Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 171-171)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
والجبل معروف أنه من الأحجار المندمجة في بعضها والمكونة لجرم عالٍ قد يصل إلى ألف متر أو أكثر ، والحق يقول عن الجبال : { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } ولا يقال أرساها إلا إذا كان وجد شيء له ثقل ، فأنت لا تقول : " أرسيت الورقة على المكتب " ، ولكنك تقول : " أرسيت لوح الزجاج على المكتب ليحميه " ، وأنت بذلك ترسي شيئاً له وزن وثقل . وقد أرسى ربنا الجبال وجعلها في الأرض أوتادا ، والوَتِد - كما نعلم - ممسوك من الموتود والمثبت فيه ، بدليل أنه لو تخلخل في مكانه نضع له ما نسميه " تخشينة " لتلصقه وتربطه بما يثبت فيه ، وهنا يقول الحق : { وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ } " نتقنا " أي قلعنا ، وهناك قول آخر : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ } [ النساء : 154 ] . وقال الحق أيضا : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ } [ البقرة : 63 ] . وهنا اختلاف بين " نتق " و " رفع " لأن الجبل راسٍ في الأرض ، وممسوك كالوتد لذلك يحتاج قبل أن يرفع إلى عملية نزع واقتلاع من الأرض ، ثم يأتي من بعد ذلك الرفع ، و " نتقنا " تعني نزعنا الجبل من مكان إرسائه حتى نرفعه ، وقد رفعه الله ليجعل منه ظلة عليهم ، أي أن هناكَ ثلاث عمليات : نتق أي نزع وخلع ، ثم رفع ، ثم جعله سبحانه ظلة لهم ، وهذا يحتاج إلى اتجاه في المرفوع إلى جهة ما . والحق يقول : " وإذ " أي اذكر إذ نتقنا الجبل ، أي نزعناه وخلعناه من الأرض ، ولا ننزعه ونخلعه من الأرض إلا لمهمة أخرى أي نجعله ظلة ، وكان تظليل الغمام رحمة لهم من قبل ، وصار الجبل ظلة " عذاب " لأن الحق أنزل لهم التوراة على موسى فقالوا له : إن أحكام هذه التوراة شديدة . وللإِنسان أن يتساءل : لماذا كل هذا التلكؤ مع التشريعات التي جاءت لمصلحة البشر ؟ . وجاء لهم العقاب من الحق بأن رفع فوقهم الجبل كظلة تحمل التهديد كأنه قد يقع فوقهم { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } . لذلك نجد أن كل يهودي يسجد على حاجبه الأيسر على الرغم من أن السجود يقتضي تساوي وضع الجبهة على الأرض ، ولكنهم يسجدون بميل إلى الحاجب الأيسر لأن السابقين لهم رأوا الجبل فوقهم وتملكهم الخوف من سقوط الجبل ، وكانوا يسجدون وفي الوقت نفسه يرقبون الجبل ، وبقيت هذه المسألة لازمة فيهم ، وصاروا لا يسجدون إلا على حاجبهم الأيسر ، بسبب حكاية الجبل الذي نتقه الله وقلعه ورفعه فصار فوقهم { وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } . والظن هو رجحان قضية ، وقد يأتي ويراد به أنه رجحان قوى قد يصل إلى درجة اليقين ، مثل قوله الحق : { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ … } [ البقرة : 46 ] . وحين بقيت الحالة هذه ، وخافوا من الجبل أن يقع عليهم ، ولأن هناك كتابا قد أنزل إليهم وهو التوراة وهم يعصون ويتمردون على ما فيه لذلك قال لهم الحق : { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 171 ] . و " خذوا " فعل أمر ، والأمر يقتضي آمرا ، ولا بد له من شيء يأمر به . وكلمة " القوة " هذه هي الطاقة الفاعلة ، والأصل في الكون كله أن نقبل على كل شيء بقوة لأن الكون الذي تراه مسخراً ليس له رأي في أن يفعل أو لا يفعل ، بل هو فاعل دائماً إذا أُمر ، وكما قلنا من قبل : لم تغضب الشمس على الناس وقالت : لن أطلع هذا اليوم ، وكذلك لم يمتنع الهواء ، وأيضاً لا يرفض الحمار مثلاً أن يحمل الروث ، أو ينظفه صاحبه ويأتي له بـ " البردعة " ليجعله ركوبة متميزة ، الحمار إذن لا يعصي هنا ولا يعصي هناك ، والكون كله مسخر بقوانين مادية ثابتة . { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] . وقد وضع الحق هذا النظام للكون نظراً لأنه مقهور وليس له تكليف ، والمحكوم بالغريزة الكونية صالح للحياة عن المحكوم بالاختيار الفعلي ، ومع هذا الاختيار فالإنسان له أشياء تفعل فعلها فيه ولا يَدْرِي عنها شيئاً مع أن بها قوام حياته ، فلا أحد يمسك قلبه ويضبطه ويقول له : دق ، والرئة كذلك وحركة التنفس ، والحركة الدودية في الأمعاء ، والحالب ، ويرغب الإنسان في دخول دورة المياه عندما تمتلئ المثانة بالبول ، كل هذه مسائل رتيبة لا اختيار للإنسان فيها أبدا ، والأمور المحكومة بالغرائز ليس لنا فيها اختيار ، كأن يأكل الإنسان ويتكلم في أثناء تناول الطعام فتنزل حبة أرز في القصبة الهوائية فيحاول الإنسان أن يطردها بالسعال ، هذا اسمه " غريزة " أي أمر غير محكوم بالفعل الاختياري . وكذلك الحيوان إذا أحضرت له طعاما فهو لا يأكل أكثر من طاقته حتى لو ضربه صاحبه . أما الإنسان فقد يأكل بعد أن يشبع ، وحين يقول له مُضيفه - على سبيل المثال - : أنت لم تذق هذا اللون من اللحم ، فيأكل . ولهذا نجد أن الأمراض في الانسان أكثر من الأمراض في الحيوان لأن اختيار الإنسان يمتد إلى مجالات متعددة متفرقة قد تضر به وتؤذيه . ونعرف جميعاً هذا المثال للفارق بين الإنسان والحيوان ، نجد الإنسان يغلي النعناع ويشربه ، ويطبخ الملوخية ليأكلها ، وقد فعل ذلك لأنه اختبر الاثنين ، فلم يأكل النعناع وأكل الملوخية ، رغم تشابه أوراقهما . لكن هات شجرة النعناع أمام الجاموسة أو الحمار ، وهات النجيل الناشف وضع الاثنين أمام الجاموسة أو الحمار ، ستجد الجاموسة والحمار يتجهان إلى النجيل الناشف ويتركان نبات النعناع الأخضر الرطب ، وهما يفعلان ذلك بالغريزة ، فالمحكوم بالغريزة له نظام ، ولو كان الحيوان مختارا لارْتَبَكت حركة الحياة كلها واختلطت واشتد على الناس شأنها . وهكذا نعرف أن مقومات الحياة تقوم على قوانين الغريزة ، وهذه القوانين موجودة في الكون لتخدمنا نحن بني البشر . فالكهرباء مثلاً كانت موجودة قبل أن ننتفع بها ، لكن بعد ذلك انتفعنا بها ، وكذلك الجاذبية ، كانت موجودة في الكون منذ الأزل ، لكنا لم ننتبه لها ، وحين اكتشفناها زادت قدراتنا على الاستفادة منها ، وهكذا نرى أن الإنسان واحد من هذا الكون ، إلا أنه يتميز بأن له جهة اختيار في بعض الأمور ، وله جهة قهر في البعض الآخر ، فهو يشارك الكون في القهر ، ويتميز عن بقية المخلوقات - عدا الجن - بالاختيار في أمور أخرى . ونجد على سبيل المثال أن الإنسان الذي يعاني قلبه من ضعف ما ، عندما يصعد هذا الإنسان سلماً ينهج ويتتابع نَفَسه من الإعياء وكثرة الحركة ، لأنّ غريزته المحكوم بها تُنبه الجسد إلى ضرورة أن تعمل الرئة أكثر لتعطي الأوكسجين الذي يساعد على الصعود . ومثال آخر ، نجد الذكر من الحيوانات يقترب من أنثاه ليشمها ، فإن وجدها حاملاً لا يقربها ، والحيوان في هذا الأمر مختلف عن الإنسان لأن الحيوان تحركه الغريزة التي تبين له أن العملية الجنسية بين الذكر والأنثى لحفظ النوع ، وما دامت الأنثى قد حملت ، فالذكر لا يقربها ، فاختلف الإنسان عن الحيوان في هذا الأمر فلذة الإنسان في الجنس أعلى من لذة الحيوان لأنها في الحيوان ترضخ للغريزة فحسب ، أما في الإنسان فإنها مع الغريزة ترضخ أيضا للاختيار الذي منحه الله للإنسان . ومن رحمة الله - إذن - أن يكون الإنسان مقهوراً في بعض الأشياء ومختاراً في أشياء أخرى ، بـ " افعل " و " لا تفعل " حتى يختار بين البديلات . وهنا يقول الحق : { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّة } [ الأعراف : 171 ] . أي خذوا ما آتاكم في الكتاب بجد واجتهاد . وكان هذا القول مقدمة لما جاء به العلم في شرح معنى القوة . وقد وصل إلينا خبر العلم قبل أن يصل لنا واقعه المادي ، فصرنا نرى الطاقة التي تعطي القوة وجاء نيوتن ليكشف لنا قانون الجاذبية ، القانون الأول والثاني والثالث ، واكتشف أن كل جسم يظل على ما هو عليه ، فإن كان ساكناً يبقى على سكونه إلى أن يأتي محرك يحركه . وإن كان الجسم متحركاً فهو لا يتوقف إلى أن يصدمه صادم أو يمسكه ماسك . وسمّى العلماء هذا التأثير بالقصور الذاتي . أو التعطل ، أي أن الساكن يُعَطّلُ عن الحركة إلا أن يحركه محرك ، والمتحرك يُعَطّلُ عن السكون إلا أن يوقفه موقف ، فأنت إذا ركبت سيارة وأنت قاعد وساكن والسيارة تسير ، فإنك تظل ساكناً ، إلى أن يوقفها السائق فجأة فتتحرك من مكانك ما لم تمسك بشيء . وفي الأسواق نرى الحواة وهم يؤدون بعض الألعاب ليسحروا أعين الناس فيأتي بمنضدة وعليها مفرش لامع وأملس ، ثم يضع عليها أطباقاً وأكواباً ، ثم يحرك المفرش بخفة لينزعه بهدوء من تحت الأكواب حتى لا تتحرك بحركة المفرش . وحين جاء نيوتن عقد مقارنة وموازنة بين القوة والحركة والعطالة ، وقلنا : إنّ العطالة تعني أن الساكن يتعطل عن الحركة ، والمتحرك يتعطل عن السكون ، وهذه هي القضية المادية في الكون التي خدمت العلم الفضائي الخاص بسفن الفضاء والصواريخ . ونحن نرى السفن الفضائية ونعتقد أنها تدور في الفضاء بالوقود ، رغم أن حجمها لا يسع الوقود الذي يسيرها لسنوات ، والحقيقة أنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة إنّها بدون وقود ، وهي تندفع إلى الفضاء بقوة الصاروخ إلى أن تخرج إلى الفضاء الكوني ، وتظل متحركة ما لم يوقفها موقف . ونرى ذلك في التجربة اليسيرة حين يطلق إنسان رصاصة من مسدس فتنطلق الرصاصة بقوة الطلقة مسافة ثم تقع إن لم يوجد حاجز يصدها ، وهي تقع بعد مسافة معينة لأن الهواء يقابلها فيصادم الحركة إلى أن تتوقف ، أما في الفضاء الخارجي فليس هناك هواء لذلك لا تتوقف سفينة الفضاء ، لأنها تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة . وهذه السفن الفضائية تعتمد في صعودها إلى الفضاء على الصواريخ لتصل إلى المدار الخارجي . والصواريخ تسير بالغاز المتفلت الذي أخذ القانون الثالث من قوانين نيوتن ، وهو القانون القائل : إن كل فعل له رد فعل يساويه ومضاد له في الاتجاه ، وحين يسخن هذا الغاز المتفلت يخرج من خلف الصاروخ بقوة فيندفع الصاروخ للأمام . وهكذا نرى قول الحق : { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ } [ الأعراف : 171 ] في الواقع المادي والواقع القيمي . وانظر إلى غير المتدينين تجدهم ساكنين في بعض الأمور ولا يتحركون عنها ولا يجاوزونها ، فالواحد منهم لا يصلي ، ولا يزكي ، ولا يقول كلمة معروف ، وهو في ذلك يحتاج إلى قوة تحرك سكونه عن طاعة الله . ونجد أيضاً من غير المتدينين من يشرب خمرة . أو يزني أو يسرق أو يرتشي . وهو هنا يحتاج إلى قوة لتصده عن مثل هذه الحركة . ولذلك نقول : إن الإنسان في أفعاله الاختيارية يحتاج إلى أمرين : الأول إن كان ساكناً عن فعل الخير نأتي له بقوة تحركه إلى هذا الخير ، وإن كان متحركا إلى الشر نأتي له بقوة توقفه عنه ، وهذا هو ما يقدمه المنهج الإيماني في " افعل " ، و " لا تفعل " . فمن يتراخى عن الصلاة وسكن عنها نقول له صلّ . ومن يذهب للقمار ويتحرك إليه لا يمكن أن يقف إلا إذا جاءت له قوة توقفه عن ذلك وتمنعه ، إذن فالقوة الشرعية تكون في المنهج بـ " افعل " ليحرك الساكن ، و " لا تفعل " ليقف المتحرك شريطة أن يكون كل من السكون والحركة في ضوء المنهج . ولنعرف أن الله سبحانه وتعالى يسخر لنا الكافرين ليبينوا لنا المستغلق علينا في قوانين الكون ، فقد اكتشفوا قوانين القوة المادية وفهمناها نحن في إطار الماديات والمعنويات ، وليس اكتشاف الكافرين للقوانين في الكون مدعاة للكسل والاعتماد عليهم ، بل علينا أن نشحذ الهمم لنتقدم في العلم الذي يُسير أمور الحياة ، ولنعلم أنه لا شيء ينشىء فينا فطرة جديدة لأن البشر من قديم مفطورون على الفطرة السليمة التي تلفتهم إلى أن لهذا العالم صانعاً ، فكل ذراتنا وكل اتجاهاتنا تؤكد لنا وجود إله واحد . بل إن الفلاسفة حينما بحثوا وراء المادة تأكد لهم ذلك ، وأغلب الفلاسفة كانوا غير مؤمنين ، وهم ببحثهم وراء المادة إنما يبحثون عن الخالق الأعظم لأن الإنسان لا يبحث عن شيء لا يظن وجوده . ولأنهم جميعا يعلمون أن الإنسان طرأ على كون ، وهذا الكون مقام بهندسة حكيمة ، ومخلوق بقوة لا تستطيع قوى البشر جميعا أن تأتي بمثلها ، إذن لا بد لهذا الكون من خالق . لقد بيّنا أن القوانين التي تظهر لنا في المادة تتماثل مع قوانين القيم ، إلا أن الناس يتهافتون على قانون المادة لأنها تحقق لهم خيراً أو تدفع عنهم شرا ، فيأخذون ما ينفعهم ويدعون ويتركون ما يضرهم ، ولذلك احتاج الإنسان إلى منهج من السماء ليوضح ويبين له قوانين القيم التي تحقق له السعادة العاجلة في الدنيا والآجلة في الآخرة ، أما قوانين المادة في الأرض فتركها الله لنشاط العقل ، حتى الذين لا يؤمنون بالله يذهبون إلى قوانين المادة ويصنعونها ، ويتهربون من قوانين القيم لأنها تحد من شهوات النفس وتتعب بمشقة التكليف ، فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يقول فيها : { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 171 ] . وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطي من قانون المادة ما يقرب لنا قوانين القيم في الفعل ورد الفعل ، لنفهم أن كل حركة للشر قد تحبها النفس لأنها تحقق لها شهوة من شهواتها ، لكن يجب ألا يغيب عن ذهنك أيها الإنسان أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في الحركة ومضاداً له في الاتجاه ، فإن كنت ترتاح في هذا العمل وتحبه وتشتهيه فتذكر جيداً رد الفعل الذي يأتيك بالعقاب عليه ، وكذلك مشقات التكليف ، حين تفعل الطاعة تكون صعبة عليك ولكن يجب أن تذكر رد الفعل فيها وهو الراحة وحسن الثواب ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 24 ] . وفي هذا القول فعل ورد فعل ، الفعل هو العمل الصالح في الأيام التي مضت ، ورد الفعل هو الطعام والشراب الهنيء في الآخرة . ولمن اغتر واعتز بنفسه وجبروته وقوته يقول له الحق : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً } [ التوبة : 82 ] . وهكذا نجد البكاء الكثيف الشديد الكثير نتيجة للضحك القليل . ويأتي الإنسان من هؤلاء يوم القيامة ليقال له : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] . إن كنت قد فهمت أنك عزيز كريم فأسأت إلى الناس فلسوف تتلقى العقاب . ولذلك يقول لنا الحق عن المنهج : { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . وإياكم أن تطرأ عليكم الغفلة من هذه الناحية ، فالذي يتعب الناس في مناهج الله أنهم يغفلون عنها لأن الطاعة تكلفهم مشقة وبعض عناء ، والمعاصي تكسبهم لذة وشهوة ، فأوضح الحق : اذكروا جيدا الفعل ورد الفعل في هذه القيم . ونعلم أن الذِّكْر يحتاج إلى أشياء كثيرة جداً ، فالواعظ مثلاً يذكرهم دائماً ، وقلنا إن " الوعظ " هو نوع من إعادة التذكير بالإعلام بالحكم ، فأنا أعظ من عَلِمَ الحكم ، لأني أريد أن يفعله ، فبعد أن علمه الموعوظ علماً فقط يريد منه الوَاعظ أن ينفذه عملياً . فكلنا نعلم أن الصلاة ركن ، وأن الحج ركن ، والزكاة ركن من أركان الإسلام ، وكلنا جاءنا العلم بذلك ، لكن منا من يكسل في تطبيق هذا العلم . ونظل ندق على دماغه بالتذكير والوعظ ، وهذا من خيرية أمته صلى الله عليه وسلم : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] . ولماذا هذا التذكير ؟ . يجيب الحق : { تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } [ آل عمران : 110 ] . الأمر بالمعروف عظة قولية ، والنهي عن المنكر عظة قولية ، ويعددها الرسول صلى الله عليه وسلم لبقاء التذكير ، وليأخذ كل مسلم منهج الله بقوة ، فيقول في الحديث : " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان " . إذن فقد نقل الرسول المسألة من الأمر وهو القول والنهي وهو قول أيضاً إلى أن نباشرها فعلاً ، فإن لم يستطع الإنسان منا تغيير المنكر بلسانه أو بيده فلينكره بقلبه ، ونجد القرآن قد جاء بها أمراً ونهياً ، والرسول جاء بها فعلاً ، لأن هناك فرقاً بين المعلومة التي تدخل الذهن ، وحمل النفس على مطلوب المعلومة . ولذلك نحن ندرس الدين في مدارسنا ، وندرس فيها أيضاً الجبر والهندسة ، والكيمياء ، والطبيعة ، والمتعب ليس تدريس الدين ، بل الذي يتعب الناس هو حمل النفس على مطلوب الدين . لكن التلميذ حين يتعلم الجبر والهندسة أو الكيمياء فهذه علوم تعطي الإنسان خير الدنيا فيذهب لها ، لكن مسألة الدين مسألة قيم لذلك لا يكفي أن نعلم الدين بل لا بد أن تنفذ ذلك العلم ، وتنفيذ هذه المسألة يكون بالتطبيق في سلوك من أسوة حسنة وقدوة طيبة . وهب أن الذي يُعلم الدين يدرسه معلومة ويدخلها في نفوس التلاميذ ، ثم لا يجدون من أثر هذه المعلومة نضجاً على سلوك مَن علَّمها ، ماذا يكون الموقف ؟ . هنا تضعف ثقة التلميذ في أستاذة ، وتضعف ثقته في الدين لأنه لم ير من الدين إلا كلاماً يقال ، بدليل أن من يقولونه لا ينفذونه ، وفي هذا فشل في تعليم منهج الدين ، والخطأ إذن أن الناس يظنون أن منهج الدين يقف عند تعليم المعلومات الدينية ، لا . إن تعليم الدين يقتضي تنفيذ ما فيه من معلومات ، عكس العلوم الأخرى التي تعطي المعلومة فقط . وإن أراد الإنسان أن ينتفع بها في حياته انتفع ، وإن لم يرد فهو حر في ذلك إذن فالتذكير مرة يكون بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر ، ومرة يكون بالفعل ، " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه " وماذا يعني التغيير باللسان ؟ . يعني أن الإنسان إن كان عنده حسن تأد واستعداد للعظة ومعرفة أدب النصح فله أن يقبل على تناول العظة . وليس كل إنسان صالحاً لأن ينصح لأن المنصوح يخالف المنهج ، والناصح يقف أمامه حتى لا يخالف المنهج ، إنه يخرجه عما ألف وأحب ، لذلك يجب أن يتلطف الناصح في النصح . ومثال ذلك نجد الطبيب حين يذهب إليه المريض يصف له الدواء ، والدواء قديماً كان كله مراً . وكانت الناس تأخذ الدواء بصعوبة ، ويمسك الكبار الأطفال ليعطوهم الدواء . وحين ارتقت صناعة الدواء ، قام الصيادلة بتغليف جرعة الدواء بغلاف يحجب المرارة . ليتلطفوا مع مريض الجسم ، فما بالنا بمريض القيم ؟ . إنه يحتاج إلى المسألة نفسها . لذلك لا بد أن نجعل النصح خفيفاً ، ولا نجمع على المنصوح بين أن تخرجه عما ألف وما يكره من الأساليب ، ولذلك قلنا : إن النصح ثقيل ، لأنك حين تنصح إنسانا فمعنى ذلك أنك افترضت أنك أفضل سلوكاً منه ، وهو أقل منك في ذلك ، وهذا هو أول مطب ، وينظر لك المنصوح على أنك تفهم أحسن منه . ولهذا قالوا في الأثر : النصح ثقيل فلا ترسله جبلا ، ولا تجعله جدلاً . وقيل أيضا : الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان . هكذا يكون التذكير ، وإن لم تستطع أن تمنع بالفعل فامنع بالقول لأن التغيير باليد يحتاج إلى سلطة المغيِّر على المغيَّر ، وهذا لا يأتي إلا بأن يكون للمغيِّر مقدمة وسابقة مع المغيَّر يثبت فيها المغيِّر أنه يحب مصلحة المغيَّر . وقد يكون ذلك وارداً من غير أن تقول . كأن تكون أباه أو أمه ، والأب والأم يقومان برعاية الابن ، وتلبية احتياجاته طعاماً ومشرباً ومسكناً ومصروفاً . وكل منهما هو المتولي لمصالح الابن . وإذا كان الناصح ليس له هذه الصلة بالمنصوح ، فعليه أن يتلطف له أولاً بما يحب . فحين يطلب منك أمراً تقوم بإجابته إلى طلبه ، وتنبهه بعد ذلك إلى ما تريد أن تنصحه إنك قد قدمت له شيئاً من المعروف فيتحمل منك النصح . ومثال آخر : افرض أن ابنك قد طلب منك أن تحضر له ساعة ، وبعد ذلك قالت لك أمه : إنه لم يستذكر دروسه حتى الآن . ثم تأتي له بالساعة وتقول له : يا ولد أنت أردت مني ساعة وأحضرتها لك ، وتناولها له وتقول : إن أمك قالت لي إنك غير مهتم بدروسك ، ولو تذكرت قولها لما أحضرت لك الساعة . وقد توجه له توبيخاً فيضحك لأنك قد حننت قلبه ، وبينت له أنك تحبه فيقبل النصح ، حتى ولو صفعته قد يقبل لأنه يعلم أنك تحب مصلحته . إذن للتذكير ألوان متعددة : عظة بالقول ، وتغيير بالفعل وإنكار بالقلب . { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } والأصل في التقوى أن تتقي شيئاً بشيء تتقي مؤلماً بجعل وقاية بينك وبينه ، وهي تأتي كما علمنا في المتقابلات فالحق سبحانه يقول : { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 131 ] . وهو سبحانه وتعالى يقول : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ البقرة : 189 ، آل عمران : 130 ] . ونجد من يتساءل : كيف يقول : " اتقوا الله " ، " واتقوا النار " ؟ نقول : نعم لأن اتقوا الله تعني اتقوا غضب الله عليكم ، واتقوا عذاب الله لكم بأن تجعلوا بينكم وبين عقابه وقاية ، ولا بد أن تجعل بينك وبين النار وقاية لأن الحق سبحانه وتعالى كما علمنا لَه صفات جلال وصفات جمال ، وصفات الجمال هي التي تسعد الإنسان ككونه - سبحانه - " غفوراً " ، و " رحيماً " ، " باسطاً " ، وكما أن لله صفات جمال تعطيك الرغبة والإقبال عليه - سبحانه - فله صفات جلال تعطيك الرهبة ، فهو - جل شأنه - جبار منتقم . فاتق الله حتى تحجب عن نفسك متعلقات صفات الجلال التي منها جبار منتقم . ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن … } .