Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 199-199)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهذه آية جمع فيها المولى سبحانه وتعالى مكارم الأخلاق . وبعد أن أبلغ الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يدعو المشركين لأن يكيدوا له مع شياطينهم وأصنامهم ولن يستطيعوا . وبعد ذلك يوضح له : أنا أحب أن تأخذ بالعفو ، وفي هذا تعليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن يتبعه ، وكلمة " العفو " ترد على ألسنتنا ، ونحن لا ندري أن لها معنى أصيلاً في اللغة . وقد يسألك سائل : من أين أتيت بهذا الشيء ؟ فتقول له : جاءني عفواً ، أي بدون جهد ، وبدون مشقة ، وبدون سعي إليه ولا احتيال لاقتنائه . ويقال أيضاً : إن هذا الشيء جاء لفلان عفو الخاطر ، أي لم يفكر فيه ، بل جاء ميسراً . هذا هو معنى العفو . والحق هنا يأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يأخذ العفو ، أي أن يأخذ الأمر الميسر السهل ، الذي لا تكلف فيه ولا اجتهاد لأنك بذلك تُسهل على الناس أمورهم ولا تعقدها ، أما حين تتكلف الأشياء ، فذلك يرهق الناس ، ولذلك يأمر الحق رسوله أن يقول : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] . وقوله : { وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ } أي أنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلف الأمور حتى تصير الحياة سهلة ولا يوجد لدد بين الناس لأن الذي يوجد اللدد هو التكلف وقهر الناس ، ويجب أن تقوم المعاملة فيما بينهم بدون لدد أو تكلف . ولذلك يقال : إن المؤمن هو السمح إذا باع ، والسمح إذا اشترى ، والسمح إذا اقتضى ، والسمح إذا اْقتُضِي منه : أي أنه في كل أموره سمح . وللأمر بأخذ " العفو " معنى آخر وهو أن تعفو عمن ظلمك لأن ذلك ييسر الأمور . والعفو أيضاً له معنى ثالث ، هو الأمر الزائد ، مثل قوله الحق تبارك وتعالى من قبل أن تفرض الزكاة : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] . ثم حدد الحق بعد ذلك الزكاة وأوجه إنفاقها ، ونلحظ أن الأمر بالإنفاق من قبل أن تفرض الزكاة ، والإنفاق بعد أن نزل الأمر بالزكاة يلتقيان في السهولة لأن المؤمن لا ينفق مما يحتاجه . بل من الزائد عن حاجته . وقول الله سبحانه وتعالى في الآية " خذ العفو " فيه أمر " خذ " ومقابله " أعْطِ " وقد تعطي إنساناً فلا يأخذ منك إن رأى أن ما تعطيه له ليس في مصلحته ، لكن إذا قال الحق تبارك وتعالى : " خذ " فهذا أمر يعود نفعه عليك ، فإن كان العفو عمن ظلمك في ظاهر الأمر ينقصك شيئاً ، فاعلم أنك أخذت العفو لنفسك . واعلم أن الحق سبحانه وتعالى يحب من عبده المؤمن أن يكون هينا ليناً مع إخوانه من المؤمنين . فإن عز عليه أخوه المؤمن فَلْيَهنْ له ، فإن تعالى أو تعالم أخ مسلم عليك ، فلا تتعال عليه أو تتعالم حتى لا تقوم معركة بينكما ، بل تواضع أنت ، ليزيدك الله رفعة وعزة . وكأن الله سبحانه وتعالى يؤكد لك : أنك حين تعطي العفو تأخذ الخير من خلاله . ودائماً أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت حين تدخل إلى منزلك وتجد ابناً لك قد أساء إلى أخيه فيتجه قلبك وحنانك إلى المظلوم . ونحن عيال ربنا ، فإن ظلم واحدٌ آخرَ ، فالظالم بظلمه يجعل الله في جانب المظلوم ، ولذلك يحتاج الظالم إلى أن نحسن إليه حيث كان سبباً في رعاية الله لنا فنفعل معه مثلما فعل سيدنا حسن البصري عندما قيل له : إن فلاناً اغتابك بالأمس . ونادى سيدنا حسن البصري الخادم وقال له : جاءنا طبق من باكورة الرطب . اذهب به إلى فلان - وحدد للخادم اسم من اغتابه - وتعجب الخادم : كيف تبعث بالرطب إليه وهو قد اغتابك ؟ فقال : أفلا أحسن إلى من جعل الله بجانبي ، قل له : " يقول لك سيدي بلغه أنك قد اغتبته فأهديت إليه حسناتك ، وهو أهداك رطبه " . { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } [ الأعراف : 199 ] . وتتناول الآية الكريمة الأمر بالعرف : والعرف هو السلوك الذي تعرف العقول صوابه ، وتطمئن إليه النفوس ، ويوافق شرع الله ، ونسميه العرف لأن الكل يتعارف عليه ، ولا أحد يستحيي منه ، لذلك نسمع في شتى المجتمعات عن بعض ألوان السلوك : هذا ما جرى به العرف . وما يجري به العرف عند المجتمعات المؤمنة يعتبر مصدراً من مصادر الأحكام الشرعية . وخير مثال على ذلك : أننا نجد الشاب لا يخجل من أن يطرق باب أسرة ليطلب يد ابنتها ، لأن هذا أمر متعارف عليه ولا حياء منه ، بينما نجد المجتمع المسلم يستحي أن يوجد بين أفراده إنسان يزني ، والغاية من الزنا الاستمتاع ، والغاية من طلب يد الفتاة هو الاستمتاع ، لكْن هناك فارق كبير بين متعة يحرمها الله عز وجل ، ومتعة يُحلّها الله تعالى . وفي نهاية الآية يقول الله تعالى : { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } [ الأعراف : 199 ] . وكيف يكون الإعراض عن الجاهلين ؟ . يخطئ من يظن أن الجاهل هو الذي لا يعلم ، لأن من لا يعلم هو الأمي ، أما الجاهل فهو من يعلم قضية تخالف الواقع . ونلحظ أن المشكلات لا تأتي من الأميين الذي لا يعلمون ، فالأمي من هؤلاء يصدق أي قضية تحدثه عنها وتكون مقبولة بالفطرة لأنه لا يملك بديلاً لها ، أما الجاهل فهو من يعلم قضية مخالفة للواقع ويحتاج إلى تغيير علمه بتلك القضية ، والخطوة الثانية أن تقنعه بالقضية الصحيحة . والحق هنا يوضح : أعرضْ عن الجاهل الذي يعتقد قضية مخالفة للواقع ويتعصب لها ، وأنت حين تعرض عن الجاهل ، يجب ألا تماريه ، أي لا تجادله لأن الجدل معه لن يؤدي إلى نتيجة مفيدة لذلك أقول لكل من يواجه قضية التدين ولم يقرأ عن الدين كتاباً واحداً ، وقرأ في كتب الانحراف عن الدين المئات ، أقول له : كما قرأت فيما يناهض الدين مئات الكتب فمن الحكمة يجب عليك أن تكون عادلاً ومنصفاً فتقرأ في مجال التدين بعض الكتب الخاصة به مثلما قرأت في غيرها . وإن أردت أن تبحث قضية الدين بحثاً منطقياً يصحح لك عقيدتك ، فعليك أن تخْرِج كل الاقتناعات المسبقة من قلبك ووجدانك . وتدرس الأمرين بعيداً عن قلبك ، ثم أدخل إلى قلبك الأمر الذي ترتاح إليه ، لكن لا تحتفظ في قلبك بقضية وتناهض منطوقها بظاهر لسانك . والحق سبحانه وتعالى يقول : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ الأحزاب : 4 ] . فأنت لك قلب واحد ، إما أن يمتلئ بالإيمان واليقين وإما بغير ذلك . والقلب حيز واحد فلا تشغله أنت بباطل ، حين تبحث قضية الحق ، بل أخرج الباطل من قلبك أولاً ، واجعل الباطل والحق خارجه ، وابحث بعقلك ، والذي ييسرُ إليك أن تدخله إلى قلبك فأدخله . وفي بيان معنى هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها روى لنا أبيّ قال : لما أنزل الله عز وجلّ على نبيه صلى الله عليه وسلم : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هذا يا جبريل ؟ قال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك " . وسبحانه - إذن - يريد أن يعلمنا قضية إيمانية إنسانية لأنك كمسلم تساعد المصاب في بدنه ، فما بالك بالمصاب في قيمه ، ألا يحتاج إلى معونتك ؟ . ويقول الحق بعد ذلك : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ … } .