Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 85-85)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

و " مدين " هو ابن من أبناء سيدنا إبراهيم جاء واستقر في هذا المكان ، فهو علم على شخصه ، وعلم على المكان الذي أقام فيه وسمي المكان باسمه ، فلما تكاثر أبناؤه وصاروا قبيلة أخذت القبيلة اسمه . إذن فـ " مدين " اسم عَلَمٌ على ابن إبراهيم ، وأطلق على المكان الذي استقر فيه من طور سيناء إلى الفرات ، وأطلق على القبيلة : { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } . الحق سبحانه وتعالى هنا يكرر " أخ " ليبين لك أنه إن قسا عليهم مرة فسيحنو عليهم مرة أخرى لأنهم إخوة له ومأنوس بهم ، وفيهم عاش ويعرفون عنه كل شيء ، وكان مدين قد تزوج من رقبة ابنة سيدنا لوط ، وحين تكاثر الاثنان صاروا قبيلة ، ويبلغهم سيدنا شعيب بالقضية العقدية التي يبلغها كل رسول : { يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } . والعبادة هي الطاعة للأمر والطاعة للنهي ، وأنت لا تطيع أمر آمر ولا نهي ناهٍ إلا إذا كان أعلى منك ، لأنه إن كان مساوياً لك ، فبعد أن يقول لك : " افعل كذا " ستسأله أنت : لماذا ؟ ، وبعد أن ينهاك عن شيء ستسأله أيضاً : لماذا ؟ . لكن الأب حينما يقول لطفله : أنت لا تفعل الشيء الفلاني ، فالابن لا يناقش لأنه يعرف أن أباه هو من يطعمه ويشربه ويكسوه ، وحين يكبر الطفل فهو يناقش لأن ذاتيته تتكون ، ويريد أن يعرف الأمر الذي سيقدم عليه . { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ … } [ الأعراف : 85 ] . وما دام قد قال لهم : { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } فهو رسول قادم ومرسل من الله ، ولا بد أن تكون معجزة يثبتها ، إلا أن شعيباً لم يأت لنا بالمعجزة ، إنما جاء بالبينَّة . { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ … } [ الأعراف : 85 ] . لأن كل المعاصي والكفر تدفع إلى الإخلال في الكيل والميزان ، وإذا كان شعيب قد قال ذلك لقومه فلا بد أن الإخلال في الكيل والميزان كان هو الأمر الشائع فيهم . فيأتي ليعالج الأمر الشائع . وهم كانوا يبخسون الكيل والميزان . ويظن الناس في ظاهر الأمر أنها عملية سهلة ، وأن القبح فيها قليل ، والاختلاس فيها هين يسير ، فحين يبخس في الميزان ولو بجزء قليل ، إنما يأخذ لنفسه في آخر الأمر جزءاً كبيراً . وأنت ساعة تكيل وتزن وتطفف فأنت تفعل ذلك في من يشتري . وستذهب أنت بعد ذلك لتشتري من أناس كثيرين سيفعلون مثلما فعلت ، فإذا ما وفيت الكيل والميزان ، فأنت تفعل ما هو في مصلحتك ، لأنك تنشر العدل السلوكي بين الناس بادئاً بنفسك ، ومصالحك كلها مع الآخرين . إنك حين تبيع أي سلعة ولو كانت بلحاً وتنقص في الميزان ، ستحقق لنفسك ربحاً ليس لك فيه حق ، وإن كنت تكيل قمحاً لتبيعه وأنقصت الكيل ، فأنت تأخذ ما ليس لك ، والقمح والبلح هما بعض من مقومات حياتك لأنك تحتاج إلى سلع كثيرة عند من يزن ، وعند من يكيل ، فإن أنقصت الميزان أو الكيل فلسوف يفعلون مثلما فعلت فيما يملكون لك ، وبذلك تخسر أنت ويصبح الخسران عاماً . { فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } [ الأعراف : 85 ] . وإذا كانت الخسارة في الكيل والميزان طفيفة ومحتملة ، فمن باب أولى ألا نبخس الناس أشياءهم فلا نظلمهم بأخذ أموالهم والاستيلاء على حقوقهم ، فلا نسرق لأن السارق يأخذ ما تصل إليه يده ، ولا نغتصب ، ولا نختلس ، ولا نرتشي ، لأنه إذا كان وفاء الكيل هو أول مطلوب الله منكم مع أن الخسارة فيه طفيفة ، إذن فبخس الناس أشياءهم يكون من باب أولى . ويتابع سبحانه : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } [ الأعراف : 85 ] . وبذلك نكون أمام أكثر من أمر جاء بها نبي الله شعيب : { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } وهذه العبادة لتربي فيهم مهابة وتزيدهم حباً واحتراماً للآمر الأعلى ، وكذلك ليخافوا من جبروته سبحانه . وبعد ذلك ضرورة يكون الأمر بالوفاء بالكيل والميزان ، والزجر عن أن يبخسوا الناس أشياءهم ، ثم النهي والتحذير من الإِفساد في الأرض { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } ، والإِصلاح الذي يطلبه الله منا أن نستديمه أو نرقيه إنما يتأتى بإيجاد مقومات الحياة على وجه جميل . مثال ذلك الهواء وهو العنصر الأول في الحياة المسخرة لك يصرّفه سبحانه حتى لا يفسد . والنعيم الثاني في الحياة وهو الشراب إنه سبحانه ينزل لك الماء من السماء ، ثم القوت الذي يخرجه لك من الأرض . والمواشي التي تأخذ منها اللبن ، والأوبار ، والأصواف ، والجلود ، كل ذلك سخره الله لك ، وهذا إصلاح في الأرض ، لكن هل هذه كل المقومات الأساسية ؟ لا لأنه إن وجدت كل هذه المقومات الأساسية ثم وجد الغصب ، والسرقة ، والرشوة ، والاختلاس ، فسيفسد كل شيء ، ولا يعدل كل ذلك ويقيمه ويجعله سوياً إلا الدين لأنه كمنهج يمنع الإِفساد في الأرض . { قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } [ الأعراف : 85 ] . إذن فهذه الأشياء التي هي إيفاء الكيل والميزان يأتي الأمر بها ، ثم يتبعها بما ينهى عنه وهو ألا نبخس الناس أشياءهم وألا نفسد في الأرض بعد إصلاحها ، كل ذلك يجمع المنهج . أوامر ونواهي ، وقد يبدو في ظاهر الأمر أنها مسائل تقيد حرية الإنسان ، فنقول : لا تنظر إلى نفسك أيها الإِنسان وأنت بمعزل عن المجتمع الواسع ، فأنت لا تملك من مصالحك إلا أمراً واحداً ، وهذا الأمر الذي تملكه أنت من مصالحك يكون أقل الأشياء عندك ، ولكن الأمور الأخرى التي تحتاج إليها هي بيد غيرك ، فإن أنت وفيت الكيل والميزان . فذلك خير لك فالذي يقيس لك القماش لا يغشك ، والذي يزن لك ما ليس عندك لا يغشك ، والذي يكيل لك الذي ليس عندك لا يغشك ، إذن فأنت واحد منهي عن أن تفعل ذلك ، وجميع الناس منهيون أن يفعلوا ذلك معك ، وبذلك تكون أن الكاسب . وإذا جئت إلى قوله تعالى : { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } ، فأنت مأمور ألا تبخس الناس أشياءهم ، وكل الناس مأمورون ألاّ يبخسوك شيئاً ، وإذا أفسدت في الأرض بعد إصلاحها فالناس مأمورون أيضاً ألاّ يفسدوا هذه الأرض وبذلك تكون أحظ منهم في كل شيء . ولذلك يجب على كل مكلَّف حين يستقبل تكليفاً قد يكون شاقاً على نفسه أن يتأمل هذا التكليف وأن يقول لنفسه : إياك أن تنظر إلى مشقة التكليف على نفسك ، ولكن انظر إلى ما يؤديه لنفسه : إياك أن تنظر إلى مشقة التكليف لك : لا تنظر إلى محارم غيرك ، فقد أمر غيرك ألاّ ينظر إلى محارمك ، وفي هذا عزة لك . وإذا أمرك التكليف ألاَّ تضع يدك في جيب غيرك وتسرق ، فقد أمر كل الناس ألاَّ يضعوا أيديهم في جيوبك ليسرقوك ، وبهذا نعيش في أمان . وإذا طلب التكليف منك وأنت غني أن تخرج زكاة مالك إياك أن تقول : مالي وتعبي وعرقي لأن المال مال الله ، وأنت كإنسان مخلوق ليس لك إلا توجيه الحركة ، والحركة تكون بطاقة مخلوقة لله ، والعقل الذي خطط مخلوق لله ، والانفعال الذي انفعل لك في الأرض من خلق الله ، ولكن الحق احترم عملك وناتجه وفرض عليك أن تخرج منه زكاة مُقدرة . فإياك أن تقول : أنه يأخذ مني ، لماذا ؟ لأن عالم الأغيار بادٍ وظاهر أمامك ، وكم رأيت من قوي ضعف ، ومن غني افتقر ، فإذا كان سبحانه قد طلب منك أن تعطي الفقير وتقوته ، فإن افتقرت فسيفعل لك ذلك ، وفي ذلك تأمين حياتك لأنك تعيش في مجتمع فلا تأس على نفسك إن مرت بك الأغيار لأن مجتمعك الإيماني لن يتركك ، أنت أو أولادك ، ويقول الحق : { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ] . فإن أردت أن تطمئن على أولادك الصغار بعد موتك فانظر للأيتام في مجتمعك وكن أباً لهم ، وحين تصير أنت أباً لهم ، وهذا أب لهم ، وذلك أب لهم ، سيشعر اليتيم أنه فقد أباً واحداً ، لكنَّه يحيا في مجتمع إيماني أوجد له من كل المؤمنين آباء ، فلا يحزن ، وكذلك لن تخاف على أولادك إن صاروا أيتاماً بعد أن غادرتهم إلى لقاء ربك لأنك رعيت اليتامى وعشت في مجتمع يرعاهم . ولكنك تحزن عندما ترى يتيماً مضيعاً في مجتمع لا يقوم على شأنه وتقول لنفسك : أنا إن مت سيضيع أبنائي هكذا . وهكذا تكون تكاليف الإيمان هي تأميناً للحياة . ومثال ذلك حين نقول للمرأة : تحجبي ، ولا تبدي زينتك لغير محارمك ، قد تظن المرأة في ظاهر الأمر أننا ضيقنا على حريتها ، لأنَّها تنسى أن المنهج يؤمِّن لها قبح الشيخوخة ، لأنها حين تتزوج صغيرة ، ثم يصل عمرها فوق الأربعين ويتغير شكلها من متاعب الحمل وتربية الأبناء ، ثم يرى زوجها فتاة في العشرين وغير محتشمة قد تفتنه وتصرفه عن زوجته ، وينظر إلى زوجته نظر غير المكترث بها ، وغير الراغب فيها . فالشرع قد أمر بالحجاب للمرأة وهي صغيرة ليصون لها زوجها إن صارت كبيرة غير مرغوب فيها . فإن منعها وهي صغيرة فقد منع عنها وهي كبيرة كل ذلك إذن من تأمينات المنهج للحياة . إذن فإيفاء الكيل ، وعدم إبخاس الناس أشياءهم وعدم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها خير للجميع في الدنيا ، بالإضافة إلى خير الآخرة ، ولذلك يذيل الحق الآية الكريمة بقوله : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 85 ] . و " ذلكم " إشارة إلى ما سبق من الأمر بعبادة الله فلا إله غيره وإلى الآمر باستيفاء الكيل والميزان ، وألاَّ نبخس الناس أشياءهم ، وألاَّ نفسد في الأرض بعد إصلاحها ، ووضع الحق ذلك في إطار { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } على الرغم من أن الخير سيأتي أيضاً لغير المؤمن ، وهكذا تكون كلمة " خير " تشمل خيراً في الدنيا ، وخيراً في الآخرة للمؤمن فقط . أما الكافر فسيأخذ الخير في الدنيا فقط ، ولا خير له في الآخرة ، فإن كنتم مؤمنين فسيتضاعف الخير لكم ليصير خيراً دائماً في الدنيا والآخرة . ويقول الحق بعد ذلك : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ … } .