Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 15-15)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ونعلم أن نداء الحق سبحانه وتعالى للمؤمنين بقوله : { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } ، إما أن يكون بعدها أمر بمتعلق الإيمان ومطلوبه ، وإما أن يكون بعدها الإيمان نفسه ، ومثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ … } [ النساء : 136 ] . وبعضهم يقول : كيف ينادى مؤمنين ثم يقول لهم : " آمِنوا " ؟ ، وهؤلاء المستفهمون لم يلتفتوا إلى أن الحق حين يكلم المؤمنين يعلم أنهم مؤمنون بالفعل ، ولكن الأغيار في الاختيار قد تدعوهم إلى أن يتراخى البعض منهم عن مطلوبات الإيمان . و " آمنوا " الثانية معناها : أنشئوا دائماً إيماناً جديداً أي مستمراً يتصل بالإيمان الحاضر والإيمان المستقبل ، ليدوم لكم الإيمان . فإذا كان ما بعد { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } أمراً بمطلوب الإيمان ، من حكم شرعي ، أو عظة أخلاقية . يكون أمرها واقعاً ، والمعنى : يا من آمنتم بي إلهاً قادراً حكيماً ، ثقوا في كل ما آمركم به لأني لا آمركم بشيء فيه مصلحة لي لأن صفات الكمال لي أزلية ، فخلقي لكم لم ينشئ صفة كمال ، فإن كلفتكم بشيء ، فتكليفي لكم يعود عليكم بالنفع والمصلحة لكم ، وضربنا المثل - ولله المثل الأعلى منزّه عن كل مثل - أنت تذهب إلى الطبيب بعد أن تتشاور مع أهلك وزملائك وتكون واثقاً بأن هذا هو الطبيب الذي ينفع في هذه الحالة التي تشكو منها ، وساعة تذهب إليه يشخص لك المرض ويكتب لك الدواء ، وسواء استخدمت الدواء أم لم تستخدمه فأنت حر وأثر ذلك يعود عليك وعدم استعمالك الدواء لن يضر الطبيب شيئاً ، بل أنت الذي تضر نفسك ، كذلك منهج الله الذي جعله لصلاحية حركة الحياة . إن اتبعته وطبقته تنفع نفسك ، وإن تركته فلم تطبقه فسوف تضر نفسك ، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى : { وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ … } [ الكهف : 29 ] . إذن فالاختيار لك والله سبحانه وتعالى قد خلقك ، وخلق الكون الذي يخدمك من قبل أن توجد ، وأنت طارىء على هذا الكون ، طارىء على الشمس وعلى القمر ، وعلى الأرض ، وعلى الجبال ، وعلى الماء وعلى أي شيء في هذا الوجود . والذي خلق ما سبقك لا بد أن تكون له صفات الكمال المطلق . فهو سبحانه وتعالى قد خلق كل شيء بالحكمة والنظام ، وما دامت له سبحانه وتعالى صفات الكمال المطلق المستوعبة ، فهو لا يطلب منك بالتكاليف أن تُنشىء له صفات كمال جديدة ، وهو غني عنك . فإذا اقتنعت بالإيمان فلمصلحتك أنت ، ولم يكلفْك إلا بالأحكام التي تصلح من حالك . وحيثية كل حكم هو تصديره بـ { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } . إياك أن تبحث عن علة في الحكم لأنك لو ذهبت إلى الحكم لعلته ، لاشتركت مع غير المؤمنين ، فالمؤمن - مثلاً - حين سمع الأمر باجتناب الخمر ، امتثل للحكم لأنه صادر من الله ، من بعد ذلك عرف غير المؤمنين - بالتحليل العلمي - أن الخمر ضارة فامتنعوا عنها ، فهل امتناعهم هو امتناع إيماني ؟ لا . إذن فإن المؤمن يأخذ الأمر من الله عز وجل لا لعلة الأمر بل لمجرد أنه قد صدر من الله لذلك يمتثل للأمر وينفذه … فالمسلم يمتثل لأوامر الله ويؤدي العمل الصالح دون بحث أو تساؤل عن علته ، فحين يقال - على سبيل المثال - إن من فوائد الصيام أن يذوق الغني ألم الجوع ، ويعطف على الفقير ، حين أسمع من يقول ذلك أقول له : قولك صحيح لأن فيه لمسة من فهم ، لكن ماذا عن صوم الفقير الذي ليس عنده ما يعطيه لغيره ، ألا يصوم أيضاً ؟ . إن المؤمن يصوم لأن الأمر جاء من الله بالصيام . ومعظم أحكام الله تأتي مسبوقة بقوله : { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } ، أي : يا من آمنتم بي إلهاً أقبلوا عليّ ، فإنكم إن بحثتم عن العلة ، ثم نفذتم الحكم لعلته فأنتم غير مؤمنين بالإله الآمر والمشرع ، لكنكم مؤمنون بعلة المأمور به ، والله يريدك أن ترضخ له فقط ، ولذلك يأمرك بأوامر وينهاك بنواهٍ ، فأنت - مثلاً - حين تحج بيت الله الحرام ، تسلم على الحجر الأسود بأمر من الله ، وقد تتيح لك الظروف أن تقبِّل هذا الحجر كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت في كل ذلك لا ترضخ للحجر . بل للآمر الأعلى الذي بعث محمداً بحرب على الأصنام وعلى الأحجار ، وأنت تتبع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بمنتهى التسليم والإيمان ، وتذهب بعد ذلك لترجم الأحجار التي هي رمز إبليس . وتفعل ذلك تسليماً لأوامر الله تعالى التي بلغتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهنا يقول الحق تبارك وتعالى : { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } [ الأنفال : 15 ] . فما دمت قد آمنت بالإله ، لا بد أن تدافع عن منهج الإله لأن هذا أيضاً لمصلحتك لأنك بإيمانك بالله أيها المؤمن ينتفع المجتمع كله بخيرك ، ولن يأمرك سبحانه إلا بالخير ، فلن تسرق ، ولن تزني ، ولن تشرب خمراً ، ولن تعربد في الناس ، ولن ترتشي ، وبكل ذلك السلوك ينتفع المجتمع لأن المجتمع يضار حين يوجد به فريق غير مهتدٍ . وأنت حين تقاتل لتفرض الكلمة الإيمانية هلى هؤلاء ، فهذا يعود إلى مصلحتك ، ولذلك فإن اتصافك بالإيمان لا يتحقق إلا إن عديته لغيرك ، ومن حبك لنفسك ، أن تعدى الإيمان بالقيم التي عندك إلى غيرك لتنتفع أنت بسلوك من يؤمن ، وينتفع غيرك بسلوكك معه ، ومن مصلحتك أن يؤمن الجميع . وحين يكلفك الحق تبارك وتعالى بالجهاد في سبيل الله فأنت تفعل ذلك لصالحك . { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً . . } [ الأنفال : 15 ] . وزحفاً مصدر زَحَف ، والزَّحْف في الأصل هو الانتقال من مكان إلى مكان آخر بالنصف الأعلى من الجسم . وتقول : " الولد زحف " أي تحرك من مكانه بنقل يديه وشد بذلك بقية جسمه . كما نقول : " حباً " . أي استعمل الوركين والركبتين ليتحرك بجسده على الأرض ، ثم نقول : " مشى " أي وقف على قدميه وسار ، فتلك إذن مراحل تبدأ من زَحْف ثم حَبْو ثم مَشْى ، والطفل يبدأ حركته الأولى بالزحف ، بعد أن يتمكن من السيطرة على رأسه ، ويمتلك القدرة على تحريكها بإرادته ، ويقوى نصفه الأعلى ، فيقعد ، ثم يزحف ، وبعد ذلك تقوى فخذاه فيحبو ، ومن بعد ذلك تقوى الساقان فيمشي . إذن قوة الطفل تبدأ من أعلى . ولكن ما حكاية " زحفا " هنا في هذه الآية الكريمة ؟ ولماذا لم يقل هرْولوا إلى القتال ؟ . ونقول : إن الزحف هو انتقال كتلة لا ترى الناقل فيها ، فمن يراها يظن أن الكتلة كلها تتحرك . وكأن الحق تعالى يقصد : أريد منكم أن تتحركوا إلى الحرب كتلة واحدة متلاصقين تماماً فيظهر الأمر وكأنكم تزحفون . وزحفاً أصلها زاحفين ، وقد عدل سبحانه وتعالى عن اسم الفاعل وجاء بالمصدر ، مثلما نقول عن إنسان عادل : إنه إنسان عدل ، أي أن عدله مجسم . ولذلك نجد الشاعر يقول عن الجيش الزاحف : @ خميس بِشَرْقِ الأرضِ والغربِ زحفُه وفي أذنِ الجوزاءِ منه زمازم @@ والخميس هو الجيش الجرار ، ويريد الشاعر أن يُصوِّر الزحف كأنه كتلة واحدة متماسكة ومترابطة ، بحيث لا تستطيع أن تميز حركة جندي من حركة جندي آخر ، حتى ليخيّل إليك أن الكتلة كلها تسير معاً . ومن يريد أن يتأكد من ذلك ندعو الله أن يكتب له الحج ويصعد إلى الدور الثاني من الحرم المكي الشريف ويرى الطائفين ، ويجدهم ملتحمين جميعاً كأنهم كتلة واحدة تسير ، ولذلك سمّوها " السيل " . و " سالت بأعناق المطي الأباطح " . مَثلُهم مثل السيل في تدفقه لا تفرق فيه نقطة عن أخرى . والحق تبارك وتعالى يوضح لنا هنا أن لقاء الكفار يجب أن يكون زحفاً أي كتلة واحدة متماسكة ، فيصيب المشهد الكافرين بالرعب حين يرون هذه الكتلة الضخمة التي لا يفرق أحد بين أعضائها ، وهكذا تكون المواجهة الحقيقية . ويواصل الحق سبحانه وتعالى التنبيه فيقول : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } [ الأنفال : 15 ] . أي لا تعطوهم ظهوركم ، وهو سبحانه وتعالى في آية أخرى يقول : { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [ المائدة : 21 ] . ويريد الله أن يعطي صورة بشعة في أذن القوم لأن " الأدبار " جمع " دبر " والدبر مفهوم أنه الخلف ويقابله القُبُل ، وهذا تحذير لك من أن تمكن عدوك من ظهرك أي دبرك ، لأن هذا أمر مستهجن ، ولذلك نجد الإمام عليا - كرّم الله وجهه - يرد على من قالوا له إن درعك له صدار وليس له ظِهار ، أي مغطى من الصدر ، وليس له ظهر . وهنا يقول الإمام علي رضي الله عنه : " ثكلتني أمي إن مكّنت عدوي من ظهري " ، وكأن شهامة وشجاعة الإمام تحمله على أنه يترك ظهره من غير وقاية . وفي قول الحق جل وعلا { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } تحذير من الفرار من مواجهة العدو . ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ … } .