Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 160-160)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وحين يقول الحق " قطعناهم " فهذه عودة لقوم موسى ، ونعرف أن القرآن لا يخصص كأي كتاب فصلاً لموسى وآخر لعيسى وثالثاً لمحمد ، لا ، بل يجعل من المنهج الإِيماني عجينة واحدة في الدعوة ، فيأتي بقضية عيسى ، ثم يدخل في الدعوة قضية موسى وغيره وهكذا ، ثم يرجع إلى القضية الأصلية كي يستغل انفعالات النفس بعد أي قصة من القصص . وهنا يعود الحق سبحانه لقوم موسى مرة أخرى . فبعد أن أنصفهم وبيّن أن فيهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون . يقول : { وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } . والمقصود هنا بنو إسرائيل ، ومعنى " قطعت الشيء " أي الشيء كان له تمام وجودي مع بعضه ، ثم قطعته وفصلت بعضه عن بعض ، وجعلته قطعاً وأجزاء . فهم كلهم بنو إسرائيل ، ولكن الحق يوضح أنه قطعهم وجعلهم " أسباطاً " ، و " السبط " هو ولد الولد ، وهم هنا أولاد سيدنا يعقوب وكانوا اثني عشر ولداً ، وحكت سورة يوسف وقالت : { يٰأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] . وحين تعد وتحصي ستجد أحد عشر كوكباً مرئية ، وتضم إليها الشمس والقمر والرائي ، فيصير العدد أربعة عشر واترك الشمس والقمر لأنهما يرمزان إلى يعقوب وزوجه ، وخذ الأحد عشر كوكباً ، وأضف الرائي وهو يوسف فيكون العدد اثنى عشر . وهؤلاء هم الاثنا عشر سبطاً ، فقد أنجب سيدنا يعقوب اثنى عشر ابناً من أمهات مختلفة ، وعرفنا من قبل أن الأمهات حين تتعدد فالميول الأهوائية بين الأبناء قد تتعاند . ولذلك تنبأ سيدنا يعقوب وقال لسيدنا يوسف : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً … } [ يوسف : 5 ] . هذا أول دليل على أنهم مختلفون ، وهو سبب من أسباب وحيثية التقطيع : { وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً } . وفي سورة يوسف نقرأ : { هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً … } [ يوسف : 100 ] . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً … } [ الأعراف : 160 ] . إنهم لا يريدون حتى مجرد الاشتراك في الماء تحسباً للاختلاف فيما بينهم ، فجعل الحق لكل سبط منهم عيناً يشرب منها ليعالج ما فيهم من داءات الغيرة والحقد على بعضهم البعض لأن الحق قال عنهم : { وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } . وهنا وقفة لغوية فقط ، والأسباط في أولاد يعقوب وإسحاق يقابلون القبائل في أولاد إسماعيل ، وأولاد إسماعيل " العرب " يسمونهم قبائل ، وهؤلاء يسمونهم " أسباطاً " ، ونعرف أن لفظ " اثنتي " يدل على أنهم إناث ، و " عشرة " أيضاً إناث ، لأننا نقول : " جاءني رجلان اثنان " و " امرأتان اثنتان " أي اثنان للذكور ، واثنتان للإِناث ، وكلمة " اثنتي عشرة " عدد مركب وتمييزه يكون دائماً مفرداً ، ولذلك يقول الحق : { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } . إذن " اثنتا عشرة " يدل على أنه مؤنث . لكن المذكور هنا " سبط " وسبط مذكر ، ولنا أن نعرف أنه إذا جمع صار مؤنثاً لأنهم يقولون : " كل جمع مؤنث " وأيضاً فالمراد بالأسباط القبائل ، ومفردها قبيلة وهي مؤنثة ، وقطعهم أي كانت لهم - من قبل - وحدة تجمعهم ، فأراد الحق أن يلفتنا إلى أنهم من شيء واحد ، فجاء بكلمة " أسباط " مكان قبيلة ، وقبيلة مفردة مؤنثة ، ويقال : " اثنتا عشرة قبيلة " ، ولا يقال اثنتا عشرة قبائل ، فوضع أسباطاً ، موضع قبيلة لأن كل قبيلة تضم أسباطاً لذا جاء التمييز مذكراً … { وَقَطَّعْنَاهُمُ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً … } [ الأعراف : 160 ] . أي جعلنا كل سبط أمة بخصوصها . والواقع الكوني أثبت أنهم كذلك لأنك لا تجد لهم - فيما مضى - تجمعاً قومياً وهو ما يسمونه " الوطن القومي لليهود " برغم أن الدول الظالمة القوية أعانوهم وأقاموا لهم وطناً على أرض فلسطين ، ومع ذلك نجد في كل بلد طائفة منهم تعيش معزولة عن الشعوب التي تحيا في رحابها ، وكأنهم لا يريدون أن يذوبوا في الشعوب ، ففي باريس - مثلاً - تجد " حي اليهود " ، وفي لندن المسألة نفسها ، وفي كل مدينة كبيرة تتكرر هذه الحكاية ، فهم يعيشون فيها بطقوسهم وبشكلهم وبأكلهم ، وبعاداتهم معزولين عن الشعوب ، وكأنهم ينفذون قدر الله فيهم : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ … } [ الإسراء : 104 ] . وقطعهم ربنا في الأرض أي أنه نشرهم في البلاد ، ولم يجعل لهم وطناً مستقلاً ، ولذلك ستقرأ في سورة الإِسراء إن شاء الله : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ … } [ الإسراء : 104 ] . أي أنه سبحانه قال لهم بعد سيدنا موسى : اسكنوا الأرض وحين تقول لنا يا رب : " اسكن " فأنت تحدد مكاناً من الأرض . كأن يسكن الإِنسان في الإِسكندرية أو القاهرة أو الأردن أو سوريا ، لكن أن يصدر الحكم بأن { ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ } فهذا يعني أن انساحوا فيها فلا تجمع لكم . ويقول الحق : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } [ الإسراء : 104 ] . أي أنه حين يجيء وعد الآخرة تكون ضربة قاضية عليكم - أيها اليهود - لأن عدوكم لن يتتبعكم في كل أمة من الأمم ، ويبعث جيشاً يحاربكم في كل مكان تعيش فيه طائفة منكم ، لكن إذا جاء وعد الآخرة يأتي بهم الحق لفيفاً ويتجمعون . في هذا الوطن القومي الذين يفرحون به ، ونقول لهم : لا تفرحوا فهذا هو التجمع الذي قال الله عنه : { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } لتكون الضربة موجهة لكم في مكان واحد تستأصلكم وتقضي عليكم . ويأتي الحق بعد ذلك بخبر المعجزات : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ . . } [ الأعراف : 160 ] . و " استسقى " المراد منه هو طلب السقيا ، والسقيا هي طلب الماء الذي يمنع على الإِنسان العطش ، وما دام قد طلبوا السقيا فلا بد أنهم يعانون من ظمأ ، كأنهم في التيه . وأراد الله سبحانه أن يبرز لهم نعمه وقت الحاجة ، فقد تركهم إلى أن عطشوا ليستسقوا وليشعروا بنعمة الرِّي . والحق يقول : { إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ } ، أي طلبوا من سيدنا موسى أن يسأل الله السقيا . فلماذا لجأوا إلى موسى وقت الظمأ ؟ وقال لهم موسى : ليس بذاتي أرويكم ، ولكن سأستسقي لكم ربي ، ونعلم أن مقومات الحياة بالترتيب الوجودي الاضطراري : الهواء والماء والطعام . وساعة ترى " همزة " وسيناً " وتاء " واقعة على شيء من الأشياء فاعرف أنه أمر مطلوب ومرغوب فيه . مثال ذلك : حين سار موسى والعبد الصالح ونزلا قرية استطعما أهلها ، أي طلبا طعاماً وهذا هو المقوم الثالث للحياة . وهنا " استسقى " أي طلب المقوم الثاني وهو الماء ، ونعلم أن المقوم الأول وهو الهواء لا نستغني عنه . لذا لم يضعه الله في يد أحد بل أعطاه ومنحه كل الخلق . ولما كان الهواء غير مملوك وهو مشاع لذلك لم توجد فيه هذه العملية . إنما الطعام يُمكن أن يُملك ، والماء يُمكن أن يُملك ، فقال سبحانه مرة " استطعم " ، وقال هنا " استسقى " ، ولم يوجد " استهوى " لطلب الهواء ، لكن وجد في القرآن " استهوى " بمعنى طلب أن تكون على هواه : { كَٱلَّذِي ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَاطِينُ … } [ الأنعام : 71 ] . أي طلبت الشياطين أن يكون هواه ومراده تبعاً لما يريدون لا لما يريده الله . وقصة الاستسقاء وردت من قبل في سورة البقرة : { وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } . وفي سورة الأعراف التي نحن بصدد خواطرنا عنها هم الذين طلبوا الاستسقاء . فهل هناك تعارض ؟ . طبعاً لا لأن قوم موسى طلبوا السقيا من موسى ، فطلب لهم السقيا من ربه . فهل هذا تكرار ؟ لا لأنه سبحانه تكلم عن الواسطة ، وبعد ذلك تكلم عن الأصل ، وهو سبحانه الواهب للماء فقال هنا : " إذ استسقاه قومه " ، وفي سورة البقرة قال : { وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ } . وهذا ترتيب طبيعي . أقول ذلك لنعرف الفارق بين العبارتين حتى نؤكد أنه لا خلاف ولا تكرار لأن المستسقى هنا القوم ، والمستسقى لهم هنا هو موسى والمستسقى منه هو الله - جلت قدرته - وهذا أمر طبيعي . والحق سبحانه يقول في سورة البقرة : { وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ … } [ البقرة : 60 ] . ونجد الوحي نزل إلى موسى بقوله : { فَقُلْنَا ٱضْرِب } وهنا في سورة الأعراف نجد الحق يقول : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ ٱسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ … } [ الأعراف : 160 ] . ولنا أن نعرف أَنَّ " قُلْنَا " تساوي " أوحينا " تماماً ، لأن المقصود بالقول هنا ليس من مناطات تكليم الله لموسى ، بل مناط هذه القضية غير المناط في قوله الحق : { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } . فليس كل وحي لموسى جاء بكلام مباشر من الله ، بل سبحانه كلمه مرة واحدة كتشريف له ، ثم أوحي له من بعد ذلك كغيره من الرسل . وقوله الحق : { أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً … } [ الأعراف : 160 ] . هذا القول يدلنا على الإِعجاز المطلق ، فمرة أمر الحق موسى أن يضرب الماء بالعصا { فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ } ، ومرة يأمره هنا أن يضرب الحجر فينبجس منه الماء ، وهكذا نرى طلاقة قدرة الله في أن يعطي ويمنع بالشيء الواحد ، ولم يكن ذلك إلا بالأسباب التي في يد الله يحركها كيف يشاء . ولذلك رأينا أمر الله حين ضرب موسى البحر بعصاه ، فصار كل فرق كالطود ، أي كالجبل ، وامتنعت السيولة ، ولما خرج موسى وقومه إلى البر بعد أن عبر البحر أراد أن يضرب البحر ليعود ثانية إلى سيرته الأولى من السيولة ، فأوحى له الله : { وَٱتْرُكِ ٱلْبَحْرَ رَهْواً } . أي اتركه كما هو عليه لأن الله يريد أن يغتر فرعون وقومه بأن يروا اليابس طريقاً موجوداً بين الماء ، فيحاولوا النفاذ منه وراء موسى وقومه ، وما أن دخل فرعون وقومه خلف موسى حتى عاد الماء إلى سيولته فغرق فرعون وقومه . وهكذا أنجى الله وأغرق بالشيء الواحد ، وكذلك في أمر العصا إنها حين ضربت الماء فلقته فصار كل فرق كالطود والجبل الشامخ ، ثم ضرب موسى بها الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً من الماء ، وهكذا نرى قدرة من بيده القدرة والأسباب . { ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً … } [ الأعراف : 160 ] . وهنا تعبير " انبجست " ، وهناك تعبير " انفجرت " ، ونعلم أن الانبجاس يحدث أولاً ثم يتبعه الانفجار ثانياً ، فالانبجاس أن يأتي الماء قطرة قطرة ، ثم يأتي الانفجار وتتدفق المياه الكثيرة ، فكان موسى عليه السلام أول ما يضرب الضربة تأتي وتجيء المياه قليلة ثم تنفجر بعد ذلك . إذن فقد تكلم الحق عن المراحل التي أعقبت الضربة في لقطات متعددة لمظهر واحد له أولية وله آخرية . وحين تكلم أمير الشعراء عن عطاء الله وقدرته قال : @ سبحانك اللهم خير معلم علمت بالقلم القرون الأولى أرسلت بالتوراة موسى مرشداً وابن البتول فعلَّم الإِنجيلا @@ ثم جاء لسيدنا محمد وقال : @ وفجرت ينبوع البيان محمداً فسقى وناول التنزيلا @@ وهنا توفيق رائع في العبارة حين قال : " فسقى الحديث " ، فالحديث سقيا أما القرآن فمناولة من الله لخلقه . والحق يقول : { فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } . إن الضربة واحدة من عصا واحدة ، وكان المفترض أن تحدث هذه الضربة عيناً واحدة تنبع منها المياه ، لكن الحق أرادها اثنتي عشرة عيناً وعلم كل أناس مشربهم لذلك كان لا بد أن يكون المكان متسعاً . وأن هذه الضربة كانت إيذاناً بالانفعال من الأرض . { فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ … } [ الأعراف : 160 ] . ومن أين عرف كل قسم منهم الماء الذي يخصه ؟ إنها قسمة الله وصارت كل عين تجذب أصحابها ، فلم يتزاحموا ، وهذا يدل أيضاً على التساوي ، فلم تتفجر عين بماء أكثر من الأخرى فتثير الطمع ، لا ، بل انتظم الجميع فيما أراده الحق : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } . والحق هنا يتكلم عن رحلة بني إسرائيل في التيه ، وفي الصحراء والشمس محرقة ، ولا ماء ، فاستسقوا موسى ، فطلب لهم السقيا من الله ، وجاءت لهم اثنتا عشرة عينا حتى لا يتزاحموا ، وعرف كل منهم مشربه . ويضيف الحق : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْغَمَامَ } . ولأن الشمس محرقة يرحمهم الله بمسيرة من الغمامات تظللهم ، ولكل سبط غمامة على قدره ، فإذا كان الواحد من البشر حين يوزع جماعة من كتل صغيرة ، لا يعجز أن يضعهم في عشرين خيمة مثلاً ، فهل يعجز ربنا عن ذلك ؟ طبعاً لا . وإذا كان الحق قد ضمن لنا في الأرض الرزق حتى لا نجوع ، ولا نعرى ، ولا تحرقنا الشمس ، ونجد ماء . إذن لقد بقي أمر الطعام لهؤلاء . فقال : { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ … } [ الأعراف : 160 ] . ساعة تأتي كلمة " أنزلنا " نعرف أنها مسألة جاءت من علو ، ولا يُفترض أن يكون مكانها عاليًّا ، لكن هي مسألة جاءت من أعلى من قدرتك ، أي من فوق أسبابك إنها بقدرة الأعلى . و " المنّ " مادة بيضاء اللون حلوة الطعم مثل قطرات الزئبق . يجدونه على الشجر . ولا يزال هذا الشجر موجوداً إلى الآن في العراق ، يهزونه صباحاً فيتساقط ما على الورق من قطرات متجمدة لونها أبيض ، فيأخذونه على ملاءة بيضاء واسمه عندهم المنْ - أيضاً - وهو في طعم القشدة وليونتها ، وحلاوة العسل . و " السلوى " هو طير من رتبة الدجاجيات يستوطن أوروبا وحوض البحر المتوسط واحدته " سَلواة " وهو " السُّماني " ويسميه أهل السواحل " السُّمان " وهو يأتي مهاجراً ولم يربه أحد ، وفي هذا إنزال من الله لأنه رزق من فوق قدرة العباد وأسبابهم . { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ … } [ الأعراف : 160 ] . وهناك مصانع تصنع المن في أشكال مختلفة وأنواع من الحلوى جميلة ، ومن زار العراق ذاقه أو أحضره لأهله . والسلوى - كما قلنا - هو طائر " السمان " الموجود في بيئة أخرى يغريه ربنا بالطقس الدافئ فيأتي إلينا لنأخذه ، وهذه الطيور جاءت طالبة استمرار الحياة ، ويبعثها ربنا لتصير لنا طعاماً ليدلل على أنه حين يريد أن يأتي لهم برزق غيبي يمدهم ويمنحهم المن والسلوى كما أخرج من الحجر الماء ، وكما ظلّلهم بالغمام ، وبذلك صارت حاجاتهم قدريَّة ليس لهم فيها أسباب وجاءت لهم بالهناء . فقالوا : ومن يدرينا أن الرزق الذي يأتينا من المن والسلوى سيستمر ، ثم كيف لنا أن نصبر على طعام واحد ؟ إنهم قالوا لنبيهم سيدنا موسى ما حكاه القرآن بقوله : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا … } [ البقرة : 61 ] . وهنا قال الحق : اذهبوا إلى أي مِصْرٍ من الأمصار والمدن تجدوا ما تريدون : { ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } [ البقرة : 61 ] . لقد أعطاهم الحق الرزق بدون السببية ، إنه منه مباشرة ، فكان من الواجب أن تشكروا من أراحكم ، وجعل لكم الرزق ميسراً . لكنهم لم يشكروا الله ، بل تمردوا ، ولذلك ذيل الحق الآية بقوله : { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } . نعم فهم ظلموا بعدم شكر النعمة . ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ ٱسْكُنُواْ … } .