Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 176-176)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وهنا أمران اثنان ، الرفعة : وهو العلو والتسامي ، ويأتي بعدها الأمر الثاني وهو الإخلاد إلى الأرض أي إلى التسفل ، والفعلان منسوبان لفاعلين مختلفين . { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ } [ الأعراف : 176 ] ، والفعل رفع هنا مسند لله . ولكنه اختار أن يخلد في الأرض . وجاء الأمر كذلك لأن الرفعة من المعقول أن تنسب لله . لكن التسفل لا يصح أن يُنسب لله ، وكان كل فعل هو بأمر صاحب الكون . وربنا هنا يرفع من يسير على المنهج ، وحين يقول الحق تبارك وتعالى { وَلَوْ شِئْنَا } [ الأعراف : 176 ] أي أنها مشيئتنا . فلو أردنا أن نرفعه كانت المشيئة صالحة ، لكن هذا الأمر ينقض الاختيار ، والحق يريد أن يُبقَي للإنسان الاختيار ، فإن اختار الصواب فأهلا به وجزاؤه الجنة ، وإن أراد الضلال فلسوف يَلْقى العذاب الحق ، ولمزيد من الاعتبار بقصص القرآن اقرأ معي قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام : { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [ الكهف : 65 - 66 ] . ورغم أن موسى رسول من عند الله إلا أنه لم يتأبّ على أن عبداً من عباد الله تقرب إلى الله فاتبعه موسى ليقول له : { هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } [ الكهف : 66 ] . وفي هذا تأكيد على رغبة موسى أن يستزيد بالعلم ممن أعطاه الله العلم . وجاء القرآن بهذه القصة ليعلمنا أدب التعلم . وماذا قال العبد الصالح ؟ لقد عذر موسى وقال : { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } [ الكهف : 67 - 68 ] . أي أنك يا موسى لن تصبر لا لنقص فيك ، بل لأنك سترى أمورا لا تعرف أخبارها . لكن سيدنا موسى قال له لا : { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً } [ الكهف : 69 ] وأصرّ موسى أن يتبع العبد الصالح وأنه لن يعصي له أمرا ، واشترط العبد الصالح ألا يسأله سيدنا موسى عن شيء إلا أن يحدثه العبد الصالح . وكان كل ذلك مجرد كلام نظري ، فيه أخذ ورد ، وحين جاء الواقع تغير الموقف تماما . بعد أن ركبوا في السفينة وخرقها العبد الصالح ، لم يصبر سيدنا موسى بل قال : { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } [ الكهف : 71 ] . وهكذا أثبتت التجربة العلمية أن موسى لم يصبر على أفعال العبد الصالح ، وحين ذكره العبد الصالح بما وعد به من ألا يسأل ، تراجع موسى ، وتكرر السؤال ، وتكرر التذكير إلى أن أوضح العبد الصالح لموسى كل أسرار ما لم يحط به علما وهنا يقول الحق : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } [ الأعراف : 176 ] لماذا ؟ . لأن مشيئة الله مشيئة مطلقة ، يفعل ما يريده ، ولكنه سبحانه قد سبق منه أن جعل للاختيار جزاءً ، لهذا لم يرفعه مع أنه مخالف ، لأنها سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً . وسنة الله أن من عمل عملاً طيباً يثيبه الله عليه . ومن عمل سوءاً يعاقبه ، ومشيئته سبحانه مطلقة ، ولا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه . وبمقتضى مشيئة الله فهو يعذب المذنب بعدله ويثيب الطائع بفضله ، وله سبحانه مطلق الإرادة فهو عزيز ، وحكيم في كل فعل . { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ … } [ الأعراف : 176 ] . و { أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ } [ الأعراف : 176 ] ، أي أنه اختار أن ينزل إلى الهاوية ، رغم أن الحق هدى الإنسان وبين له طريق الخير ليسلكه فيصعد إلى العلو ، والحق يقول : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] . ونخطئ حين نفهم أن " تعالوا " بمعنى " أقبلوا " فقط وهذا فهم ناقص ، إنها دعوة للقبول وإلى العلو ، لأنه سبحانه وتعالى يشرع لنا حتى لا نلزم منهج الأرض السفلى . بل نرتقي ونأخذ منهج الله الذي يضمن لنا العلو . وكأنه سبحانه يقول : تعالوا وتساموا في أخذ منهجكم من الله العلي الأعلى وإياكم أن تأخذوا منهجكم مما وضعه البشر ويناقض ما جاء في شرع الله ، لأن في هذا تسفلا ونزولا إلى الحضيض . { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأَرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ } [ الأعراف : 176 ] . ويقال : " حملت على الكلب " ، فأنت حين تجلس ويقبل الكلب عليك وتزجره وتطرده وتنهره ، فهذا تفسير لقوله : " تحمل عليه " ، أي أنك تحمل عليه طرداً أو زجراً لذلك يلهث ، وإن تركت الكلب بدوح حمل عليه طرداً أو زجراً فهو أيضا يلهث ، لأن طبيعته أنه لاهث دائماً ، وهذه الخاصية في الكلب وحده ، حيث يتنفس دائماً بسرعة مع إخراج لسانه . ونعلم أن الحيوانات لا تلهث إلا أن فزعت فتجري ، لتفوت من الألم أو من العذاب الذي يترصدها من كائن آخر ، وحين يجري الحيوان فهو يحتاج لطاقة ، فيدق القلب بشدة ليدفع الدم بما فيه من غذاء إلى كل الجسم ، ولا بد للقلب أن يتعاون مع الرئة التي تمد الدم بالهواء . ونلحظ أن الكائن الحي حين يجلس برتابة فهو لا يلحظ تنفسه ، لكن إذا جرى يلحظ أن تجويف الصدر أو سعة الصدر تنقبض وتنبسط لتسحب " الأوكسجين " من الهواء لتصل به للدم بكمية تناسب الحركة الجديدة ، فيحاول أن يتنفس أكثر . ولا تفعل الحيوانات مثل هذه المسألة إلا إذا كانت جائعة أو متعبة أو مهاجة ، لكن الكلب وحده هو الذي يفعلها ، جائعا أو شبعان ، عطشان أو غير عطشان ، مزجوراً أو غير مزجور ، إنه يلهث دائماً . ولماذا يشبهه سبحانه بالكلب اللاهث ؟ لأن الذي يظهر بهذه الصورة تجده مكروهاً دائماً لأنه متبع لهواه ، وتتحكم فيه شهواته . وحين تتحقق له شهوة الآن ، يتساءل هل سيفعل مثلها غداً ؟ وتتملك الشهوة كل وقته ، لذلك يعيش في كرب مستمر ، لأنه يخاف أن يفوته النعيم أو أن يفوت هو النعيم ، ويصير حاله كحال الكلب يلهث آمناً أو غير آمن ، جائعاً أو غير جائع ، عطشان أو غير عطشان . { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ] . هكذا يكون مصير من كذَّب بالآيات . وقول الحق : { فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ } [ الأعراف : 176 ] يوضح لنا أن الله لا يريد أن يعلمنا تاريخاً ، لكنه يعلمنا كيف نأخذ العبرة من التاريخ ، بدليل أنه يكرر القصة أكثر من مرة وكل مرة يأتي سبحانه بلقطة جديدة ، لتعدد ما في القصة الواحدة من العبر ، ولو أنه أراد أن يقص علينا التاريخ لقال لنا روايته مرة واحدة . ونجد في القرآن الكثير من قصص الحق مع الباطل ، ومن قصص المبطلين مع المحقين ، ومن قصص المعاندين مع الرسل لأن القصة أمر واقعي ، والتقنين للمناهج أمر لفظي ، فيريد سبحانه وتعالى أن يوضح لنا المنهج المناسب للواقع لأن واقع الحياة يعطي القصة القولية حرارة وسخونة فلا يظل المنهج مجرد كلام نظري معزول عن الواقع . وهكذا بَيَّن الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الآية ، أنه سبحانه قد أنزل علم منهجه بواسطة الرسل إلى بعض خلقه ، فمنهم من يأخذ منهج الله بالاستيعاب أولاً ، وتوظيف ما علم ثانياً ، وبذلك يرتفع من منطق الأرض إلى منطق السماء . ومن يعطيه الله ذلك المنهج ، ما كان يصح له أن يترك ارتفاعه إلى السماء ، ليهبط إلى مستوى الأرض . وهذا ما يفعله البشر حين يقننون لأنفسهم ، ويضعون نظم الحياة على وفق هواهم ، وعلى وفق نظمهم ، ويتركون منهج الله الذي خلقهم وصنعهم ووضع لهم قانون صيانتهم . وهذا الكلام نظري له واقع في ابن " باعوراء " ، هذا الذي آتاه الله العلم ، ولكنه أخلد إلى الأرض ولم يتبع ما علم ، فانسلخ من المنهج كما تنسلخ الشاة من جلدها وقال فيه الحق : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } [ الأعراف : 176 ] . ومن يريد أن يرفعه الله إلى السماء بالوحي بالمنهج ثم يهبط إلى الأرض نجد الحق سبحانه وتعالى يمثل حاله بحال الكلب ، مع الفارق بين الاثنين لأن الكلب يلهث غريزة . فهو غير مذموم حين يلهث وهو مطرود ، ويلهث غير مطرود فهذه غريزة فيه ، ولا يذم على هذه ولا على تلك ، لكن الإنسان الذي فطره الله على حب الخير وميز غرائزه بمنهج عقلي يصون حركته ما كان يصح له أن يفعل ذلك ولا ينبغي أن تقولوا : وما ذنب الكلب في أنه يلهث ، ويضرب به المثل في الكفر ؟ لأن الكلب يفعلها غريزة ، وهو بغير تكليف فيفعل ما يشاء ، أما الإنسان الذي ارتفع بكفره وميزه الله بأن يختار بين البديلات ما كان يصح له أن يصل إلى هذا المستوى ، ومثل هذا السلوك في الكلب محمود فيه لأن طبيعته هكذا ، وإياك أن تقول : لماذا ربنا يضرب المثل بأشياء وما ذنبها هي ؟ والحق - سبحانه - هو القائل عن اليهود : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] . هل الحمار حين يحمل أسفاراً يستحق الذم لأنه لم يفقه ما في الأسفار ؟ الجواب لا لأن مهمته ليس منها فقه وفهم ما في الأسفار ، بل مهمته أن يحمل ما عليه فقط ، وكأن الحق يقول : لا تكونوا مثل الحمار الذي يكتفي من الخير بأن يحمله ، ولكن أريد منكم أن تحملوا المنهج وأن تنتفعوا بما يحويه من التشريع . إذن فهذه الأمثلة ليست ذماً للكلب ، ولا هي ذما للحمار . إنما ذم لمن يتشبه بهما لأنه نزل إلى مرتبة لم يرده الله لها ، وأراد الله المثل فيها بشيء لا تذم منه ، ولكنه مذموم من الإنسان . والإنسان الذي لا يتبع منهج الله يكون مضطرب الحركة في الحياة ، حتى وإن كان في نعمة ، لأنه معزول عن الله ، وما دام معزولاً عن الله تجده دائم التساؤل : أيدوم لي هذا النعيم أو لا يدوم ؟ ويعيش دائما في قلق ورعب مخافه أن يفوت النعيم أو ألا يدوم له النعيم ، ومثله كالكلب يلهث حال راحته ويلهث حال تعبه . { ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ] . إذن حين يضرب الله لنا مثلاً من الأمثال الواقعية في هذا الرجل المسمى " ابن باعوراء " ، فسبحانه يعطينا واقعاً لما حدث بالفعل . أي أن الذي يريد الله أن يرفعه بما علمه من منهج فانسلخ من دينه فهو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، ولستم بدعاً في هذا ، فالله يريد أن يرفعكم بمنهج السماء وأنتم تخلدون إلى الأرض ، وقد حدث هذا مع ابن باعوراء ، وكلمة " مثل " إذا سمعتها هي من مادة الـ " م " والـ " ث " والـ " لام " ، وتنطق كما يأتي : إما أن تنطقها مثْل " بكسر الميم وسكون الثاء " ، وإما أن تنطقها مَثَل " بفتح الميم والثاء " ، والمَثْلَ هو المشابه والنظير ، فتقول : فلان مِثْل فلان في الكرم ، في العلمَ ، في الَطول ، في العرض ، وبذلك أعطيت تشَبيه ما هو مجهول للمخاطب بما هو معلوم له . والحق سبحانه يقول : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . أي لا أحد يشبهه في شيء لأنه مَنَزّه في الذات والصفات والأفعال . وأيضاً نقول : هذا مَثَل هذا أي أن فلاناً المشبه به يكون أعلى منه فيما يشبهه به ، لكن الناس لا تعرف ذلك . وإن كان المشبه به ذائع الصيت بحيث يجري اسمه على كل لسان فنحن نقول : إنَّه مَثَلٌ كقولنا عن الكريم : " هو حاتم " لأن شهرة حاتم في الكرم جعلته مَثَلاً . والفرق أنك إذا قلت في فلان إنه يشبه حاتماً في الكرم ، فقد تكون أول من يخبر عنه ، ولك أن تأتي بواحد له شهرة ذائَعة الصيت على كل لسان فهذا مَثَل ، كأن تقول : مَثَل حاتم في الكرم ، أو مَثل عنترةَ في الشجاعة . والمَثَل في الذكاء إياس ، لأن كل واحد منهم مشهور بصفة ، ولذلك لما مدح الشاعر الخليفة قال فيه : إقدام عمرو في شجاعته في سماحة حاتم أي الطائي في حلم أحنف الأحنف بن قيس وكان مشهوراً بالحلم عند العرب وفي ذكاء إياس . وقال رجل من القوم : كيف تُشَبَّهُ الأميرَ بصعاليك العرب ؟ إن الأمير فوق من ذكرت جميعاً . ما عمرو بالنسبة للأمير ؟ ! وما حاتم بالنسبة للأمير ؟ ! فقال الشاعر : @ وشبهه المدّاح في الباس والندى بمن لو رآه كان أصغر خادم ففي جيشه خمسون ألفاً كعنتر وفي خُزنه أُلف ألف كحاتم @@ أي أن عنده أمثالَ حاتمٍ وأمثال عنترة . فما كان منه إلا أن أسعفته ذاكرته وبديهيته فقال : @ لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلا من المشكاة والنبراس @@ وكأن الشاعر يقول : أنا ضربت بهم المَثل لأنهم أصبحوا المثل المشهور والأمثال لا تتغير . وأنت تقدر في المثل ، فقد تقول : فلان حاتم ، وحاتم انقضى عمره ، لكنه قد صار مثلاً مشهوراً في التاريخ ، أو تقول : " فلان عنتر " ، أو " فلان إياس " ، وفي ذلك يرتقي التشبيه ، بأن صار المشبَّه به مشهوراً معلوماً متوارداً على الألسنة وكل واحد يشبه به . ويُعَرفون المَثَل بأنه : قول شبِّه مورده بمضربه ، أي أنك تشبه الحالة التي قيل فيها المثل أولاً ، ومثال ذلك : حينما أرسلَ عظيمٌ من عظماء العرب خاطبةً اسمها " عصام " لتخطب له أمَّ إياس فقد بلغه أنها جميلة وأنها وأنها ، فقال : اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف ، فذهبت الخاطبة وخلَّت أم الفتاة بينها وبينها ، وقالت لها : يا هذه ، هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض أمرك فلا تستري عنها شيئاً أرادت النظر إليه ، من وجه وخلق ، وناطقيها فيما استنطقتك به . ثم أرسلت إلى خباء ، ونظرتها كلها وفحصتها فحصاً شاملاً . فلما عادت إلى من أرسلها ، وكان ينتظرها في شوق وكأنه على أحر من الجمر ، قال لها : " ما وراءكِ يا عصامُ ؟ " . قالت : " أبدي المخض عن الزُّبد " أي أن الرحلة جاءت بفائدة . وأصبح العرب بعد ذلك كلما أرسلوا رسولاً ذكرا أو أنثى أو مثنى أو جمعاً وبعد أن يعود إليهم ويستعملوا منه عن نتيجة رحلته ، فهم يقولون له : " ما وراءَك يا عصام ؟ " ، ولو كان رجلاً ، لأن الأمثال لا تغير . وكل شيء يجدي الجهد فيه يقال عنه : " أبدي المخض عن الزبد " . فحين ينجح الولد ويأتي بالمجموع المناسب يقال : " أبدي المخض عن الزبد " . والحق تبارك وتعالى يقول : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [ البقرة : 26 ] . وكانوا قد قالوا : كيف يضرب الله المثل ببعوضة وقال سبحانه : { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ } [ الحج : 73 ] . لقد فهموا قوله : " فما فوقها " أنها أكبر منها ، والمراد غير ذلك لأنه سبحانه ضرب المثل بالأقل لذلك قال : " فما فوقها " من باب فما فوقها في الاحتقار منكم والقلة في الحجم مما تنكرونه ، وهو الضآلة . وحتى تفهم ذلك نسمع أحياناً : فلان مريض . ويرد السامع وفلان فوقه في المرض . ونجد " فوقه " هنا لا تعني المرض الأقل ، بل المرض الأكثر شدة : { ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ] . والكلام موجه لليهود : أي أنتم يا بني إسرائيل مَثَلكم مثل الرجل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ، ولقد جاءت لكم في التوراة بشارة بمحمد ، ووصفته بسمات وعلامات ، بحيث إذا رآه الإنسان يعرف أنه الرسول الذي جاء ذكره في التوراة ، ويعرفه الواحد منكم كما يعرف ابناً له ، لأنه مذكور لكم بنصه ونعته وشكله وطوله ، وعرضه . وكنتم تستفتحون به على العرب . لكنكم امتنعتم عن التصديق بالآيات ، وعندما جاءكم بما عرفتم عنه كفرتم به . وصار مثلكم كمثل الرجل الذي آتاه الله الآيات فانسلخ منها { ذَّلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [ الأعراف : 176 ] . وهم بعنادهم وبغيهم وكفرهم قد كذبوا بالآيات الكونية التي يراها البصر السماء والأرض والشمس ، والآيات المعجزات التي يثبت بها الرسول صدق بلاغه عن الله ، وكذلك آيات القرآن التي تحمل منهج الله . { فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ] وعليك يا محمد أن تقصص القصص وأن تقول ما حدث وما كان ، وأنت لن تحكي الأمر التافه ، بل ستحكي ما يقال له قصص ويكون فيه عبرة تنفتح بها حركة المجتمع . ويذيل الحق الآية بقوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ] ، ونعلم أن القرآن قد جاء فيه الأمر بالتفكر والتذكر والتدبر . والتفكر - كما نعرف - هو عمل العقل في المقارنات بين البديلات المتنوعة لِيُرَجّح بديلاً على بديل فتُعقلَ به القضايا . والتذكر يعني إن غفلت عن هذا فتذكره ، حتى يزيح عنك الغفلة عن القضية المعلومة . أما التدبر فهو أيضاً بحث عقلي . فلا تنظر إلى واجهة الأشياء ، بل إلى كلية الأشياء من جميع جهاتها بواجهة وجوانب وخلف ، وما ينتج عنها . وعلى سبيل المثال يقال : انظر خلف العبارة ، لتجد المعنى الخفي فيما يقال . والمثال في قول الحق : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا … } [ البقرة : 26 ] . وحين تفكرنا وتدبرنا وجدنا أن معنى " فما فوقها " لا يعني الأعلى منها في القوة ، بل الأعلى منها في الضعف الذي أنكروه . لذلك لا يجب أن تنظر إلى معنى ومدلول اللفظ حسب ظاهره فقط ، بل لما خلف اللفظ ، ومعطياته . { فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الأعراف : 176 ] أي يتفكرون في أسلوب توجيه المنهج لعلهم يؤمنون ، وهذه فائدة القصص . ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ … } .