Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 112-112)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وبعد أن عرض الحق هذه الصفقة ، فمن هم المقبلون عليها ؟ إنهم التائبون ، والتوبة : هي الرجوع عن أي باطل إلى حق . وعمَّ يتوب هؤلاء التائبون ؟ نحن نعلم أن هناك إيماناً اسمه إيمان الفطرة . نجد ذلك في قول الحق سبحانه وتعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [ الأعراف : 172 - 173 ] . إذن : فالإيمان أمر فطري ، والكفر هو الذي يطرأ عليه ، وقلنا من قبل : إن الكفر هو الدليل الأول على الإيمان لأن الكفر هو الستر ، فمن يكفر بالله - والعياذ بالله - إنما يستر وجوده ، فكأن وجوده هو الأصل ، ثم يطرأ الكفر فيستره ، ثم يأتي من ينبه في الإنسان مشاعر اليقين والإيمان فيرجع الإنسان إلى الإيمان بالله بعد أن يزيل الغشاوة التي طرأت على الفطرة . و { ٱلتَّائِبُونَ } : منهم التائبون عن الكفر الطارئ على إيمان الفطرة ، وأخذوا منهج الله الذي آمنوا به ، ومن هنا نشأت العبادة التي تقتضي وجود عابد ومعبود ، والعبادة تعني الانصياع من العابد لأوامر ونواهي المعبود . { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ } والعبادة كلها طاعة تتمثل في تطبيق ما جاء به المنهج من " افعل " و " لا تفعل " ، وقد يتدخل المنهج في حريتك قليلاً ، وأنت بقوة الإيمان تعتبر أن هذا التدخل في هذه الحرية نعمة يجب أن تحمد الله عليها لأنه لو تركك على هواك ، كما يترك ولي أمر التلميذ ابنه على هواه فهو يفشل ، ولكن الأب الذي يحث ابنه على المذاكرة وينهاه عن اللعب والعبث ، فلا بد أن ينجح . إذن : الأوامر والنواهي هنا نعمة ، كان يجب أن نحمد ربنا عليها ، وكل ما يجريه الله على العبد المؤمن يجب أن يأخذه العبد على أساس أنه نعمة . إذن : فالذين تابوا عن الكفر الطارئ على إيمان الفطرة هم تائبون يأخذون منهج الإيمان من المعبود ، ويصبحون بذلك عابدين لله ، أي : منفذين الأوامر ، ومبتعدين عن النواهي ، وهم يعلمون أن الأوامر تقيد حركة النفس وكذلك النواهي ، ولكنهم يصدقون قوله صلى الله عليه وسلم : " حُفَّتِ الجنةُ بالمكاره ، وحُفَّت النارُ بالشَّهوات " حين تعرف أن العبادة أوصلتك إلى أمر ثقيل على نفسك ، فاعرف أن هذا لمصلحتك وعليك أن تحمد الله عليه وبذلك يدخل المؤمن في زمرة الحَامِدينَ . وأنت حين تؤمن بالله ، يصبح الله في بالك ، فلا يشغلك كونه عنه سبحانه ، وإياك أن تشغل بالنعمة عن المنعم ، واجعل الله دائماً في بالك ، والحق سبحانه يقول : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . لذلك يفكر المؤمن في الله دائماً ويشكر المنعم على النعمة وآثارها من راحة في بيت وأولاد وعمل . و { ٱلْحَامِدُونَ } أيضاً لا بد أن يستقبلوا كل قدر لله عليهم بالرضا لأن الذي يُجرى عليهم القدر - ما دام لم يأمرهم بما لم يقع في اختيارهم - فهو حكيم ولا يُجْري سبحانه عليهم إلا ما كان في صالحهم . وبعد أن ترضى النفس بما أجرى عليها تعرف الحكمة ولذلك يقول سبحانه : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ … } [ البقرة : 282 ] . ويتابع الحق صفات المقبلين على الصفقة الإيمانية فيقول : { ٱلسَّائِحُونَ } ومعنى " سائح " هو من ترك المكان الذي له موطن ، فيه بيته وأهله وأولاد وأنس بالناس ، ثم يسيح إلى مكان ليس له فيه شيء ما ، قد يتعرض فيه للمخاطر ، والمؤمن إنما يفعل ذلك لأنه لا شيء يشغله في الكون عن المكوِّن ، ويقول الحق سبحانه : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ … } [ الأنعام : 11 ] . إذن : فالسياحة هي السير المستوعب ، والسير في الأرض منه سير اعتبار لينظر في ملكوت السماوات والأرض ، وليستنبط من آيات الله ما يدل على تأكيد إيمانه بربه ، ومنه سير استثمار بأن يضرب في الأرض ليبتغي من فضل الله . إذن : فالسياحة إما سياحة اعتبار ، وإما سياحة استثمار ، أما سياحة الاستثمار فهي خاصة بالذين يضربون في الأرض ، وهم الرجال . أما سياحة الاعتبار فهي أمر مشترك بين الرجل والمرأة ، بدليل أن الله قال ذلك في وصف النساء : { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ … } [ التحريم : 5 ] . إذن : { سَائِحَاتٍ } هنا مقصود بها سياحة الاعتبار ، أو السياحة التي تكون في صحبة الزوج الذي يضرب في الأرض . وقيل أيضاً : إن السياحة أطلقت على " الصيام " لأن السياحة تخرجك عما ألفْتَ من إقامة في وطن ومال وأهل ، والصيام يخرجك عما ألفْتَ من طعام وشراب وشهوة . إذن : القَدْرُ المشترك بين الرجال والنساء هو في سياحة الاعتبار وسياحة الصوم . ثم يقول الحق سبحانه : { ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ } أي : المقيمون للصلاة ، وقد جاء بمظهرين فقط من مظاهر الصلاة ، مع أن الصلاة قيام وقعود وركوع وسجود لأن الركوع والسجود هما الأمران المختصان بالصلاة ، وأما القيام فقد يكون في غير الصلاة ، وكذلك القعود . إذن : فالخاصيَّتان هما ركوع وسجود والحق يقول : { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] . أي : صلّي مع المصلِّين ، وهكذا نجد أن الركوع والسجود هما الأمران اللذان يختصان بالحركة في الصلاة . ثم يقول سبحانه : { ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ } والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حيثية تخص الأمة المحمدية لتكون خير أمة أخرجت للناس ، فالحق سبحانه يقول : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ … } [ آل عمران : 110 ] . فإذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، فلا بد أن تكون بمنأى عن هذا المنكر فليس معقولاً أن تنهى عن شيء أنت مزاول له . إذن : فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، صلاح أو هدى مُتَعدٍّ من النفس إلى الغير ، بعد أن تكون النفس قد استوفَتْ حظها منه . ويقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تعرف المعروف الذي تأمر به ، وأن تعرف المنكر الذي تنهى عنه لذلك لا بد أن تكون من أهل الاختصاص في معرفة أحكام الله ، ومعرفة حدود الله حِلاّ وحُرْمة ، أما أن يأتي أي إنسان ليُدخل نفسه في الأمر ويقول : أنا آمر بمعروف وأنا أنهى عن منكر ، هنا نقول له : لا تجعل الدين ، ولا تجعل التقوى في مرتبة أقل من المهن التي لا بد أن يزاولها أهل فكر ومتخصصون فيها . ثم يقول سبحانه : { وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ } و " الحدود " جمع " حد " وتأتي الحدود في القرآن على معنيين : المعنى الأول هو المحافظة على الأوامر ، وتلك التي يردفها الحق بقوله : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا … } [ البقرة : 229 ] . وكل أمر يقول فيه ذلك هو حد الله فلا تتعدَّ هذا الحد ، أما المعنى الثاني : فهو البعد عن المنهيات فلا يقول لك : لا تتعداها ، بل يقول سبحانه : { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا … } [ البقرة : 187 ] . ويُنهى الحق سبحانه الآية بقوله : { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أي : بَشِّرْ هؤلاء الذين يسلكون هذا السلوك مطابقاً لما اعتقدوه من اليقين والإيمان ، لا هؤلاء المنافقين الذين قد يصلون أو يصومون ظاهراً . وكلمة { وَبَشِّرِ } و " استبشر " و " البشرى " و " البشير " كلها مادة تدل على الخبر السار الذي يجعل في النفس انبساطاً وسروراً بحيث إذا رأيت وجه الإنسان وجدته وجهاً متهللاً تفيض بشرته بالسرور . وبعد ذلك يتكلم الحق عن أمر شغل بال المؤمنين الذين كان لهم آباء على الكفر ومن حقوق هذه الأبوة على الأبناء أن يستغفروا لهم لعل الله يغفر ، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن رعاية حدود الله وحقوقه أوْلَى من قرابة الدم ، وأوْلى من عاطفة الحنوّ والرحمة فالحق سبحانه وتعالى أوْلى بأن يكون الإنسان بارّا به من أن يكون بارّا بالأب الكافر ، وقد جعل الحق سبحانه النسبَ في الإسلام نفسه . ثم يقول الحق سبحانه : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ … } .