Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 54-54)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لقد كان طلب الطرد لهؤلاء المستضعفين فيه إهاجة لكرامتهم ولمنزلتهم ولأنهم دون الأثرياء ووجهاء القوم ، فيطمئنهم الحق بالسلام منه في الدنيا فيأمر رسوله : { فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } . ونفهم من السلام أنه الخلو من الآفات النفسية والآفات الجسدية ، فكأن الحق سبحانه أراد ان يعوضهم بالسلام القادم من الله { فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } ونرى كلمة : " الرحمة " تتردد كثيراً في القرآن الكريم ، فهاهوذا الحق يقول في موقع آخر : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] . ما الفارق إذن بين الشفاء والرحمة ؟ الرحمة : لا يبتلي الله الإنسان بمرض ، إنها الوقاية ، أما الشفاء فهو أن يزيل الحق أي مرض أصاب الإنسان . وهذا هو البرء بعد العلاج . إذن ففي القرآن شفاء ورحمة ، أي وقاية وعلاج . والذي يلتزم بمنهج القرآن لا تصيبه الداءات الاجتماعية والنفسية أبداً ، والذي تغفل نفسه وتشرد منه يصاب بالداء الاجتماعي والنفسي ، فإن عاد إلى منهج القرآن فهو يُشفى من أي داء . وحين يأمر سبحانه رسوله أن يقول لهؤلاء الذين أهيجوا بطلب طردهم على الرغم من إيمانهم برسالة رسول الله : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } فهذا يعني أن ما حدث لهم في هذا الأمر هو آخر ابتلاءاتهم ، وقد أخذوا بهذه الإهاجة سلاما دائما ، وما دام الله قد كتب على نفسه الرحمة فكأنه وقاهم مما يصيب به غيرهم . وإذا سمعت قول الله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } فالكتابة تدل على التسجيل ، ولا أحد يوجب على الله شيئاً لأنه خالق الكون ، وله في الكون طلاقة المشيئة ، فلا أحد يكتب عليه شيئاً ليلزمه به ، ولكنه سبحانه هو الذي أوجب على نفسه الرحمة . ونأخذ كلمة " نفسه " في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، ذلك أن النفس عند البشر هي الجسم والدم والحركة والحياة ، ولكن ماذا عندما تأتي كلمة " النفس " منسوبة إلى الله ؟ المراد - إذن - هو الذات الإلهية . وإن لم تأخذ مراد الكلمة بهذا المعنى فأنت تدخل إلى مخالفات كثيرة وقانا الله وإياك شرورها . وأؤكد هذا المعنى ليستقر في ذهن كل مؤمن ، أن النفس بالنسبة للكائن الحي غيرها بالنسبة لله ، ولا بد أن نأخذ أي شيء منسوب إلى الله في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] لأن النفس بالنسبة للكائن الحي عبارة عن امتزاج الروح بالمادة ، والمادة مكونة من أبعاض . وإن لم تأخذ المراد من نفس الله على ضوء { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ، فأنت - والعياذ بالله - تنفي عن الحق " الأحدية " . ونعرف أن للحق سبحانه وتعالى " وصفين " يتحدان في المادة وفي الحروف : الأول هو " واحد " . والآخر هو " أحد " . والسطحيون في الفهم يظنون أن " واحداً " معناها " أحد " . ونقول : لا ، إن " واحداً " لها مدلول ، و " أحدًا " لها مدلول آخر . فعندما نقول : " إن الله واحد " أي لا يوجد فرد ثان من نوعه فليس له مثيل ولا شبيه ولا نظير . وعندما نقول : " إن الله أحد " أي أنه لا يتكون من أبعاض يحتاج بعضها إلى البعض الآخر لتكوين الكل ، لأن الشيء قد يكون واحداً وليس أحدًا . ولذلك نؤكد الفارق بين : " واحد " و " أحد " ، وحتى يعرفه كل مؤمن جيداً فهو - سبحانه - واحد لا يوجد فرد ثان يشاركه في وحدانيته ، فهو واحد لا شريك له ، وهو أحد جل وعلا أي ليس له أبعاض يحتاج بعضها إلى بعض . وسبق أن أوضحنا أن هناك شيئا اسمه : " كل " وشيئاً آخر اسمه " كلي " . والكل هو المكون من أجزاء ، كل جزء منها لا يؤدي الحقيقة ، وإنما لا يُؤدي الكل إلا بضميمة الأجزاء بعضها إلى بعض . ومثال ذلك الكرسي : إنه مكون من خشب ومسامير وغراء ، فلا يقال للخشب كرسي ، ولا يقال للمسامير كرسي ، ولا يقال للغراء كرسي . ولكن يقال للشيء المصنوع من كل هذه الأشياء على هيئة محددة : إنه كرسي . إذن فـ " الكل " له أجزاء تجتمع لتكوّنه . والكلّي يمكن أن تطلق على الإنسان ، ولكن في الجنس البشري هناك أفراد كثيرون له . وعلى ذلك فالحق سبحانه وتعالى ليس " كُلاًّ " أي لا أجزاء له لأنه أحد ، وليس " كلياً " لأنه لا شيء مثله فسبحانه وتعالى واحد أحد . ولهذا نفهم جميعاً أن كل شيء منسوب إلى الله ينبغي أن يكون في إطار : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . ونحن لا نفهم مراد كلمة " النفس " بالنسبة لله كما نفهمها بالنسبة للبشر لذلك فنفس الله ليست كنفس البشر لأن الله غني لا يحتاج إلى غيره ، وهو - سبحانه - ليس مكوناً من أجزاء ، فهو سبحانه له كل الكمال والجلال في وحدانيته وأحديته وفي سائر صفاته وأفعاله . وحين يقول سبحانه : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } . قد يتساءل إنسان : وما مدلول الرحمة ؟ وتأتي الإجابة في قوله الحق : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . والحق حينما أنزل منهجاً من السماء فالمنهج يضم نصوصاً للتجريم كنصوص عقاب الزاني أو اللص ، وغير ذلك ، ولا يمكن أن تأتي عقوبة إلا إذا جاءت بعد تجريم ، مثال ذلك الرشوة والنميمة وكل مخالفة للمنهج ، فلا عقاب إلا بجريمة ، ولا جريمة إلا بنص . والحق الذي خلق الخلق يعلم أن بعضا من خلقه يكون من ضعاف النفوس ، وقد تغلب إنساناً نفسُه فيرتكب ذنباً أو معصية ، والمثال على ذلك قول الحق : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ المائدة : 38 ] . هذا هو عقاب السارق والسارقة . وكذلك يقول الحق عن الزاني والزانية : { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 2 ] . ما معنى إنزال مثل هذه النصوص ؟ معنى إنزال هذه النصوص أن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن الإنسان قد يضعف في بعض مطلوبات الدين فيقع في معصية ، ولا بد أن يوجد عقاب عليها . واحترم الحق بذلك تكوين الإنسان عندما منحه الاختيار ، فوضع الثواب والعقاب . وكما وضع الحق النص على الجرائم وعقوبتها فهو سبحانه وتعالى قد فتح باب التوبة لخلقه ، حتى لا يكون الذي عصى الله مرة واحدة فاقداً للأمل ، حتى لا يشقى المجتمع بهؤلاء العصاة . وشرع الحق التوبة للخلق ليرحهم من شرور من ارتكبوا المعاصي ، وليرحم أيضاً أصحاب المعاصي ما داموا قد تابوا عنها . وقد يرحم الله بعض خلقه من المعاصي فيحفظهم منها . وهو الحق القائل : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } [ التوبة : 118 ] . سبحانه - إذن - يهدي إلى التوبة ويعفو ، وهو عظيم الرحمة بالعباد التوابين . ومن ظواهر رحمة الله سبحانه : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] . والسوء هو الأمر المنهي عنه من الله . هل هناك من يعمل السوء بجهالة ؟ . بعضنا يفهم الجهالة فهماً سطحياً على أساس أنها " عدم العلم " لا . إنَّ الذي لا يعلم هو الأمي الخالي الذهن ، والجهالة غير الجهل ، فالجهل هو أن يعلم الإنسان حكماً ضد الواقع ، كأن يكون مؤمناً بعقيدة تخالف الواقع . ومعالجة الجهل تقتضي أن ننزع منه هذه العقيدة التي هي ضد الواقع ثم نقنعه بالعقيدة المطابقة للواقع . والذي يسبب المتاعب للناس هم الجهلة لأن الجاهل يعتقد في قضية ويؤمن بها وهي تخالف الواقع . وعندما جاء العلماء عند هذا القول الحكيم : { مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَالَةٍ } . قالوا : إن الجهالة هي السفه والطيش ، والطيش يكون بعدم تدبر نتائج الفعل . والسفه ألا يقدِّر الإنسان قيمة ما يفوته من ثواب وما يلحقه من عقاب . وقد يكون الإنسان مؤمناً ، لكنه يرتكب السوء لأنه لم يستحضر الثواب والعقاب ويرتكب من السوء ما يحقق له شهوة عاجلة دون التمعن في نتائج ذلك مستقبلاً ، ولو استحضر الثواب والعقاب لما فعل ذلك السوء . ويمكن أن نفهم أيضاً الجهالة على أنها ارتكاب الأمر السيئ دون أن يبيت له الإنسان أو يخطط ، وذلك كأن يخطط إنسان السفر إلى باريس لتحصيل العلم ، وعندما وصل إلى هناك جاءت له امرأة في غرفته في الفندق وهي في كامل فتنتها وزينتها ، وألحت عليه لارتكاب الفحشاء ، فلم يقدر على نفسه . هذا فعل للسوء بجهالة لأنه لم يخطط لذلك السوء ، وهو يندم من بعد ذلك ، ولا يحكي عن ذلك الفعل بفخر أبداً . هناك فارق - إذن - بين هذا الإنسان وإنسان آخر بحث في عناوين بيوت اللذة في باريس قبل أن يسافر إليها ، إنه بذلك يخطط لفعل المنكر وارتكاب الفحشاء . ويصر على السوء ، ويتفاخر به ولا يندم على ما فعل هذا الصنف من البشر لا يغفر له الله إن استمر على هذا الحال حتى شارف الموت أو أدركه الموت ، ولذلك يقول الحق : { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـٰئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [ النساء : 17 ] . لأن الحق سبحانه إنما يقبل توبة من ارتكب الذنب في حالة الحماقة والطيش ، ويقبلون على التوبة فوراً ، هؤلاء يقبل الحق توبتهم ، أما الذين لا يندمون على فعل السوء فيقول الحق عنهم : { وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ ٱلآنَ وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 18 ] . إن الذين لا يُقبلون على التوبة من فور ارتكاب الذنب وينتظر الإنسان منهم مجيء الموت ليتوب قبله أي وهو في حالة الغرغرة - وهي تردد الروح في الحلق عند الموت - هؤلاء لا تقبل لهم توبة ، وكذلك الذين يموتون على الكفر - والعياذ بالله - وقد أعد الله لكليهما عذاباً أليماً . والحق سبحانه قد وضح لنا قبل ذلك فقال : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] . إذن فالتوبة يجب أن يتبعها إصلاح وصلاح ذلك أن الحسنات يذهبن السيئات ، والحق سبحانه غفور لا يعاقب على ذنب تاب عنه العبد ، ورحيم لأنه يثيب على الفعل الحسن ، بل إنه يثيب الإنسان الذي يكرر ندمه على فعل سيء ويكتب له عن ذلك حسنة . بل إنه - بسعة رحمته - يبدل سيئاته حسنات . ويقول الحق من بعد ذلك : { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ ٱلآيَاتِ … } .