Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 29-29)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ويستهل الحق تبارك وتعالى هذه الآية الكريمة بنداء الإيمان ، ثم يضع شرطاً هو : { إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ } ، ويكون جواب الشرط أن يجعل لنا فرقاناً ، ويكفر عنا السيئات ، ويغفر لنا وسبحانه هو الكريم وصاحب الفضل العظيم . والمراد بالتقوى هنا أن تكون التزاماً بالأحكام وقمة الالتزام بالأحكام هي الإيمان بالله عز وجل ، وإذا وجد الاثنان الإيمان بالله والالتزام بالأحكام ، لا بد أن يتحقق وعد الله المتمثل في قوله تعالى : { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [ الأنفال : 29 ] . والفرقان من مادة " فرق " " الفاء والراء والقاف " ، وتأتي دائماً للفصل بين شيئين ، مثلما ضرب موسى البحر بعصاه فكان كل فِرْق كالطود العظيم . وسبحانه وتعالى يقول : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ … } [ البقرة : 50 ] . أي نزع الله سبحانه الاتصال بين متصلين فصار بينهما فرق كبير . وافرض - على سبيل المثال - أنك أحضرت ثوباً من قماشٍ مُتَساوٍ في النسيج واللون ، ثم شققت من الثوب جزءاً منه هنا لا يقال إنك فرقت بين القطعتين ، بل فصلت بينهما ، لكن لا يقال فِرْق إلا إذا كان الفصل يؤدي إلى فرقتين فِرقة هنا ، وفِرقة هناك وهذه لها أشياء ومتعلقات ، وتلك لها أشياء ومتعلقات . إذن فالفرق ليس هو الفصل بين متلاحمين فقط ، بل هو فصل يؤدي إلى أن يكون لكل فرقة منهج ، ومذهب ، ورأي . و { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } أي يفصل بين شيئين لم يكن يوجد بينهما اتفاق لأنه لو كان بينهما اتفاق لصارا فرقة واحدة ، لكن لأنهما مختلفان لذلك لا بد من وجود تناقض بينهما . وهنا يقول الحق تبارك وتعالى : إنه يجعل لكم فرقاناً ، مثال ذلك ، هناك من يهتدي ، وهناك من يضل . وبطبيعة الحال يوجد فرق بين الهدى وبين الضلال . فالله شرح صدر المهتدي للإسلام ، وجعل صدر الكافر ضيقاً حرجا فيه غل وحقد وحسد ومكر ، وخديعة لذلك يفصل ربنا بين من بقلبه طمأنينة الإيمان وبين من يمتلىء صدره بالضغينة ، فالمؤمن من فرقة تختلف عن فرقة أصحاب القلوب الحقودة . وحين يقول الحق سبحانه وتعالى : { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً … } [ الأنفال : 29 ] . أي أنه سبحانه وتعالى يفصل بينكم أو يفصل بين عموم الحق وعموم الباطل لأنه يريد أن تكون حركة الحياة وحدة متكاملة منسجمة ، لا يسودها هوى جماعة ضد جماعة لها هوى آخر لأنهم كلهم خلفاء لله في الأرض ، وكلهم مخلوقون لله ، وكلهم متمتعون بخيرات الله لذلك يجب أن تكون حركاتهم متساندة ومتناسقة غير متعاندة . والتفرق - كما نعلم - إنما ينشأ عن اشتباك بين فريقين اثنين ، واحد منهما يمثل فريق الهدى ، والثاني هو من حق عليه عذاب الله . { إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً . . } [ الأنفال : 29 ] . ويتمثل الفرقان في هدى القلب ، والبصيرة والعلم وأي شيء يفصل بين الحق والباطل ، وأحوال الإنسان - كما نعلم - قسمان : أحوال الدنيا ، وأحوال الآخرة ، وأحوال الدنيا فيها أمور قلبية مستترة ، وفيها أمور ظاهرة ، وإن نظرنا إلى حالات الدنيا نجد منها الظاهر وهو الحركة المحسة ، ومنها القلبي الذي لا يعرفه من بعد الله إلا صاحب القلب . والفرقان في أحوال الدنيا القلبية تلمسه حين تجد من اهتدى ، ومن ضل ونجد أن المهتدي قد شرح ربنا صدره للإسلام . ونجد أن الضال هو من لم يشرح الله صدره للإسلام والمهتدي يعيش ضمن الفريق الذي لا غل فيه ولا حقد ، والضال هو من يعيش في فريق يتصف بالغل والحقد ، هذا في الأمور القلبية . أما في الأعمال الظاهرة ، فالحق يجعل الفرقان بين أهل الإيمان وأهل الكفر بالنصر ، والغلبة ، والعزة . وماذا عن الفرقان في الآخرة ؟ . إن الحق يجعل الفرقان في الآخرة بحيث يكون لأهل الإيمان النعيم المقيم والثواب العظيم ، ويجعل لأهل الكفر العذاب الشديد والمقت الكبير . { إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ … } [ الأنفال : 29 ] . وإذا كنا سنتقي الله فهل سيكون لنا سيئات ؟ . وأقول : إن أردت بقوله : { إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ } إيماناً به ، فسبحانه يُكَفِّر عنكم سيئاتكم صغائرها وكبائرها . ولا يضر مع الإيمان معصية ، بل تدخل في عفو الله وغفرانه . وإن أردت بالتقوى " التزام أمر " فتكفير السيئات يعني أن نتقي الله بترك الكبائر فيكفر عنا السيئات وهي الصغائر . والتكفير على نوعين أولاً أن يسترها عليك في الدنيا ، أو يذهب عنك عقوبة الآخرة ، ولذلك يقول سبحانه في ختام جميل للآية : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [ الأنفال : 29 ] . وحين يوصف الفضل بأنه عظيم ، فمعنى ذلك أنَّ هناك فَضْلاً أقل من عظيم ، كما أنَّ هناك فَضْلاً يعلوه تميزاً . نعم ، ونعلم أن التفاضل موجود عند البشر هذا يتفضل على هذا بطعام ، أو يتفضل عليه بِمَلْبَس ، أو يتفضل عليه بشراب ، أو يتفضل عليه بمسكن ، أي أن هناك أنواعاً متعددة من الفضل ، لكنها لا توصف بالعظمة لأن الفضل العظيم يكون من الله تعالى فقط لأنه سيؤول إليه كل فضل من دونه ، فمن أعطى آخر رغيف خبز فلنعلم أن وراءه من أحضر الخبز من المخبز ، ووراءه من جاء بالدقيق من المطحن ، ووراءه من زرع وحصد . إذن كل فضل هو من الله ومآله مردود إلى الله عز وجل ، وهذا هو الفضل العظيم . وأيضاً نجد أن الذي يتفضل على واحد لا بد أنه يبغي من وراء هذا الفضل شيئاً ، مثل كمال الذات ، وأنه يود الحمد والثناء ، ويبغي راحة نفس إنسانية ، ونرى أناساً يؤدون الفضل لغيرهم ليقللوا من آلامهم ، لا لأنهم يطبقون منهج الله ، بل يرغبون في مجرد راحة النفس ، مثل الكفار الذين يصنعون أشياء تفيد الناس ، فهم يفعلونها وليس في بالهم الله ، بل في بالهم راحة النفس وانسجامها . إذن فالذي يتفضل إنما يريد شيئاً ، إما كمال مال أو ثناء وإطراء ، وراحة نفس من مناظر الإيلام التي يراها ، وهذا دليل على أنه يعاني من نقص ما ويريد أن يكمله . فإذا كان الله عز وجل هو صاحب الفضل ، ألله نقص في كمال ؟ ! ! لا . إذن فهذا هو الفضل العظيم ويمنحه لعباده تفضلاً منه دون رغبة في كمال أو ثناء ، وأيضاً فكل فضل من دون الله يتضمّن المنّ ، لكن فضل الله تعالى ليس فيه منّ وليس فيه ذِلة لأحد . وقد يستنكف إنسان أن يأخذ شيئاً من إنسان آخر . لكن من الذي يستنكف على فضل الله ؟ . لا أحد . لأنَّ الحياة كلها هبة منه ، ولذلك يُضرب المثل بالفتاة التي قالت لمعن بن زائدة : @ فَعُدْ إنَّ الكريَم له معاد وظنِّي بِابْن أروى أن يعودا @@ وكانت الفتاة تطالب ابن زائدة أن يعود إلى التفضل عليهم ، فنهرها أبوها ، فقالت له : يا أبي إن الملوك لا يُسْتَحَى من الطلب منهم . { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [ الأنفال : 29 ] . ويريد الحق سبحانه وتعالى أن تنتبه إلى أن كل مظهر من مظاهر وجودك في الحياة ومظاهر استبقاء حياتك ، ومظاهر نعيمك كلها ، إن نسبتها فستصل إلى الله ، فإن كنت تشتري - على سبيل المثال - أثاثاً لبيتك ، واخْتَرت خَشَب الورد ليكون هو الخشب الذي يصنع لك منه النجار هذا الأثاث ، فأنت تأتي بهذا الخشب من أندونيسيا أو باكستان مثلاً لأن الغابات هناك تنتج مثل هذا النوع من الخشب ، وكل شيء في حياتك إن سلسلته ستجد أن أيدي المخلوقات من البشر تنتهي عند خلق لله وهبه للإنسان ، وهذا هو الفضل العظيم من الله تبارك وتعالى . وبعد أن أوضح الحق سبحانه وتعالى بهذا التوجيه : لا تخونوا الله ، ولا تخونوا الرسول ، ولا تخونوا أماناتكم ، من أجل أولادكم أو أزواجكم ، واعلموا أن مرد كل الفضل إلى الله تعالى ، واذكروا واقع الدنيا معكم ، أصدقت هذه المسائل أم لم تصدق ؟ لقد صدقت كلها ، كما قال الحق سبحانه وتعالى من قبل : { وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ … } [ الأنفال : 26 ] . وكان هذا القول بالنسبة للمسلمين ، فماذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ . هنا يقول المولى سبحانه : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ … } .