Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 55-55)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وساعة تسمع قوله الحق : { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } فاعلم أن هناك تفصيلاً سيلي ذلك يشابه تفصيلاً سبق . والآيات السابقة قد فصّل الله فيها أموراً كثيرة فصّل لنا حجة وصحة وحدانية الله سبحانه ، وفصّل لنا صحة النبوة ، وفصّل لنا صحة القضاء والقدر . ومن بعد ذلك كله يعطينا الحق المقاييس التي تقرر الحقائق التي ينكرها أهل الباطل فيفصّل لنا في العقائد ، ويفصّل لنا في حركة الحياة والحركة العبادية التي نؤدي بها تكاليف الإيمان . وكما فصل لنا سبحانه صحة الوحدانية وصحة النبوة ، وصحة القضاء والقدر ، يفصل لنا الآيات التي تقرر الحقائق : { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } [ الأنعام : 55 ] . ونقرأ " سبيل " في بعض القراءات مرفوعة ، أي أن سبيل المجرمين يظهر ويستبين ويتضح ، وتقرأ في بعض القراءات منصوبة ، أي أنك يا محمد تستبين أنت السبيلَ الذي سيسلكه المجرمون . وكلمة " سبيل " وردت في القرآن مؤنثة مثل قوله الحق : { ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } [ الأعراف : 45 ] . ووردت أيضاً في بعض الآيات مذكرة : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } [ الأعراف : 146 ] . ويريد الحق بذلك أن يعلمنا أن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين قد استقبلته قبائل من العرب ، بعضها لها السيادة كقبيلة قريش لأنها تسكن مكة ، والكعبة في مكة وكل القبائل تحج إلى الكعبة . ويريد أن ينهي سبحانه هذه السيادة ، ولذلك جاء بالقرآن ببعض الألفاظ التي تنطقها القبائل الأخرى ، ومثال ذلك كلمة " سبيل " التي تؤنث في لغة " الحجاز " ، وجاء به مرة كمذكر كما تنطقها " تميم " . ولم يأت الحق بكل ألفاظ القرآن مطابقة لأسلوب قريش ، حتى لا تظن قريش أن سيادتها التي كانت لها في الجاهلية قد انسحبت إلى الإسلام ، فقد جاء القرآن للجميع . { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } . أي أن الله سيعامل كل إنسان على مقتضى ما عنده من اليقين الإيماني . والمعاندون لهم المعاملة التي تناسبهم ، وكذلك المصرّ على الذنوب ، والمقدم على المعاصي ، وهي تختلف عن معاملة المؤمن . ولكنها في إطار العدل الإلهي . إذن فلكلٍ المعاملة التي تناسب موقعه من الإيمان . والمقابلون للمجرمين هم المؤمنون . فإذا استبنت سبيلَ المجرمين ، أو إذا استبان لك سبيلُ المجرمين ألا تعرف المقابل وهو سبيل المؤمنين ؟ . وحين يذكر الحق شيئاً مقابلاً بشيء فهو يأتي بحكم شيء ثم يدع الحكم الآخر لفهم السامع ، فإذا كان الحق بين سبيل المجرمين لعناً وطرداً ، فسبيل المؤمنين يختلف عن ذلك ، إنه الرحمة والتكريم . ومثال على ذلك - ولله المثل الأعلى - أنت تقول للتلميذ الذي يواظب على دروسه ويذاكر في وقت فراغه من المدرسة : إن سبيلك هو النجاح . ومن يسمع قولك هذا يعرف أن الذي لا يواظب على دروسه ولا يذاكر في وقت فراغه من المدرسة تكون عاقبة أمره الرسوب والخيبة . وهكذا يترك الحق لفطنة السامع لكلامه أن يأتي بالمقابل ويعرف أحكام هذا المقابل : فإذا كان الحق قد قال : { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ } فهذه إشارة أيضاً لسبيل المؤمنين من رحمة وتكريم . ونعلم أن القرآن قد جاء على أبلغ الأساليب . وهي أساليب تقتضي أن تعرف معطى كل لفظ وكل حرف حتى نفهم مقتضيات المقامات والحالات التي تطابق كل مقام . ومثال على ذلك قول الحق سبحانه : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ } [ آل عمران : 13 ] . لقد ترك الحق لفطنة السامع لهذه الآية أن يعرف أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان ، وأن الفئة التي تقاتل في سبيل الله هي الفئة المؤمنة ، وترك لنا الحق أن المشهد العظيم يعرفون قدر كذبهم في الدنيا ، فلا ملك لأحد إلا الله ، ولا معبود سواه ، فينطقون بما يشهدون : " والله ربنا ما كنا مشركين " . ولقائل أن يقول : ولكن هناك في موضع آخر من القرآن نجد أن الله يقول الحق مثل هؤلاء : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * هَـٰذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 34 - 36 ] . إنهم في يوم الهول الأكبر يعرفون أنهم كذبوا في الدنيا ، وهم لا ينطقون بأي قول ينفعهم ، ولا يأذن لهم الحق بأن يقدموا أعذاراً أو اعتذاراً . ونقول لمن يظن أن المكذبين لا ينطقون : إنهم بالفعل لا ينطقون قولاً يغيثهم من العذاب الذي ينتظرهم ، وهم يقعون في الدهشة البالغة والحيرة ، بل إن بعضاً من هؤلاء المكذبين بالله واليوم الآخر يكون قد صنع شيئاً استفادت به البشرية أو تطورت به حياة الناس ، فيظن أن ذلك العمل سوف ينجيه ، إن هؤلاء قد يأخذون بالفعل حظهم وثوابهم من الناس الذين عملوا من أجلهم ومن تكريم البشرية لهم ، ولكنهم يتلقون العذاب في اليوم الآخر لأنهم أشركوا بالله . ولم يكن الحق في بالهم لحظة أن قدموا ما قدموا من اختراعات ، ولذلك يقول الحق : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . وهكذا نعلم أن أعمال الكافرين أو المشركين يجازيهم الحق سبحانه عليها بعدله في الدنيا بالمال أو الشهرة ، ولكنها أعمال لا تفيد في الآخرة . وأعمالهم كمثل البريق اللامع الذي يحدث نتيجة سقوط أشعة الشمس على أرض فسيحة من الصحراء ، فيظنه العطشان ماء ، وما إن يقترب منه حتى يجده غير نافع له ، كذلك أعمال الكافرين أو المشركين يجدونها لا تساوي شيئاً يوم القيامة . والمشرك من هؤلاء يعرف حقيقة شركه يوم القيامة . ولا يجد إلا الواحد الأحد القهار أمامه ، لذلك يقول كل واحد منهم : { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] . إن المشرك من هؤلاء ينكر شركه . وهذا الإنكار لون من الكذب . مشخص يميزه عن الجنس الآخر إما بارتفاع ترق وإما بنزول تدن . وقمة أجناس الوجود هو الإنسان الذي كرمه الحق بالحس والحركة والتفكير . ويلي الإنسان مرتبة جنسُ الحيوان الذي له الحس والحركة دون التفكير . ويلي جنس الحيوان مرتبة النبات ، وهو الذي له النمو دون الحركة والتفكير . وعندما تُسلب من النبات غريزة النمو يصير جماداً . إذن ترتيب الأجناس من الأعلى إلى الأدنى هو كالتالي : الإنسان ثم الحيوان ، ثم النبات ثم الجماد . وكل جنس من هذه الأجناس له خصائصه ، ويأخذ الجنس الأعلى خاصية زائدة . وأدنى الأجناس هو الجماد الذي يخدم النبات ، والنبات يخدم الحيوان والإنسان . والحيوان يخدم الإنسان ، وهكذا نجد أن أعلى الأجناس هو الإنسان بينما أدناها هو الجماد . فكيف يأخذ أعلى الأجناس وهو الإنسان رباً له من أدنى الأجناس وهو الجماد ؟ إن تحكيم الفطرة في ذلك الأمر ينتهي إلى حكم واضح هو سخف هذا اللون من التفكير . وفطرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل البعثة هدته إلى رفض ذلك ، وجاءت البعثة لتجعل من إلف عادة رسول الله وفطرته أمر عبادة للرسول صلى الله عليه وسلم ولكل من اتبعه . { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ } [ الأنعام : 56 ] . إذن فمسألة عبادة المشركين للأصنام لا تنبع من هدى ولكنها خضوع إلى هوى لأن الهدى هو الطريق الموصل للغاية المعتبرة ، والهوى هو خواطر النفس التي تحقق شهوة . ولهذا نرى بعضاً من الذين يريدون إضلال البشر قد خرجوا بمذاهب ليست من الدين في شيء ، مثل القاديانية والبهائية والبابية ، وغير ذلك من تلك المذاهب ، هؤلاء الناس يدعون التدين ، وعلى الرغم من ذلك يقدمون التنازلات في أمور تمس الأخلاق ، ورأينا مثل ذلك في بعض من القضايا التي نظرتها المحاكم أخيراً ، كالذي يدعي التدين ويقبِّل كل امرأة ، ولا ينظم العلاقة بين الناس بقواعد الدين ، ولكن يطلق الغرائز حسب الهوى . وذهب إليه أناس لهم حظ كبير ومرتبة من التعليم ، وقد أوهموا أنفسهم بخديعة كبرى ، وظنوا أنهم أخذوا بالتدين ، بينما هم يأخذون حظ الهوى المناقض للدين . { لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } [ الأنعام : 56 ] . أي أنك يا رسول الله عليك بإبلاغ هؤلاء المشركين أنك لا تتبع أهواءهم التي تقود إلى الضلالة لأن من يتبع مثل تلك الأهواء ينحرف عن الحق ، ولا يكون من المهتدين . ومن بعد ذلك يقول الحق : { قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي … } .