Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 108-108)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فهل قوله الحق : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } معناه أن يظل المسجد قائما ولا تقام فيه صلاة ؟ هل { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } صيغتها النهي ، أي لا تُصَلِّ فيه ، أم أنها إخبار من الحق بأنك لن تقيم فيه صلاة أبداً لأنه لن يكون له وجود ؟ إن قوله الحق سبحانه يعني أن هذا المسجد يجب ألا يكون له وجود ، ثم تجد الله سبحانه يقول : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } إذن : فالمسألة ليست في بناء المسجد ، ولكنها فيمن يدخل المسجد ويعمره ، فهنا مسجد ، وهناك مسجد ، أما المسجد الأول فقد أسس على التقوى ، وفيه أناس يحبون أن يتطهروا ، أما مسجد الضرار فقد أقامه منافقون يحبّون أن يتقذروا لأنهم المقابل لمن يحبون أن يتطهروا . ومعنى الحب هو ميل الطبع إلى شيء تنبسط له النفس وتخِفُّ لعمله . وحينما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الأنصار ، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور ، فما طهوركم هذا ؟ قالوا : يا رسول الله نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهل مع ذلك من غيره ؟ " . وهنا قال أهل قباء : " لا ، غير أن أحدنا إذا خرج من الغائط أحب أن يستنجي بالماء " ، وكان الواحد منهم يمسك الحجر ويمسح به محل قضاء الحاجة فيخفف من استخدام المياه لأن المياه كانت قليلة عندهم ، ثم يستخدم الماء بعد الأحجار ليكمل ويتم نظافته ، وأضافوا : " ولا نبيت على جنابة ، ولا نُصرّ على ذنب ، فإن غلبنا الذنب تعجّلنا التوبة " . { يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } والحب هنا متبادل ، فلا شيء أقسى على النفس من أن يكون الحب من طرف واحد ، وهذا هو الشقاء بعينه . والشاعر يقول : @ أنتَ الحبِيبُ ولَكنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ أنْ أكُونَ حَبِيباً غَيْرَ مَحْبُوبِ @@ وشقاء المحبين أن يكون الحب من جانب واحد ، أما حين يكون الحب متبادلاً من الجانبين فهو قمة الإسعاد ، وكذلك حين تكون العداوة من جانبين فهي تأخذ قمة الإيعاد والإبعاد ، فحين تكون العداوة من جانب واحد ، تنتهي بسرعة ، لكن عندما تكون من الجانبين فإنها لا تنتهي بل تزداد اشتعالاً . إذن : فحين يكون الحب متبادلاً تجد المحب كلما رأى حبّاً من حبيبه رد عليه بحب ، فينمو الحب ويزداد ، ولا يكون الأمر كذلك إلا إذا كان حب القلوب فيما لا يتغير وهو " الحب في الله " ، فإذا رأيت حبّاً بين اثنين يتناقص بمرور الزمن فاعلم أنه حب لغير الله ، وإن رأيت الحب ينمو كل يوم ، فاعلم أنه حب في الله . والحق سبحانه يقول في قصة فرعون وموسى : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً … } [ القصص : 8 ] . هم لم يلتقطوه ليكون عدواً لهم فهذا الاحتمال لو كان قد جاء في بال آل فرعون لقتلوه ، ولكنهم التقطوه ليكون قرة عين لهم ، فانظر كيف يدخل الله على تغفيل الكافرين به ، فآل فرعون هم من يربون موسى ولذلك قال له فرعون : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] . ولكن موسى عليه السلام لا يجامل في الحق لأن الحق سبحانه وتعالى هو من ربّاه ، أما تربية فرعون فلم يكن لها اعتبار في ميزان الحق ، وقد تكون العداوة هينة لو كانت من جانب موسى وحده ، ولكن شاء سبحانه ألا تكون العداوة من جانب موسى فقط ، بل من جانب فرعون أيضاً ، فيقول سبحانه : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ … } [ طه : 39 ] . ويقول سبحانه في مجال الحب المتبادل : { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ … } [ المائدة : 54 ] . فحين يحبون الله يرد سبحانه على تحية الحب بحب زائد ، وهم يردون على تحية الحب منه سبحانه بحب زائد ، وهكذا تتوالى زيادات وزيادات حتى نصل إلى قمة الحب ، ولكن الحب عند الله لا نهاية له ، وأنت حين تقرأ تجد قوله سبحانه وتعالى : { قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰ … } [ النمل : 59 ] . ويقول سبحانه أيضاً : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ … } [ الأحزاب : 44 ] . لم يأت سبحانه هنا بـ " الـ " التعريفية لأنها لو جاءت لانحصر السلام في لون واحد . فأنت حين تقول : لَقِيت الرجل ، فأنت تحدد الرجل . لكنك إنْ قلت : لقيت رجلاً . فقد يكون الرجل هذا أو ذاك أو غيرهما . فإن جاء الاسم نكرة صار شائعاً ، أما إن كان بالتعريف فيكون محدداً . والحق حين تكلم عن يحيى عليه السلام قال : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } [ مريم : 15 ] . لأنه يريد أن يكثر السلام . وحين تكلم عيسى عليه السلام عن نفسه قال : { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] . وحين يلقاك إنسان فهو يقول لك : " سلام عليكم " ، وأنت ترد : " وعليكم السلام " ، لماذا ؟ لأن " سلام عليكم " معناها أن السلام مني يكون عليك وعلى غيرك ، أما ردُّك " وعليكم السلام " فيعني أنك خَصَصْته بهذا السلام . وهنا الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها زادت في التحية حيث يقول الحق سبحانه : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } وهذا لأن الذي يحب أن يكون طاهراً دائماً ، قد أنس بفيوضات الله عليه ، وما دامت ذراته كلها طاهرة من النجاسات المعنوية ومن النجاسات الحسية يصبح جهاز استقبال الفيوضات من الله عنده صالحاً دائماً للاستقبال ، والحق سبحانه وتعالى يرسل إمداداته في كل لحظة ، ولا تنتهي إمداداته على الخلق أبداً ، وسبحانه يصف نفسه بأنه القيوم فاطمئنوا أنتم ، فإن كنتم تريدون أن تناموا فناموا فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم . إذن : فقد جاء الإيمان ليريحنا لا ليتعبنا ، كما أنه سبحانه يصف نفسه : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ … } [ المائدة : 64 ] . أي : يطمئن الخلق أنهم بمجرد إيمانهم ستأتيهم إمدادات الله وفيوضاته المعنوية والمادية . فصحِّح جهاز استقبالك بألا توجد فيه نجاسة حسيّة أو نجاسة معنوية ولذلك إذا رأيت إنساناً عنده فيوضات من الحق فاعلم أن ذرات جسمه مبنية من حلال ، ولا توجد به قذارة معنوية ، ولا قذارة حسّية ، ويتضح ذلك كله على ملامح وجهه ، وكلماته ، وحسن استقباله . وإن كان أسمر اللون فتجده يأسرك ويخطف قلبك بنورانيته . وقد تجد إنساناً أبيض اللون لكن ليس في وجهه نور لأن فيوضات ربنا غير متجلية عليه . وكيف تأتي الفيوضات ؟ إنها تأتي بتنقية النفس لأن الإنسان إن افتقر إلى الفيوضات الربانية ، فعليه أن يبحث في جهازه الاستقبالي . وأضرب هنا مثلاً بالإرسال الإذاعي ، فمحطات الإذاعة ترسل ، ومن يملك جهاز استقبال سليم فهو يلتقط البث الإذاعي ، أما إن كان جهاز الاستقبال فاسداً فهذا لا يعني أن محطات الإذاعة لا تبث برامجها . ولذلك قال الحق : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ … } [ المائدة : 64 ] . فاحرص دائماً على أن تتناول من يد ربك المدد الذي لا ينتهي ، والحديث الشريف يقول : " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " والليل قد ينتهي عند إنسان ، ويبدأ عند إنسان آخر ، وهكذا النهار ، فالليل مستمر دائماً والنهار مستمر دائماً ، فيداه سبحانه مبسوطتان دائما ولا تنقبضان أبداً . ثم يقول سبحانه : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ … } .