Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 185-185)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وبذلك ينتقل الجدل من الرسول المباشر لهم الذي يأخذ بيدهم إلى الإيمان الأعلى ، ينتقل الجدل إلى التفكير ومسئوليته : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأعراف : 185 ] . والتفكر هو إعمال العقل حتى لا يقولَنَّ أحد : إن رسول الله مجنون ، لأن مجرد النظر في الكون يجعل الإنسان رائيا للسماء مرفوعة بلا عمد ، والأرض مبسوطة والهواء يتحرك في انتظام دقيق . { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأعراف : 185 ] . إذن فوقَنا سماء ، وهناك ما فوق السماء ، وتحتنا الأرض ، وفيها ما تحت الأرض ، وهناك بين السماوات والأرض . وما نراه في الظاهر هو ما يسمونه " مُلْك " أما الخفي عنك الذي لا تقدر أن تصل إليه بمعادلات تستخرج منها النتائج فاسمه " ملكوت " . ويقول سبحانه في سيدنا إبراهيم : { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 75 ] . فكلمة " ملكوت " معناها مبالغة في الملك ، مثل رهبوت أي الرهبة الشديدة ، ورحموت أي الرحمة الشديدة ، وكلها صيغة " فعلوت " وهي صيغة المبالغة . { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [ الأعراف : 185 ] . ونحن نرى السماء والأرض بوضوح ، ولكن العظمة والسر ليسا في السماء والأرض فقط ، بل هناك أشياء دقيقة جداً ، بلغت من اللطف أنها لا تدرك بالنظر ، ومع ذلك فإن فيها الحكمة العليا للخلق . وأنت قد ترى ساعة " بيج بن " الشهيرة في لندن وتكاد أن تكون أضخم ساعة في العالم ، لكن الصانع المحترف من البشر صنع ساعة يد صغيرة في حجم الخاتم ، وننبهر ونتعجب بدقة عمله وصنعته . فما بالنا بالخالق الأعظم الذي يعظم خلقه من السمٰوات والأرض لأنها فوق إدراكات البشر ، وخلق أيضاً مخلوقات دقيقة لطيفة لا تستطيع أن تدركها أنت بمجرد النظر ، كالميكروب ، أو تدركها بصعوبة كالذبابة والبعوضة وبكل هذه الكائنات كل مقومات حياتها ، حتى الكائن الذي لا معدة له يجهزه خالقه بقدرة على امتصاص الدماء مباشرة بعقله أو غريزته ويسعى ليأكل ويملأ معدته وله أجهزة تحول غذائه ليكون دماً . إذن فليست العظمة مقصورة على خلق السمٰوات والأرض فقط ، لذلك يقول الحق : { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 185 ] . أي من أول شيء يقال له شيء ، صار محكوماً عليه وجودياً ، بأنك إن نظرت إليه ستجد الأجهزة التي نعطي له الحياة ، وتعينُه ، حتى وإن كانت حواس استشعارية في ذات هذا الكائن ، ولا يقوى عليها صاحب العقل . مثال ذلك : نجد أن ما يفر قبل حدوث الزلازل هو الحمير التي نتهمها بالغباء . وحين يتأمل العقل ما وصل إليه العلم في البحث في عالم الحيوان وعالم البحار ، سنجد الإيمان بضرورة وجود خالق حكيم . وإن كان الكافرون مصروفين عن النظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من كائنات قد لا تراها العين المجردة ، كان عليهم أن يراعوا مصلحتهم فعسى أن يكون قد اقترب أجلهم . إننا نعلم أن الإنسان جنس ، وأن له نوعين : نوع ذكورة ، ونوع أنوثة ، وبينهما جنس مشتبه نسميه الخنثى ، والأجناس لها أفراد متعددة . وكل واحد له خلق ، وكل واحد له موهبة ، وكل واحد له مهمة . وساعة يطلب منا الحق : إياك أن تستصغر شيئاً منك ضد غيرك ، وإياك أن تستكثر شيئاً منك لغيرك ، ويجب عليك أن تجعل كلمة " شيء " هذه هي المقياس ، ولذلك يقول لك الشرع : إنك حين تقدم حسنة إياك أن تستكثرها ، بل قل هي ليست بشيء ذي بال . وإن همّ واحد بعمل سيئة فلا يقل : وماذا ستفعل لي سيئة واحدة ؟ مستصغراً شأن هذه السيئة . وهذا نقول له : لا ، لأن كلمة " شيء " يجب أن تحكم الكون . إنك إن نظرت لهذه المسألة قد تجد واحداً مثلاً ضئيل التكوين ، ولا بسطة له في جسمه ، لكن من الجائز أن له موهبة كبيرة ، وقد تجد إنساناً آخر متين التكوين وليست عنده أية موهبة لأن الله قد يعطي الضئيل فكرا عميقاً ، أو حيلة كبيرة ، أو موهبة خاصة في أي شيء . فلا تنظر إلى شيء قليل في أي إنسان ، بل انظر إلى الشيء الجميل الذي فيه وهو المخفي عنك في نفسك . { وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ولماذا تأتي هنا حكاية اقتراب الأجل ؟ وللإجابة عن التساؤل أقول : إنها هامة جداً لأننا ما دمنا أفراداً أي جنسين أو ثلاثة أجناس ، وقال عنا ربنا إننا خلفاء في الأرض ، فعلينا أن نعلم أن الخليفة في الأرض جاء ليخلف من سبقوه ، وقد يُميت ربنا أي إنسان في سن شهر أو سنة ، أو سنتين أو خمسين عاماً لأن العمر بالنسبة لكل إنسان هو أمر قد اختص به الحق - تبارك وتعالى - نفسه ولا يعلمه أحد لأن غاية المتساوي لا بد أن تكون متساوية ، وعلى سبيل المثال : إن سألنا طلبة كلية الحقوق عن غايتهم من دراسة الحقوق قالوا : لنيل إجازة الليسانس ، وسنجد منهم الطويل ، والقصير ، والأبيض ، والأسود ، والذكي والغبي ، والقوي والضعيف ، وهم لا يتفقون إلا على دراسة الحقوق ، وكذلك لا نتساوى جميعاً كبشر إلا أمام الموت ، فهناك من يموت وهو في بطن أمه ، ومن يموت وهو طفل ، ومن يموت وهو فتى . وإن كنا نختلف فيما بقي بعد ذلك ، والمؤمن أو الكافر يرى هذه الأحداث أمامه ولا يستطيع أن يقول : لا لن أموت . ومادمت ستموت فانظر إلى مصلحتك أنت ، لتثاب على ما فعلت في الدنيا بدلاً من أن تعاقب ، فعسى أن يكون قد اقترب أجلك وأنت لا تعرف متى يجيء الأجل ، وإبهام الأجل من الله لنا إشاعة للأمل ، والإبهام هو أوضح أنواع البيان فحين يريد ربنا أن يوضح أمراً توضيحاً كاملاً فهو يبهمه . ومثال ذلك : لو جعل الله للموت سنّاً ، لصار الأمر محدداً بلا أمل . لكنه سبحانه لم يجعل للموت سنّاً أو سبباً ، وأشاعة في كل زمن ، والإنسان عرضة لأن يستقبل الموت في أي لحظة ، ونزول الموت لا يتوقف على سبب ، فقد يأتي بسبب وقد يأتي بغير سبب ، وما دام الإنسان يستقبل الموت في أي وقت ، فعلى العاصي ألا يستقبل الموت وهو على عصيان لله . وإياك أن تقول ، كيف مات فلان وهو غير مريض ؟ لأن هناك العديد من الأسباب للموت ، واعلم أن الموت بدون أسباب هو السبب ، فالإنسان الذي نفقده بالموت ، مات لأن أجله قد انتهى ، والحق هنا يوضح : أيها الكافرون ألا تعلمون أن منكم من مات وعمره سنة ومن مات وعمره سنتان ، ومن مات وعمره ثلاث سنوات ، ومن مات وهو ظالم ، ومن مات وهو مظلوم ، ولو لم تكن هناك حياة ثانية فماذا تساوي هذه الحياة ؟ . وما ذنب الذي لم يعش في الدنيا إلا شهراً ؟ لا بد إذن أن تعرفوا أن هناك غاية تنتظركم ، غايات فردية هي آجال الناس بذواتهم ، وآجال إجماعية تتمثل في يوم القيامة . وفي قوله تعالى : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [ الأعراف : 185 ] . يوضح الحق تبارك وتعالى : إنه إذا كان هذا الحديث الذي أنزلته إليهم وفيه ما فيه من الإعجاز ومن الإبداع ، ويجمع كل أنواع الكمالات ، فماذا يريدون أكثر من ذلك ؟ وهل في اتباعهم للأهواء ولتقنينات بعضهم لبعض سعادة لهم ؟ بالعكس إنهم يشقوْن بذلك . وكان يجب عليهم أن يتأدبوا مع الله ومع الرسول . ولذلك يقول سبحانه وتعالى : { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ … } .