، لكن عينيك لا تريان إلا ما رأيته أنت بمفردك ، ولا يكتفي الحق بذلك بل يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أن في الجنة ما لا يخطر على قلب بشر ، أي أن في الجنة أشياء لا تستطيع اللغة أن تعبر عنها لأن اللغة تعبر عن متصورات الناس في الأشياء . والمعنى يوجد أولاً ثم يوجد اللفظ المعبر عنه . وهكذا نعلم أن ما في الجنة من نعيم لا توجد ألفاظ تؤدي كل ما تحمله للمؤمن من معان ، وكذلك نعلم أيضاً أن في النار عذاباً لم توضع له ألفاظ لتعبر عنه . ولو أن الحق سبحانه وتعالى قال : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } لرأينا أمراً مفزعاً مخيفاً مذلاً إلى آخر تلك الألفاظ الدالة على عمق العذاب لما أعطي ذلك الأثر نفسه الذي جاء به حذف الجواب . وعندما نقرأ " وُقِفوا " نعرف أن فيه بناء وكيانا موجوداً ، وأن هناك من أوقفهم على النار ، وهم كانوا مكذبين في الدنيا بالنار ، ثم وجدوا أنفسهم يوم القيامة ضمن من وقفهم الله على النار ليروا العذاب الذي ينتظرهم ، ويطلعوا على النار اطلاع الواقف على الشيء ، كذلك يوقفهم الحق على النار التي أنكروها في الدنيا فقد جاءهم الخبر في الدنيا ، فمن صدق وعلم أن من أخبره صادق ، فذلك علم يقين ، وإن تجاوز الإنسان مرحلة العلم ورأى صورة محسة للخبر ، فهذا عين يقين ، والمؤمن بإخبار ربه وصل إلى الأشياء بعلم اليقين من الله ، لأنه يصدق ربه ، ولذلك فالإمام علي - كرم الله وجهه - يقول : " لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقيناً " لأنه مصدق بلاغى به . لكن ماذا عن المكذبين ؟ إن الإنسان يرى علم اليقين في اليوم الآخر وهو عين يقين ، ويشترك في ذلك المؤمن والكافر . ولكن الكافر يرى النار عين اليقين ويدخلها ليحترق بها فيحس بها وهذا هو " حق اليقين " . هكذا نعلم أن النار " عين اليقين " يراها المؤمن والكافر ، والنار كـ " حق اليقين " يعانيها ويعذب بها الكافر فقط ، أما المؤمن في الجنة فيحس " حق اليقين " لأنه يعيش ويسعد بنعيمها . ويصور سبحانه ذلك في قوله : { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 5 - 7 ] . وجاء حق اليقين في قوله تعالى : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ } [ الواقعة : 88 - 95 ] . وماذا يصنعون وهم المكذبون عندما يرون النار عين اليقين ؟ لا بد أنهم يخافون أن يعانوا منها عندما تصبح حق اليقين ، لذلك يقولون : { يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الأنعام : 27 ] . إنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ليستأنفوا الإيمان . والتمني في بعض صوره هو طلب المستحيل غير الممكن للإشعار بأن طالبه يحب أن يكون ، كقول القائل : @ ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب @@ أو قول القائل : @ ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدحٍ فما أرضى لكم كلمى @@ وهم قالوا : { يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ } فإن كانوا قالوا هذا تمنياً فهو طلب مستحيل ويتضمن أيضاً وعداً بعد التكذيب بآيات الله ، فهل هم قادرون على ذلك ؟ لا لأن القرآن الكريم قد قال في الآية التالية : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ … } .