Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 93-93)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ساعة يأتي الحق بأسلوب استفهامي فليس الهدف أن يستفهم . إنه - سبحانه - لا يريد ان يأتي الخبر من عنده ، وهو يقدر أن يقول : الذي يفتري ظالم ، لكنه هنا يأتي بالاستفهام الذي يؤكد أنه لا يوجد أظلم من الذي يفتري على الله كذباً ، ويعرض الله القضية على المؤمنين وكأنه يسأل ليعرض كل مؤمن القضية على ذهنه ويستنبط الجواب . إن الذي يفتري على زميله والمثيل له كذباً نُوقِع به العقاب ، فما بالك بمن يفتري على الله ؟ وحين تسمع أنت هذا الكلام : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } . وتستعرض الأمر فلا تجد أظلم منه ، وهكذا يستخرج الله الحكم من فَم المقابل . وكيف يفتري إنسان الكذب على الله ؟ كأن يبلغ الناس ويدَّعي ويقول : أنا نبي وهو ليس كذلك . هنا تكون الفرية على الله ، وإياك ان تظن أنه يكذب على الناس ، لا ، إنه يكذب على الله لأنه أبلغ أن الله قد بعثه وهو لم يبعثه . و " الافتراء " : كذب مُتعمَّد مقصود ، وينطبق ذلك على النبوات التي ادعيت من مثل مسيلمة الكذاب ، سجاح ، طليحة الأسدي ، الأسود العنسي كل هؤلاء ادعوا النبوة ، ومع ذلك لم يسألهم أحد عن المعجزة الدالة على نُبوّتهم لأن كل واحد منهم عندما أعلن نبوته جاء بما يُخفّف عن الناس أحكام الدين . فواحد قال : أنا أخفف الصلاة ، والزكاة لا داعي لها . لذلك تبعهم كل من أراد أن يتخفف من أوامر الدين ونواهيه ، موهما نفسه بأنه مُتدين ، دون أن يلتزم بالتزامات التدين ، وهذا هو السبب في أن أصحاب النبوات الكاذبة ، والادعاءات الباطلة يجدون لهم أنصاراً من المنافقين فالواحد من هؤلاء الأتباع قد يكون مثقفاً ثم يصدق نبياً دجالاً ، وتسأل التابع للدجال وتقول له : أسألت مدَّعي النبوة هذا ما معجزتك ؟ - وهذا أول شرط في النُبوَّة - ولم نجد أحداً سأل هذا السؤال قط ، لماذا ؟ لأن التديّن فطرة في النفس ، ولكن الذي يصعِّب التدين هو الالتزامات التي يفرضها التدين ، وعندما يرى التابع الضعيف النفس أن هناك من يُريحه من الالتزامات الدينية ، ويفهمه أنه على دين ، ويقلل الالتزامات عليه ، لذلك يتبعه ضعاف النفوس ، وتصبح المسألة فوضى . { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ } [ الأنعام : 93 ] . هناك من ادعى وقال : أنا نبي ، وقال : سأنزل مثل هذا القرآن ، فماذا قال هذا المدَّعي وهو " النضر بن الحارث " يقول - في أمة أذنها أذن بلاغية ، تتأثر بموسيقى اللفظ - : " والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا " ! ! ولماذا لم يأت بالمسألة من أولها ويقول : " والزارعات زرعا والحارثات حرثا " ثم يقول مَن ادعى أنه أوحي إليه : " والعاجنات عجنا والخابزات خبزا " ، وكان عليه أن يتبعها أيضاً : " والآكلات أكلا والهاضمات هضما " . وطبعاً كان هذا الكلام لوناً من هراء فارغ لأن الحق إنما أنزل كلامه موزونا جاذباً لمعانٍ لها قيمتها في الخبر ، ولذلك نزل القول الحق : { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } ، " وقد جاء واحد هو عبدالله بن سعد بن أي سرح القرشي وكان أخا لسيدنا عثمان من الرضاعة وكان كاتباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقعد في حضرة النبي . فنزلت الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 12 - 14 ] . وانبهر بالأطوار التي خلق فيها الحق الإنسان فقال : " تبارك الله أحسن الخالقين " . فقال له رسول الله : اكتبها فقد نزلت . واغْترّ الرجل وقال : إن كان محمدٌ صادقاً لقد أوحى إليّ كما أوحي إليه وإن كاذباً لقد قلت كما قال : فأهدر رسول الله دمه . وقال لصحابته : من رآه فليقتله . وفي عام الفتح جاء به عثمان رضي الله عنه ، وقال : يا رسول الله ، اعف عن عبدالله ، فسكت رسول الله . قال عثمان رضي الله عنه : اعف عنه . فسكت رسول الله . وكررها ثالثا : اعف عنه يا رسول الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . وكان لسيدنا عثمان منزلة خاصة عند رسول الله ، وأشار الرسول لسيدنا عثمان بن عفان ، فأخذ الرجل وانصرف ، فلما انصرف قال الرسول لصحابته : ألم أقل لكم من رآه فليقتله ؟ قال سيدنا عباد بن بشر : يا رسول الله لقد جعلتُ إليك بصري - أي وجَّهت عيني لك - لتشير عليّ بقتله ، فقال رسول الله لعباد بن بشر : " ما ينبغي لرسول أن تكون له خائنة الأعين " وأسلم ابن أبي سرح وحسن إسلامه " . ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ، ما هي عقوبات هؤلاء الذين يفترون على الله الكذب ، ويحاولون التغرير بالناس مدّعين أن الله أنزل عليهم وحياً ؟ يقول الحق سبحانه : { وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93 ] . وساعة تسمع " لو " هذه تعرف أنها شرطية ، وأنت تقول - مثلا - لو جاءني فلان لأكرمته . وحين نقرأ القرآن نجد كثيراً من " لو " ليس لها جواب ، لماذا ؟ لأن الإتيان بالجواب يعني حصر الجواب في دائرة منطوقة ، فإن أردت الجواب الذي لا يمكن للفظ أن يحصره فأنت تتركه للسامع مثلما تجد شاباً يلعب دور الفتوة في الحارة ويتعب سكانها ، ثم وقع في أيدي الشرطة وأخذوه ليعاقبوه ، فيقول واحد ممن رأوه من قبل وهو يرهق أهل الحارة : آه لو رأيتم الولد الفتوة وهو في يد الشرطة ! أين جواب الشرط هنا ؟ إنه لا يأتي لأنه يتسع لأمر عجيب يضيق الأسلوب عن أدائه . والحق سبحانه وتعالى يقول هنا : { وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ } لم يقل له : ماذا ترى ؟ لأنك سترى عجباً لا يؤديه اللفظ . و " الغمرات " هي الشدة التي لا يستطيع الإنسان منها فكاكاً ولا تخلصاً . ويتابع الحق : { وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ } فهل هم ملائكة الموت الذين يقبضون الروح ؟ أو الكلام في ملائكة العذاب ؟ إنها تشمل النوعين : ملائكة قبض الروح وملائكة العذاب . { وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ } كأن ملائكة قبض الروح تقول لهم : إن كنتم متأبّين على الله في كثير من الأحكام لقد تأبّيتم على الله إيماناً ، وتأبّيتم على الله أحكاماً ، وتأبّيتم على الله في تصديق الرسول ، فهاهو ذا الحق قد أمرنا أن نقبض أرواحكم ، فهل أنتم قادرون على التمرد على مرادات الحق ؟ إن كنتم كذلك فليظهر كل منكم مهارته في التأبّي على قبض روحه ، أو أن الملائكة يبالغون في النكاية بهم كأن نقول لواحد : اخنق نفسك وأخرج روحك بيديك أو : أخرجوا أنفسكم من العذاب الذي يحيق بكم . " وعذاب الهون " هو العذاب المؤلم وفيه ذلة . وأساليب العذاب في القرآن متعددة ، فيقول مرة : " من العذاب المهين " أو وأعد لهم " عذاباً مهيناً " أو ولهم " عذاب أليم " فمرة يكون العذاب مؤلماً لكن لا ذلة فيه ، ومرة يكون العذاب مؤلماً وفيه ذلة . وكما أن النعمة فيها تعظيم فالنقمة فيها ذلة . وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى ، فالله سبحانه منزّه عن أي تشبيه - : قد نجد حاكماً يعتقل إنساناً ويأمر بأن يجلس المعتقل في قصر فخم له حديقة ، لكن حين يأتيه الطعام ، يقول له الحارس : خذ اتسمم ، وفي ذلك إهانة كبيرة . ولماذا يذيقهم الحق العذاب المهين ؟ تأتي الإجابة من الله : { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } . كأن يقول واحد : أوحي إلي ولم يوح إليه شيء . وهم أيضاً يستكبرون على الآيات التي يؤمن بها العقل الطبيعي ، ويقول الحق : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] . ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ … } .