Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 49-49)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" المنافق " كلمة مأخوذة من نافقاء اليربوع ، وهو حيوان يشبه الفأر يعيش في الجبال في سراديب ، وحين يتتبعه حيوان آخر ليفترسه ، فهو يسرع إلى جحره الذي يشبه السرداب ، وهو يفتح أكثر من فتحة لهذا الجحر لتكون مخارج له ، ومثل هذه الفتحات كالأبواب الخلفية ، فينجو من الافتراس ، فكأنه فتح لنفسه نفقاً ، ينافق منه غيره فلا يقوى على اللحاق به . ولذلك نجد المنافق متعارضاً مع نفسه ينطق لسانه بما لا يؤمن به ، وبينما المؤمن منسجم النفس ينطق لسانه بما في قلبه ، والكافر أيضاً كذلك منسجم ينطق لسانه بما في قلبه من الكفر ، ولكن المنافق متخبط مع نفسه ، لسانه يقول كلمات الإيمان وقلبه يضمر الكفر ، وهكذا تتعاند ملكات المنافق ، وحينما يكون القلب واللسان متعاندين لا توجد راحة نفسية ، وحسبك من المنافق أنه متعاند في الملكات . ويصف الحق سبحانه وتعالى المنافقين بقوله : { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] . إذن فالذاتية ضائعة لأن الإنسان لا يفقد ذاته حينما تكون ملكاته منسجمة ولا توجد ملكة تعارض ملكة أخرى ويكون عمله متوازناً ، ولكن الذي تتعاند ملكاته يعيش دائماً في قلق نفسي وحيرة . ولذلك يحاول أن يهرب من واقعه ، فيلجأ إلى المخدرات أو غيرها ، وليس الحل بأن يخدر الإنسان نفسه أمام الأحداث ، ولكن لا بد أن يواجه الإنسان الأحداث ويحاول إيجاد حل لها ، والمنافق لا يقدر على ذلك فينهار ، ويقول الله تعالى : { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ … } [ الأنفال : 49 ] . وبعد أن ينتصر المؤمنون نجدهم وهم يزدادون إيماناً وثقة في أنفسهم ، وتملؤهم عزة الإيمان ، فينظر إليهم المنافقون بحسد وحقد لأنهم يكرهون المؤمنين ولا يتمنون لهم خيراً ، فهم في نفاقهم كفار ، في قلوبهم غل للمؤمنين يخاطب بعضهم البعض ويقولون : أصاب هؤلاء الغرور بدينهم . ولكن ما أصاب المؤمنين ليس غروراً لأن معنى الغرور أن تغار بخصلة فيك تجعلك متفوقاً على غيرك والمؤمن ساعة النصر لا يغتر بنفسه ولكنه يعتز بالله القوي العزيز ، ويزداد تواضعاً له ويكون مشغولاً بشكر الله على ما حققه له من نصر ، أما المغرور فهو من يعزل النعمة عن المنعم وينسبها لنفسه . والمؤمنون ينسبون كل شيء لله تبارك وتعالى لأنهم يعلمون أن النعمة عطاء من يد الله الممدودة بالنعم التي لا تعد ولا تحصى وما دامت النعمة لم تبعد الإنسان عن الله ، فإن الله يزيده منها لأنه مأمون على النعمة وينسبها لصاحبها ، والمغرور يستعلي بأي خصلة يتميز بها عكس المؤمن الذي لا يستعلي أبداً بها لأنه يعلم أنه لا ذاتية له ، وأن الفضل لله تعالى ، وذلك يقول الحق تبارك وتعالى وهو يصف المؤمنين : { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] . والشدة هنا ليست غروراً ، ولكنها طبع وملكة ، ولو كانت غروراً لبقيت كما هي ، ولكن المؤمن شديد على الكفار ذليل على المؤمنين لا يتكبر عليهم أبداً ، ولا يمكن أن يجعله إيمانه في قالب جامد لأن الإيمان يعطي المؤمنين مرونة أمام الأحداث ، لذلك نجد المؤمن لا هو شديد على إطلاقه ، لأن هناك مواقف تتطلب الرحمة في التعامل مع المؤمنين ، ولا هو رحيم على إطلاقه لأن هناك مواقف تتطلب الشدة في مواجهة الكفار . وكان سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - معروفاً بأنه كان كثير البكاء من خوفه وخشيته لله وقلبه مليء بالرحمة على المؤمنين . ولكن عندما جاءت حرب الردة لمانعي الزكاة ماذا حدث ؟ . جلس هو وعمر بن الخطاب ، والمعروف عن عمر أنه كان شديداً ، وجلسا يتشاوران ، وكان رأي عمر ألا يقاتلوا من ارتدوا بإنكارهم ومنعهم الزكاة لأنهم قالوا : لا إله إلا الله ، فقال له أبو بكر : " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه " . هذا هو أبو بكر الذي عُرف عنه أنه كان كثير البكاء من خشية الله تعالى ، وكان قلبه يمتلىء بالرحمة للمؤمنين . إنه يعلن في قوة وشدة في الحق أنه سوف يقاتل الخارجين على حدود الله والمانعين المنكرين للزكاة . ولو أن هذا الأمر حدث من عمر لقال الناس : شدة ألفناها ، ولكن أن يحدث هذا الأمر من هذا الرجل الطيب الرحيم المطبوع على الرقة وعلى اللين فهو أمر يبين لنا شدة المؤمن في مواجهة الكفر . المؤمن - إذن - لا هو مطبوع على الشدة المطلقة ولا هو مطبوع على الرحمة المطلقة ، لكنه شديد حين تكون الشدة مطلوبة للدين ، ورحيم حينما تكون الرحمة مطلوبة للدين ، وعزيز حين تكون العزة للدين ، وذليل حين تكون الذلة للدين . إذن فقول المنافقين : { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ } لا يستند إلى حكم صحيح ، بل هو مما يمليه عليهم نفاقهم ، لماذا ؟ . لأن المؤمنين يتوكلون على الله دائماً وينسبون كل الفضل لله تعالى : { فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 49 ] . وما دام الله عزيزاً فالذي آمن به عزيز ، وسبحانه وتعالى يقول : { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ … } [ المنافقون : 8 ] . وما دام الله حكيماً فهو يعطي الحكمة للمؤمنين ، والتوكل على الله معناه أن تكل كل أمورك إليه سبحانه وتعالى ، وأول هذه الأمور أنه أمرك بالأخذ بالأسباب ، فلا تترك الأسباب أبداً ، بل خذ بها دائماً مع التوكل عليه فإذا لم تسعفك فهناك المسبب . فقد قال الحق تبارك وتعالى لعباده المؤمنين : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ … } [ التوبة : 14 ] . وأمرنا سبحانه وتعالى : بالسعي فقال عز وجل : { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ … } [ الملك : 15 ] . فهو سبحانه وتعالى كما أمر المؤمنين بأن يقاتلوا ويأخذوا بالأسباب لأنه سبحانه يريد أن يعذب الكفار بأيدي المؤمنين ، أمرهم سبحانه وتعالى كذلك أن يسعوا في سبيل الرزق . وأنت حين تتواكل تنقل صفة إلى صفة لأن التوكل عمل القلوب ، والعمل تقوم به الجوارح ، فلا تجعل التواكل عمل الجوارح لأن الجوارح تعمل بالأسباب . والقلوب تتوكل على الله ، وهكذا نفهم أن التوكل الحقيقي للجوارح هو أن تعمل ولذلك فلا بد من العمل والأخذ بالأسباب مع التوكل ، ولا بد لنا أن ننتبه إلى المنافقين في بدر الذين قال عنهم الله سبحانه وتعالى : { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ … } [ الأنفال : 49 ] . والمنافقون - كما قلنا - هم القوم الذين تتصارع ملكاتهم ، وما على ألسنتهم يتناقض مع ما في صدورهم ، أما الذين في قلوبهم مرض فهم ضعيفو الإيمان مسلمون ساعة الرخاء فارون من الدين ساعة الشدة . إذن فهناك فريقان ذكرهما الحق سبحانه وتعالى المنافقون وهؤلاء كانوا من الأوس والخزرج ملكاتهم متضاربة لأنهم كانوا يريدون السيادة على المدينة . وواحد منهم كان ينتظر أن يلبس تاج الملك ، وبمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تنتهي منه هذه الفرصة وتضيع فرصة الملك والزعامة ، وقد أوجد ذلك في نفسه حقداً وغيظاً . ولكن ظاهرة الإقبال من أهل المدينة كلهم على الإيمان والدخول في الإسلام جعلت هؤلاء المنافقين لا يستطيعون المقاومة لذلك نطقوا الشهادتين بألسنتهم وبقي في قلوبهم حقد وضغينة على الإسلام ، فالواحد منهم تتجاذبه ناحيتان متعارضتان . والذين في قلوبهم مرض ليسوا منافقين ولكنهم ضعيفو الإسلام ، وقد دخلوا إلى الدين ليأخذوا وهم لا يعطون ، فإذا أعطاهم الإسلام بعضاً من نعم الدنيا فرحوا بها ، وإذا أصابتهم شدة هربوا . ومن هؤلاء بعض الذين أسلموا في مكة . ولكن إسلامهم لم يصل بهم إلى أن يهاجروا إلى المدينة خوفاً من أن يتركوا أموالهم وأولادهم فظلوا في مكة ، ومرضى القلوب هؤلاء لا يعدمون الحياة لأن المرض لا يعدم الحياة ، لكنهم كانوا يعانون من عدم صحة الإيمان ، ولما جاءت عملية القتال في غزوة بدر تشاوروا : أيذهبون مع الكفار أو لا يذهبون ؟ ومع أي من الفريقين يقاتلون ؟ . وقالوا : نخرج مع الكفار فإن وجدنا أنهم أقوى كنا معهم ، وإن وجدنا المسلمين هم الأقوياء انضممنا إليهم . ومن هؤلاء قيس بن الوليد المغيرة وعلي بن أمية بن خلف والعاصي ابن منية ابن الحجاج والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب وأبو القيس بن الفاكه ابن المغيرة . وتجمع هؤلاء مع بعضهم وذهبوا إلى المعركة لينضموا إلى المنتصر ، مؤمنا كان أو كافراً . وهم أخذوا هذا الموقف لأن صحة الإيمان في قلوب هؤلاء غير موجودة فهم أصحاب قلوب مريضة ومتعلقة بحب الدنيا . وما قاله المنافقون والذين في قلوبهم مرض يدل على الرغبة في اتقاء الضرر ، مع أن هؤلاء في المدينة وهؤلاء في مكة ولكنهم قالوا شيئاً واحداً ، وهذا دليل على أن إغواء الشيطان للفريقين كان واحداً . ولذلك اتحدت العبارة . وقال هؤلاء وهؤلاء : { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ } . قالها الفريقان فريق المنافقين وفريق الذين في قلوبهم مرض مع اختلاف المكان ، فبعضهم - كما علمنا - من مكة وبعضهم من المدينة . إذن فلا بد من وجود قاسم مشترك دفعهم أن يقولوا قولاً واحداً ، أي أن الشيطان وسوس إليهم بهذه العبارة . ولذلك كان الوجب أن ينتبهوا إلى أن اتفاق القول دليل إغواء الشيطان لهم . وما معنى : { غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ } . غررت فلاناً أي زيّنت له الأمر تزييناً بحيث يقبل عليه إقبالاً لا ترشحه قوته له ، وقويت استعداده لكي يقوم به ، فإذا جئت لإنسان محدود الدخل مثلاً وأردت أن تغريه بشراء سيارة . فأنت تقول لتزين له المسألة : اقترض من فلان وفلان وادفع الباقي بالتقسيط ، كأنك تغريه أن يتخذ موقفاً غير موقفه الذي كان ينوي القيام به . ولكن ما وجه الغرور في الدين ؟ . إن المؤمنين المغترين بدينهم قد أحسوا بكثرتهم رغم أن عددهم قليل . فأقبلوا على الحرب بالرؤيا التي أراها الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن عدد الكفار قليل ، وبوعد الله لهم بالنصر ، أو غرهم بأن أوضح لهم أنَّ الذي يموت مقتولاً في هذه الحرب يصير شهيداً وتكتب له حياة خالدة ، وقد جعل ذلك القوي منهم والضعيف يقاتلان بقوة لأن الشهيد سيذهب إلى الجنة . وهكذا - في رأي المنافقين - اغتر المؤمنون بدينهم . ويرد الله عز وجل عليهم بقوله تعالى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 49 ] . هذا هو الرد عليهم في أن المؤمنين لم يغرهم دينهم ، بل إنهم متوكلون على الله ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه ، وسبحانه عزيز لا يُغَلَب ، وحكيم يضع الهزيمة في موضعها والنصر في موضعه . إذن فالمسألة أن هؤلاء المؤمنين قد اختاروا الله فأعزهم ونصرهم . ولكن هل قيلت هذه العبارة من المنافقين علناً ؟ . لا ، إنهم لم يجرءوا أن يعلنوها بل قالوها سرّاً في أنفسهم ، فأعلم الله سبحانه وتعالى رسوله بما حدث في نفوسهم ، وكانت هذه لفتة من الله سبحانه وتعالى بأن فضح حقيقتهم لعلهم ساعة يسمعون ما يدور في نفوسهم قد يتركون نفاقهم ويعودون إلى حظيرة الإيمان الصحيح ، خصوصاً إذا انتبهوا إلى قول الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } [ التوبة : 52 ] . ففي هذه الآية الكريمة يوضح الله سبحانه وتعالى موقف المؤمنين في كل معركة يخوضونها ، فهم إمَّا أن ينتصروا ويهزموا الكفار ويقتلوهم ويأخذوا غنائمهم ، وإمَّا أن يستشهدوا فيدخلوا الجنة ، وكلّ من الأمرين خير . وكشف الحق ما يدور في صدور المنافقين ، وكان ذلك تنبيهاً للمؤمنين بألاَّ يؤثر فيهم كلام المنافقين لأن المؤمنين قد توكلوا على الله والله غالب على أمره . ويقول الحق بعد ذلك : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ … } .