Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 31-31)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إن كل رأس مال يحتاج إلى عمل يزيده ، لكن أن يكون العمل قد أضاع المال ، فهذا يعني الخسارة مرتين : مرة لأن رأس المال لم يبق عند حده بل إنه قد فنى وذهب وضاع ، وثانية لأن هناك جهداً من الإنسان قد ضاع وأضاع معه رأس المال . إذن فقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله لأنهم باعوا الآجل الطويل العمر بالعاجل القصير العمر . وكل إنسان منا يريد أن يثمّر عمله ويحاول أن يعطي قليلاً ليأخذ كثيراً . وعلى سبيل المثال نجد الفلاح يقتطع مقدار كيلتين من أرادب القمح التي في مخزنه ليبذرها في الأرض بعد أن تُحرث . وهذا يعني النقص القليل في مخزن هذا الفلاح ، ولكنه نقص لزيادة قادمة فعندما وضع البذور في الأرض المحروثة نجد الحق سبحانه وتعالى ينبتها له أضعافاً مضاعفة . والفلاح بذلك يبيع العاجل القليل من أجل أن يأخذ الآجل الكبير . وهذه أصول حركة العاقل الذي يزن خطواته ، فإن أراد أن يزيد الثمار من حركته ، فعليه أن يبذل الجهد . أما إن كانت الحركة لا تأتي له إلا بالقليل فلن يتحرك . ولأن العاقل لا يحب الخسارة نجده يوازن دائماً ويقارن بين ما يبذله من جهد والعائد الذي سيأتي إليه . أما الذين كفروا بلقاء الله فهم قد خسروا أنفسهم ، لأنهم لم يوازنوا بين حياتين : حياة مظنونة ، وحياة متيقنة لأن مدة حياتنا الدنيا مظنونة غير متيقنة . إننا لا نعرف كم سنحيا فيها فمتوسط عمر الإنسان على الأرض هو سبعون عاماً على سبيل المثال ، ولكن أحداً لا يعرف كم عمره في الدنيا بالضبط ، وله أجل محدود . إنه فان وذاهب وميّت ، ولكن حياة الآخرة متيقنة لا أجل لها ، إنها دائمة ، ونعلم أن نعيم الدنيا بالنسبة للإنسان هو على قدر الأسباب الموجودة لديه ، أما نعيم الآخرة فهو على قدر طلاقة قدرة المسبب وهو الله ، وعلى هذا تكون خسارة الذين كفروا كبيرة وفادحة ودامية لأنهم لم يتاجروا مع الله . { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } [ الأنعام : 31 ] . ونعلم أن " حتى " هي جسر بين أمرين فالأمر الذي نريد أن نصل إليه هو غاية ، كقول إنسان ما : " سرت حتى وصلت المنزل " ، والمنزل هنا هو غاية السير . والذين كفروا ، كان كفرهم وتكذيبهم موصلاً إلى الخسران ، فمجيء الساعة بغتة ليس هو نهاية المطاف ، ولكنه وصول إلى أول الخسران لأن خسرانهم لا ينتهي من فور مجيء الساعة ، ولكنه يبدأ لحظة مفاجأة الساعة لهم . فهم يفاجأون بوقوع ما كانوا يكذبون به . ويعلمون جيداً أن ما صنعوه في الدنيا لا يستوجب إلا العذاب . وهنا تبدأ الحسرة التي لا يقدرون على كتمانها ، ولذلك يقولون : { يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } … أي على تفريطنا وإسرافنا في أمرنا وذلك في أثناء وجودنا في الدنيا . وبذلك نعرف أن عدم التفريط في الدنيا والأخذ بالأسباب فيها أمر غير مذموم ، ولكن التفريط في أثناء الحياة الدنيا هو الأمر المذموم لأنه إضاعة للوقت وإفساد في الأرض . إنني أقول ذلك حتى لا يفهم أحد أن الاستمتاع في الدنيا أمر مذموم في حد ذاته ، وحتى لا يفهم أحد أن الآخرة هي موضوع الدين لأن الدنيا هي موضوع الدين أيضاً ، والجزاء في الآخرة إنما يكون على ألوان السلوك المختلفة في الدنيا فمن يحسن السلوك في الدنيا ينال ثواب الآخرة ومن يسيء ينال عقاب الآخرة . ولذلك لا يصح على الإطلاق أن نقارن الدين بالدنيا . إن علينا أن نعلم خطأ الذين يقولون : " دين ودنيا " فالدين ليس مقابلاً للدنيا . بل الدنيا هي موضوع الدين . أقول ذلك رداً على من يظنون أن سبب ارتقاء بعض البلاد في زماننا هو أن أصحابها أهملوا الدين وفتنوا بما في الدنيا من لذة ومتعة فعملوا على بناء الحضارات . نقول : إن الإقبال على الدين بروح من الفهم هو الذي يبني الحضارات ويُثاب المصلح في الدنيا يوم الجزاء ، ولنا أن نعرف أن المقابل للدنيا هو الآخرة ، والدين يشملهما معاً يشمل الدنيا موضوعاً ، والآخرة جزاءً . والذين يفتنون بالدنيا ولا يؤمنون بالآخرة هم الذين يقولون يوم القيامة : { يٰحَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ } . والأوزار المعنوية في الدنيا - وهي الذنوب - ستتجسم بحسيات وذلك حتى تكون الفضيحة علنية فمن سرق غنمه يُبعث يوم القيامة وهو يحملها على ظهره ، ومن سرق بقرة يُبعث يوم القيامة وهو يحملها على كتفه وهي تخور ، وكذلك من سرق طنا من حديد عمارة سيُبعث يوم القيامة وهو يحمله على ظهره ، وكذلك يفضحه الله يوم القيامة . وهذا يكون موقف أهل النار لذلك يقول الحق : { أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } ونعلم أنهم لا يحملون أوزاراً فقط بل يحملون من أوزار الذين اتخذهم قدوة له ، فهذا وزر الإضلال ويعرفون - جميعاً - أن حمل الوزر يتجسد في الإحساس بعبئه فقد قادتهم هذه الأوزار إلى الجحيم ، ونعلم أن نتيجة كل عمل هي الهدف منه ، فمن عمل صالحاً سيجد صلاح عمله ، ومن أساء فسيجد عمله السيء . إننا نرى الأمثلة العملية لذلك في حياتنا اليومية فهذان شقيقان يعملان بالزراعة ، وكل منهما يملك فدانين من الأرض مثلاً : الأول منهما يقوم مع طلوع الفجر ليعتني بأرضه ويحرثها ويحمل إليها السباخ ويعتني بمواقيت الري ويسعى إلى يوم الحصاد بجد واهتمام . والاخر يسهر الليل أمام شاشة التليفزيون ، ولا يقوم من النوم إلا في منتصف النهار ، ولا يخدم أرضه إلا بأقل القليل من الجهد . ثم يأتي يوم الحصاد فينال الأول ناتج تعبه من محصول وفير ، وينال الآخر محصولاً قليلاً بالإضافة إلى الحسرة التي يتجرعها بسبب إهماله وكسله . إذن فالعاقل هو من يدرس ما تعطيه حركته في الحياة . ويختار نوعية الحركة في الحياة بما يضمن له سعادة الدنيا والآخرة ، واطمئنان النفس في الدنيا والآخرة . إن من ينام ولا يذهب إلى عمله هو إنسان يحب نفسه ، ومن قام في بكرة الفجر إلى عمله يحب نفسه أيضاً ، ولكنّ هناك فارقاً بين حب أحمق عقباه الندم ، وحب أعمق لمعنى الحياة وعقباه الجزاء الوافر . والحق سبحانه وتعالى يقول لنا : { وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ … } .