Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 48-48)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي أن الحق سبحانه لم يعط الرسل قدرته ليفعلوا ما شاءوا ، ولكنهم فقط مبلّغون عن الله ، فلا يطلبن منهم أحد آيات لأنهم لا يستطيعون أن يأتوا بالآيات ، وكل رسول يعلم أنه من البشر ، وهو يستقبل عن الله فقط ، ولذلك فلنأخذ الرسل على أنهم مبشرون ومنذرون { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } . ونعرف أن البشارة هي الإخبار بما يسر قبل أن يقع . والسبب في البشارة هو تهيئة السامع لها ليبادر إلى ما يجعل البشارة واقعاً بأن يمتثل إلى المنهج القادم من الإله الخالق . ونعرف أن الإنذار هو الإخبار بما يسوء قبل أن يقع ليحترز السامع أن يقع في المحاذير التي حرمها الله . والبشارة - كما نعلم - تلهب في الراغب في الفعل والمحب له أن يفعل العمل الطيب ، والإنذار يحذر ويخوف من يرغب في العمل السيىء ليزدجر ويرتدع . إذن فمهمة الرسل هي البشارة والإنذار ، فلا تخرجوا بهم أيها الناس إلى مرتبة أخرى أو منزلة ليست لهم فتطلبوا منهم آيات أو أشياء لأن الآيات والأشياء كلها من تصريف الحق تبارك وتعالى ، ومن سوء الأدب أن نُخطّئ الله في الآيات التي أرسلها مع الرسل ونطلب آيات أخرى . إنكم بهذا تستدركون على الله . ويبيّن الحق لنا حدود مهمة الرسل فيقول : { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } [ الأنعام : 48 ] . هذا هو عمل الرسل ، فماذا عن عمل الذين يستمعون للرسل ؟ إن الحق يقول : { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ الأنعام : 48 ] . فالمطلوب - إذن - من الذين يستمعون إلى الرسل أن يقبلوا على اختيار الإيمان ، وأن يستمعوا إلى جوهر المنهج وأن يطبقوه . فمن آمن منهم وأصلح فلا خوف عليه لأنه قد ضمن الفوز العظيم ، ولا يصيبه أو يناله حزن ، لأن ناتج عمله كله يلقاه في كتابه يوم القيامة . والإيمان هو اطمئنان القلب إلى قضية عقدية لا تطفو إلى الذهن لتناقش من جديد . ولذلك نسمي الإيمان عقيدة ، أي شيئاً انعقد عقداً لا ينحل أبداً . إنّ على المؤمن بربه أن يستحضر الأدلة والآيات التي تجعل إيمانه بربه إيماناً قوياً معقوداً وهذا عمل القلب . ويعرف المؤمن أن عمل القلب لا يكفي كتعبير عن الإيمان لأن الكائن الحي ليس قلباً فقط ، ولكنه قلب وجوارح وأجهزة متعددة ، وكل ما في الكائن الحي المؤمن يجب أن ينقاد إلى منهج ربه ، فلا بد من التعبير عن الإيمان بأن يصلح الإنسان كل عمل فيؤديه بجوارحه أداء صحيحا سليما . إنني أقول ذلك حتى يسمع الذي يقول : إن قلبي مؤمن وسليم . لا ، فليست المسألة في الإيمان هكذا ، صحيح أنك آمنت بقلبك ولكن لماذا عطلت كل جوارحك عن أداء مطلوب الإيمان ؟ لماذا لا تعطي عقلك فرصة ليتدبر ويفكر ويخطط ويتذكر ، لماذا لا تعطي العين فرصة لتعتبر وتستفيد من معطيات ما ترى ؟ وكذلك اليد ، واللسان ، والأذن ، والقدم ، وكل الجوارح . والإصلاح هو عمل الجوارح ، فيفكر الإنسان بعقله في الفكرة التي تنفع الناس ، ويسمع القول فيتبع أحسنه ، ويصلح بيديه كل ما يقوم به من أعمال . ويعلم المؤمن أنه حين أقبل على الكون وجده محكماً غاية الإحكام ، ويرى الإنسان الأشياء التي لا دخل له فيها في هذا الكون وهي على أعلى درجات الصلاحية الراقية ، فالمطر ينزل في مواسمه ، والرياح تهب في مواسمها ومساراتها ، وحركة الشمس تنتظم مع حركة الأرض ، وكل عمل في النواميس العليا هو على الصلاح المطلق . إن الفساد يأتي مما للإنسان دخل فيه ، فالهواء يفسد من بناء المنازل المتقاربة ، وعدم وجود مساحات من الخضرة الكافية ، ويفسد الهواء أيضاً بالآلات التي تعمل ولها من السموم ما تخرجه وتدفعه من أثر عملية احتراق الوقود . وعندما صنع الإنسان الآلات نظر إلى هواه في الراحة ، وغابت عنه أشياء كان يجب أن يحتاط لها ، ومثال ذلك : " عادم " السيارات الذي يزيد من تلوث البيئة ، ورغم اكتشاف بعض من الوسائل التي يمكن أن تمنع هذا التلوث . إلا أن البعض يتراخى في الأخذ بها . ونحن حين نأخذ بقمة الحضارة ونركب السيارات فلماذا ننسى القاعدة التي تقوم عليها الحضارة وهي الدراسة العلمية الدقيقة لنصنع الآلات ونأخذ من الآلات ما يفيد الناس ، فنعمل على الأخذ بأسباب تنقية البيئة من التلوث ونمنع الأذى عن حياة الناس . فالعادم الذي من صناعتنا - مثل عادم السيارات والآلات - يفسد علينا الهواء فتفسد الرئة في الإنسان . إن علينا أن نعرف أن من مسئولية الإيمان أن ننظر إلى الشيء الذي نصنعه وكمية الضر الناتجة عنه ، وكل إنسان يحيا في مدينة مزدحمة إنما يضار بآثار عادم السيارات على الرغم من أنه ليس في مقدور كل إنسان أن يشتري سيارة ليركبها ، فكيف يرتضي راكب السيارة لنفسه ألا يصلح من تلك الآلة التي تسهل له حياته ويصيب بعادمها الضر لنفسه ولغيره من الناس ؟ لذلك فعلى المسلم ألا يأخذ الحضارة من مظهرها وشكلها بل على المجتمع المسلم أن يعمل على الأخذ بأسباب الحضارة من قواعدها الأصلية ، وأن يدرس كيفية تجنب الأضرار حتى لا نقع في دائرة الأخسرين أعمالاً ، هؤلاء الذين قال فيهم الحق سبحانه : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103 - 104 ] . ولنا أن نأخذ المثل الأعلى دائماً من الكون الذي خلقه الله لنصونه ، إن عادم وأثر وناتج أي شيء مخلوق لله يفيد الإنسان ويفيد الكون حتى فضلات الحيوان يُنتفع بها في تسميد الأرض وزيادة خصوبتها . وهكذا نعرف معنى : { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } . فالإيمان عمل القلب ، والإصلاح عمل الجوارح ، ولذلك يجب أن نصلح في الكون بما يزيد من صلاحه . ولنعلم أن الكون لم يكن ناقصاً وأننا بعملنا نستكمل ما فيه من نقص ، ليس الأمر كذلك ، ولكننا أردنا أن نترف في الحياة ، وما دمنا نريد الترف فلنزد من عمل العقل المخلوق لله في المواد والعناصر التي أمامنا وهي المخلوقة لله . وأن نتفاعل معها بالطاقات والجوارح المخلوقة لله ، ما دمنا نريد أن نتنعم نعيماً فوق ضروريات الحياة . ومثال ذلك أننا قديماً وفي أوائل عهد البشرية بالحياة ، كان الإنسان عندما يعاني من العطش ، يشرب من النهر ، وبعد ذلك وجد الإنسان أنه لا يسعد بالارتواء عندما يمد يده ليأخذ غرفة من ماء النهر ، فصنع إناءً من فخار ليشرب منه الماء ، ثم صنع إناءً من الصاج ، ثم صنع إناء من البلور ، فهل هذه الأشياء أثرت في ضرورة الحياة أو هي ترف الحياة ؟ إنها من ترف الحياة . فإن أردت أن تترف حياتك فلتُعمل عقلك المخلوق لله في العناصر المخلوقة لله ، بالطاقة والجوارح المخلوقة لله ، وبذلك يهبك الله من الخواطر ما تستكشف به آيات العلم في الكون . ومثال ذلك : أن أهل الريف قديماً كانوا يعتمدون على نسائهم ليملأن الجرار من الآبار أو الترع ثم تقوم سيدة البيت بترويق المياه . وعندما ارتقينا قليلاً ، كان هناك من الرجال من يعمل في مهنة السقاية ، ويمر بالقرب المملوءة بالماء على البيوت . وعندما قام أهل العلم بالاستنباط والاعتبار اكتشفوا قانون الاستطراق ، فرفعوا المياه إلى خزانٍ عالٍ ، وامتدت من الخزان " مواسير " وأنابيب مختلفة الأقطار والأحجام ، وصار الماء موجوداً في كل منزل ، هذا ما فعله الناس الذين استخدموا العقول المخلوقة لله . وكان الناس من قبل ذلك يكتفون بالضروري من كميات المياه ، فالأسرة كانت تكتفي بملء قربة أو قربتين من الماء ، ولكن بعد أن صارت المياه في كل منزل ، أساء الكثير من الناس استخدام المياه ، فأهدروا كميات تزيد عن حاجتهم ، وتمثل ضغطاً على " مواسير " الصرف الصحي ، فتنفجر ويشكو الناس من طفح المجاري . إن على المسلم أن يرعى حق الله في استخدامه لكل شيء ، فالماء الذي يهدره الإنسان قد يحتاج إليه إنسان آخر ، وعندما نتوقف عن إهداره ، نمنع الضرر عن أنفسنا وعن غيرنا من طفح " مواسير " الصرف الصحي . وليحسب كل منا - على سبيل المثال - كم يستهلك من مياه في أثناء الوضوء . إن الإنسان منا يفتح الصنبور ويغسل يديه ثلاثاً ويتمضمض ثلاثاً ، ويستنشق ثلاثاً ، ويغسل وجهه ثلاثاً ، ويغسل ذراعيه ثلاثاً ، ويمسح برأسه ، ويغسل أقدامه . ويترك الإنسان الصنبور مفتوحاً طَوال تلك المدة فيهدر كميات من المياه ، ولو فكر في حسن استخدام المياه التي تنزل من الصنبور لما اشتكى غيره من قلة المياه . فلماذا لا يفكر المسلم في أن يأخذ قدراً من المياه يكفي الوضوء ويحسن استخدام الماء ؟ وكان الإنسان يتوضأ قديماً من إناء به نصف لتر من الماء ، فلماذا لا نحسن استخدام ما استخلفنا الله فيه ؟ على الإنسان منا أن يعلم أن الإيمان كما يقتضي أو يوجب ويفرض الصلاة ليصلح الإنسان من نفسه ، يقتضي - أيضاً - إصلاح السلوك فلا نبذر ونهدر فيما نملك من إمكانات ، وأن ندرس كيفية الارتقاء بالصلاح ، فلا نتخلص من متاعب شيء لنقع في متاعب ناتجة من سوء تصرفنا في الشيء السابق ، بل علينا أن ندرس كل أمر دراسة محكمة حتى لا يدخل الإنسان منا في مناقضة قوله الحق : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] . أي عليك أن تعرف أيها المسلم أنك مسئول عن السمع والبصر والقلب وستسأل عن ذلك يوم القيامة ، لذلك لا يصح أن تتوانى عن الأخذ بأحسن العلم ليحسن قولك وفعلك . وبذلك لا يكون هناك خوف عليك في الدنيا أو الآخرة لأنك آمنت وأصلحت ، وأيضاً لا حزن يمسك في الدنيا ولا في الآخرة : { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } . إنك بذلك تصون نفسك في الآخرة وفي الدنيا أيضاً لأنك تسير في الحياة بإيمان وتصلح في الدنيا متبعاً قوانين الله . وإن رأيت أيها المسلم متعبة في الكون فاعلم أن حكماً من أحكام الله قد عطِّل ، إن رأيت فقيراً جائعاً أو عرياناً فاعلم أن حقاً من حقوقه قد أكله أو جحده غيره لأن الذي خلق الكون ، خلق ما يعطيه الغني من فائض عنه للفقير ليسد عوزه ، لكن الغني قبض يده عن حق الله ، وأيضاً جاء قوم يتسولون بغير حاجة للتسول ، والفساد هنا إنما يأتي من ناحيتين : ناحية إنسان استمرأ أن يبني جسمه من عرق غيره ، أو من إنسان آخر غني لا يؤدي حق الله في ماله ، بذلك يعاني المجتمع من المتاعب . ويقول الحق من بعد ذلك : { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا … } .