Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 13-13)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والهبوط يستدعي الانتقال من منزلة عالية إلى منزلة أقل ، وهذا ما جعل العلماء يقولون إن الجنة التي وصفها الله بأنها عالية هي في السماء ، ونقول : لا ، فالهبوط لا يستدعي أن يكون هبوطاً مكانيّاً ، بل قد يكون هبوط مكانة ، وهناك فرق بين هبوط المكان ، وهبوط المكانة ، وقد قال الحق لنوح عليه السلام : { قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ … } [ هود : 48 ] . أي اهبط من السفينة ، إذن مادة الهبوط لا تفيد النزول من مكان أعلى إلى مكان أدنى ، إنما نقول من مكان أو من مكانة . { قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا } . وهذا تنزيل من المكانة لأنه لم يعد أهلاً لأن يكون في محضر الملائكة فقد كان في محضر الملائكة لأنه ألزم نفسه بالطاعة ، وهو مخلوق على أن يكون مختاراً أن يطيع أو أن يعصي ، فلما تخلت عنه هذه الصفة لم يعد أهلاً لأن يكون في هذا المقام ، وذلك أن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . { قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ … } [ الأعراف : 13 ] . أي ما ينبغي لك أن تتكبر فيها . إن امتناعك عن أمر من المعبود وقد وجهه لك وأنت العابد هو لون من الكبرياء على الآمر ، والملائكة جماعة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فما دامت أنت أهل استكبار واستعلاء على هذه المكانة فلست أهلاً لها ، فكأن العمل هو الذي أهَّله أن يكون في العلو ، فلما زايله وفارقه كان أهلاً لأن يكون في الدنو ، وهكذا لم يكن الأمر متعلقاً بالذاتية ، وفي هذا هبوط لقيمة كلامه في أنه من نار وآدم من طين لأن المقياس الذي توزن به الأمور هو مقياس أداء العمل ، ومن حكمة الحق أن الجن يأخذ صورة القدرة على أشياء لا يقدر عليها الإنس ، مثل السرعة ، واختراق الحواجز ، والتغلب على بعض الأسباب ، فقد ينفذ الجن من الجدار أو من الجسم ، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم . " وهو في ذلك مثل الميكروب ، لأنه هذه طبيعة النار ، وهي المادة التي خُلق منها . وهي تتعدى الحواجز . والجن قد بلغ من اللطف والشفافية أنه يقدر على أن ينفذ من أي شيء ، لكن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يوضح للجن : لا تعتقد أن عنصريتك هي التي أعطتك هذا التميز ، وإنما هي إرادة المُعَنْصر ، بدليل أنه جعلك أدنى من مكانة الإنسان ، إنه - سبحانه - يجعل إنسياً مثل سيدنا سليمان مخدوماً لك أيها الجنى ، وإنه يسخرك ويجعلك تخدمه . وأنه في مجلس سليمان ، جعل الذي عنده علم من الكتاب ، يأتي بقوة أعلى من قوة " عفريت " من الجن . فالحق هو القائل : { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن ٱلْجِنِّ … } [ النمل : 39 ] . وهذا يدل على أن هناك أذكياء وأغبياء في عالم الجن أيضاً . وجاء الذي عنده علم من الكتاب فتسامى فوق عفريت الجن في الزمن ، فقد قال هذا العفريت : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ … } [ النمل : 39 ] . والمقام هو الفترة الزمنية التي قد يقعدها سليمان في مجلسه ، فماذا قال الذي عنده علم من الكتاب - وهو إنسان - ؟ { قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ ٱلْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ … } [ النمل : 40 ] . كأنه سيأتي بعرش بلقيس قبل أن ينتهي سليمان من ردّ طرفه الذي أرسله ليبصر به شيئاً ، إن سليمان رأى العرش بين يديه ، ولذلك نجد عبارة القرآن معبرة : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ … } [ النمل : 40 ] . كأن المسألة لا تتحمل . بل تم تنفيذها فوراً . إذن فالحق يوضح للمخلوقين من العناصر : إياكم أن تفهموا أن تميزكم بعناصركم ، إنني أقدر بطلاقة قدرتي أن أجعل الأدنى يتحكم في الأعلى لأنها إرادة من عَنْصَرَ العناصر . { قَالَ فَٱهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّاغِرِينَ } [ الأعراف : 13 ] . وكلمة { فَٱهْبِطْ } تشير وتدل على أن الهبوط أمر معنوي ، أي أنك لست أهلاً لهذه المنزلة ولا لتلك المكانة . هذا ما تدل عليه كلمة { فَٱهْبِطْ } ، ثم جاء الأمر بعد ذلك بالخروج من المكان . والصَّغَار هو الذل والهوان لأنه قَابَل الأمر باستكبار ، فلابد أن يجازى بالصَّغار . وبذلك يكون قد عومل بضد مقصده ، والمعاملة بضد المقصد لون من التأديب والتهذيب والتعليم مثلما يقرر الشرع أن الذي يقتل قتيلاً يحرم من ميراثه ، لأنه قد قتله ليجعل الإرث منه ، ولذلك شاء الله أن يحرمه من الميراث فبارتكابه القتل صار محجوباً عن الميراث . ويقول الحق بعد ذلك : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى … } .