Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 22-22)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وكلمة " دابَّة " تعني كل ما يدب على الأرض ، ولكنها خُصَّتَّ عرفاً بذوات الأربع . وجمع دابة دوابّ . و " الدواب " كما نعلم هي القسم الثالث من الوجود ، لأن الوجود مرتقي إلى حلقات أولها الجماد ، وثانيها النبات ، وثالثها الحيوان ، ورابعها الإنسان ، ويجمع هذه الأشياء الأربعة رباط واحد ، فنجد أن أعلى مرتبة في الأدنى ، هي أول مرتبة في الأعلى ، فالأدنى هو الجماد ، وفوقه النبات ، وأعلى شيء في الجماد ، يُمثل أول شيء في النبات ، مثل المرجانيات ، كأن الجماد نفسه له ارتقاءات في ذاته تتوقف عند مرحلة معينة لا يتعداها ، فلا ترتقي إلى أن تصير نباتاً ، أو أن يصبح النبات حيواناً ، لا ، إن كل قسم يظل مستقلاً بذاته وفيه ارتقاءات تقف عند حد معين . وإذا كان أعلى شيء في الجماد يكاد أن يماثل أول شيء في النبات ، فهو لا يتحول نباتاً مثل ظاهرة نمو الشعاب المرجانية التي أخذت ظاهرة النبات ، لكنها لا تنتقل إلى نبات ، بل تظل أعلى قمة في الجماد . وكذلك النبات ، نجده يرتقي إلى أن ينتهي إلى أعلى مرحلة فيه . فالنبات مراحل ، وآخر مرحلة فيه أن يوجد نبات يُحسّ ، لأن الإحساس فرع الحياة ، وهذا ما نراه في نباتات الظل التي نشاهدها وهي تتجه بطبيعة تكوينها إلى نور النهار . وكأن فيها نوْعاً من الإحساس . وإن تغير مكان الضوء ، فإنها تُغيِّر اتجاهها إلى المكان الجديد . وهناك نوع من النبات يذبل فور أن تلمسه . ونسمع عن نبات يسمى في الريف " الست المستحية " وهي تغلق أوراقها على ثمرتها فور اللمس ، وأخذت أعلى مرتبة في النبات ، وهي أول مرتبة في الحيوان ، لكنها لا ترتقي إلى حيوان . بل تظل في حلقتها كنبات . ونأتي إلى الحيوانات لنجدها ترتقي ، فهناك حيوانات تستأنس ، وحيوانات لا تستأنس ، بل تظل متوحشة ، وقد خلقها ربنا لحكمة ما . فالإنسان يستأنس الجمل ولا يستطيع أن يستأنس الثعبان ، ولا البرغوث ، كأن الله يريد بذلك أن يعلمنا أننا لم نستأنس الحيوانات التي نستأنسها بقدرتنا وبذكائنا بل هو الذي جعلك تأنس بها ، فأنت أنست بالجمل ، وقد ترى البنت الصغيرة وهي تقوده ، وتأمره بالقيام والقعود ، بينما البرغوث الصغير قد يجعل الإنسان ساهراً طوال الليل لا يعرف كيف يصطاده . إذن هذه الأمور تعطينا حكمة أوجزها الحق تبارك وتعالى في قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 71 - 72 ] . ولو لم يذلل الحق تبارك وتعالى هذه المخلوقات ، لما استطاع الإنسان تذليلها ، ونرى المخلوق الصغير وقد عجز الإنسان أمام تذليله ، ليعرف أن المذلل ليس الإنسان ، بل المذلل هو الله سبحانه وتعالى . وفي المستأنس من الحيوانات تجد نوعاً تُعوده على بعض الأشياء فيعتادها ويقوم بها مثل القرد الذي يقول له مدربه اعجن عجين الصبية ، أو العجوزة ، فيقلد القرد الصبية أو " العجوزة " لأن فيه قابلية التقليد ، فهو يملك درجة من الفهم وهو أعلى مرتبة في الحيوان ، ويقف عندها ولا يتطور إلى خارجها ، بدليل أنك إن علمت قرداً كل شيء ، فهو يصنع ما تعلمه له من الحركات ويضحك الناس منه ، لكن القرد لا يستطيع أن يعلمها لبني جنسه . وكذلك نجد من يدرب الأسد والنمر ليؤدي فقرات ترفيهية في السيرك ، لكن الأسد لا يعلم أولاده من الأشبال ما تعلمه من مدرب السيرك . إذن فالوجود بحلقاته الأربع جماداً ونباتاً وحيواناً وإنساناً لا ترتقي فيه حلقة إلى الأعلى منها بل تقف عند حد معين ، وتلك هي الشبهة التي أصابت بعض المفكرين في أن يظنوا أن أصل الإنسان قرد لأن المخلوقات حلقات يسلم بعضها لبعض ، وأدنى مرتبة في الأعلى لكل حلقة هي أعلى مرتبة في الأدنى وتقف في حدودها . والذي يهدم نظرية داروين من أولها هو هذا الفهم لطبيعة التطور : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ … } [ الذاريات : 49 ] . أي أن كل الكائنات مخلوقة ابتداءً من الله ، ولا يوجد جنس قد نشأ من جنس آخر . ونقدم هذا الدليل العقلي لغير المتدينين ، فنقول : لماذا لم تؤثر الظروف التي أثرت في القرد الأول ليصير إنساناً ، في بقية القرود لتكون أناساً ؟ وهكذا تنهدم النظرية - نظرية داروين - من أولها لآخرها ، وعلماء الأجناس يهدمونها الآن . والحق تبارك وتعالى أخبرنا أن هذه المخلوقات التي تقع في المرتبة تحت الإنسان ، لا تستطيع أن ترتب المقدمات ، وتأخذ منها النتائج . ولا تعرف البديلات في الاختيار ، والحيوان وهو أرقى الأجناس ليس عنده بديلات إنه يتعلم مهمة واحدة وتنتهي المسألة لأنها دواب لا تعقل ، لكن الإنسان يملك القدرة على الاختيار بين البديلات . وجرب أن تعاكس قطة فإنك تجدها تهاجمك وتجرحك بمخالبها إلا إن كنت أنت مستأنسها وتعرف أنك تداعبها . أمَّا المؤمن العاقل المكلف فهو يتصرف في المواقف بشكل مختلف . فإن قام إنسان بإيذائه فقد يعاقبه بمثل ما عوقب ، وقد يعفو عنه ، وقد يكظم غيظه . { وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ … } [ آل عمران : 134 ] . إذن فأنت أيها المؤمن عندك بديلات كثيرة ، لكن الحيوان لا يملك مثل هذه البديلات . ولذلك ضربنا من قبل المثل : لو أنك علفت حيواناً إلى أن أكل وشبع ثم جئت إليه بعد شبعه بشيء زائد من أشهى طعام عنده تجده لا يأكله . بينما الإنسان إن شبع فقد لا يمانع أن يأكل فوق الشبع من صنف يحبه . ومثال آخر : نرى في الريف أن الحمار حين يرى جدولاً من المياه ويكون اتساع الجدول فوق قدرته على أن يقفز عليه ليعبره ، نجد الحمار قد توقف رافضاً القفز أو المرور فوق هذا الجدول . فهل قاس الحمار المسافة بنظره ووازنها بقدرته ؟ ! إنه يقفز فوق الجداول التي في متناول قدرته ، لكنه يرفض ما فوق هذه القدرة ، رغم أننا نصف الحمار بالبلادة . وهذا يبين لنا أن كل جنس يسير في ناموس تكوينه ليؤدي مهمته التي أرادها له الله . ولقائل أن يقول : كيف يقول الحق تبارك وتعالى : { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ } بينما الحيوانات كلها مسخرة ؟ ونقول : إذا كنت أيها الإنسان تأخذ وظيفة الأدنى فأنت تختار أن تكون شراً من الدابة لأن الأدنى مسخر بقانونه ويفعل الأشياء بغرائزه لا بفكره ، فكأن فكر الاختيار بين البديلات غير موجود فيه ، لكنك أيها الإنسان ميزك الله بالعقل الذي يختار بين البديلات ، فإن أوقفت عقلك عن العمل ، وسلبت قدرتك على القبول لما تسمع من وحي ألا تكون شر الدواب ؟ وحين نتأمل كلمة " شر وخير " نقرأ قول الحق تبارك وتعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] . فالخير يقابله الشر ، وحين يقابل الخير الشر ، فالإنسان يميز الخير ، لأنه نافع وحسن ، ويميز الشر لأنه ضار وقبيح . ولكن كلمة " خير " تستعمل أحياناً استعمالاً آخر لا يقابله الشر ، بل يقال : إن هذا الأمر خير من الثاني ، رغم أن الثاني أيضاً خير ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير " . إنّ كلاً منهما - أي المؤمن القوي والمؤمن الضعيف - فيه خير ، لكن في الخير ارتقاءات ، هناك خير يزيد عن خير ، ويخبر المولى في قوله تعالى : { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَآبِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } . أي أن الكفار شر ما دبَّ على الأرض لأنهم قد افتقدوا وسيلة الهداية وهي السماع ، وبذلك صاروا بكماً أي لا ينطقون كلمة الهدى . ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك : { وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ … } .