Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 111-111)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بعد أن تكلم الحق عن الذين تخلفوا عن الغزو ، وعن الذين اعتذروا بأعذار كاذبة ، وعن الذين أرجأ الله فيهم الحكم ، أراد أن يبين سبحانه أن تخلفهم ليس له أي أهمية لأن الله سبحانه وتعالى عوَّض الإيمان وعوّض الإسلام بخير منهم ، فإياكم أن تظنوا أنهم بامتناعهم عن الغزو سوف يُتعبون الإسلام ، لا لأن الحق سبحانه ينصر دينه دائماً . فيقول الله سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } يقول العلماء : كيف يشتري الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، وهو الذي خلق الأنفس وهو الذي وهب المال ؟ وقالوا : ولكن هبة الله لهم لا يرجع فيها ، بدليل أن المال مال الله ، وحين أعطاه لإنسان نتيجة عمله أوضح له : إنه مالك بحيث إذا احتاجه أخ لك في الدين ، فأنا أقترضه منك ، ولم يقل : " أسترده " . فسبحانه القائل : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 245 ] . لقد احترم الحق الهبة للإنسان ، واحترم عرقه وسعيه ، وكأنه سبحانه حينما وهب البشر الحياة ، ووهبهم الأنفس أعلن أنها ملكهم حقّاً ، ولكنه أعطاها لهم ، وحين يريد أخذها منكم فلا يقول : إنه يستردها بل هو يشتريها منكم بثمن ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام : " إن سلعة الله غالية ، إن سلعة الله غالية ، إن سلعة الله هي الجنة " . أي : اجعلوا ثمنها غالياً . { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } . وكلمة { ٱشْتَرَىٰ } تدل على أن هناك صفقة ، عملية شراء وبيع . وإذا كان هذا ملكاً لله ، فالله هو المشتري ، والله هو البائع ، فلابد أن لهذا الأمر رمزية ، وهذه الرمزية يلحظها الإنسان في الولي على اليتيم أو السفيه ، فقد يصح أن يكون عندي شيء وأنا ولي على يتيم ، فأشتري هذا الشيء بصفتي ، ثم أبيعه بصفتي الأخرى ، فالشخص الواحد يكون هو الشاري وهو البائع ، فكأن الله يضرب لنا بهذا المثل : " إنكم بدون منهج الله سفهاء ، فدعوا الله يبيع ودعوا الله يشتري " . وما الثمن ؟ يأتي التحديد من الحق : { بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } هذا هو الثمن الذي لا يفنى ، ولا يبلى ، ونعيمك فيها على قدر إمكانيات الله التي لا نهاية لها ، أما نعيمك في حياتك فهو على قدر إمكانياتك أنت في أسباب الله ، وهكذا يكون الثمن غالياً . " وحينما جاء الأنصار في بيعة العقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عبدالله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . قال : " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ ماذا قال رسول الله ؟ أقال لهم ستفتحون قصور بُصْرى والشام وتصيرون ملوكاً ، وينفتح لكم المشرق والمغرب ؟ لم يقل صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذا ، بل قال : " الجنة " لأن كل شيء في الدنيا تافه بالنسبة لهذا الثمن ، قالوا : " ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل " وبمجرد عقد الصفقة العهدية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأنصار ، كان من الممكن أن يموت واحد أو اثنان أو ثلاثة قبل أن يبلغ الإسلام حظه وذروته ، وقد يقال : فلان مات ولم يأخذ شيئاً من ماديات الحياة . لكنه صلى الله عليه وسلم حين قال : " الجنة " ، فمن مات يدخلها . { بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } هذا هو الثمن ، وهو وعد بشيء يأتي من بعد ، ولكنه وعد ممن يملك إنفاذه لأن الذي يقدح في وعود الناس للناس ، أنك قد تعدُ بشيء ولكن تظل حياتك ولا تفي به ، أو أن تقل إمكاناتك عن التنفيذ . إذن : الوعد الحق هو ممن يملك ويقدر ، وحيّ لا يموت ، لذلك يقول في هذه الآية : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } ويقول في آخرها : { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } و " وَعْد " مصدر ، فأين الفعل ، إننا نفهمها : أي وعدهم الله بالجنة وعداً منه سبحانه وهو الذي يملك وهو وعد حق . والقرآن حين يأتي بقضية كونية ، فالمؤمن يستقبلها بأنها سوف تحدث حتماً ، فإذا ما جاء زمنها وحدثت صارت حقّاً ثابتاً ، مثلما يقول سبحانه : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ الصافات : 173 ] . هذه قضية قرآنية ، حدثت من قبل وثبتت في الكون . وماذا بعد أن اشترى الله من المؤمنين أموالهم وأنفسهم ؟ هنا يحدد الحق المهمة أمامهم : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } و " قَاتَل " ، من " فَاعَلَ " ، و " قَتَلَ " غير " قَاتَلَ " . فالقتل عمل من جهة واحدة ، لكن " قَاتَلَ " تقتضي مفاعلة ، مثلها مثل " شَارَكَ زيدٌ عَمْراً " . وكل مادة " فاعَلَ " و " تفاعَلَ " توضح لنا الشركة في الأمر ، فكل واحد منهم فاعل ، وكل واحد منهم مفعول . ولذلك تجد في أساليب العرب ما يدلك على أن ملحظ الفاعلية في واحد هو الغالب ، وملحظ المفعولية في الآخر هو الغالب ، ولكن على التحقيق فإن كل واحد منهم فاعل من جهة ، ومفعول من الجهة الأخرى . فمثلاً : الرجل الذي سار في الصحراء التي فيها حيّات وثعابين ، ولم يُهِج الرجل أثناء سيره الحيّات ولا الثعابين ، بل تجنبها ، والثعبان ما دُمْت لا تهيجه فهو لا يفرز سمّاً لأن سمّ الثعبان لا يفرز إلا دفاعاً . وساعة يرى الثعبان أنك ستواجهه يستعمل سُمَّه ، فإذا كان الرجل سائراً وله قدرة المحافظة على عدم إهاجة الثعابين ولا الحيات ، فهو قد " سالمها " ، والشاعر يقول : @ قد سَالَمَ الحيَّاتُ منه القَدَما والأفْعُوان والشُّجَاعَ الشَّجْعَما @@ والأفعوان هو الثعبان الفظيع ، ونلحظ أن " الأفعوان " منصوب ، وأن " الحياتُ " مرفوعة ، إذن : فالقدم مفعول ، والحيات فاعل وجاء بالقدم منصوبة ، وكذلك الشجعم لما في الحيات من المفعولية لأن الحيّات إذا سالمت القدمَ فقد سالمها القدمُ ، فكأنه قال : سالم القدمُ الحيّاتِ ، ثم جعل الأفعوان بدلاً منها . وهنا يقول الحق : { بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ } فمن يقاتل : إما أن يَقْتل وإما أن يُقْتَل ، وفي قراءة الحسن يقدم الثانية على الأولى ، ويقول : " فيُقْتَلُون ويَقْتُلوُنَ " فالمسألة صفقة بمقتضى قوله : { بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } لذلك يُقدم قتلهم ، وهو الأقرب لمعنى الصفقة . وأيضاً فإن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وإذا ما جاء المؤمنون في جانب والكفار في جانب آخر فالمؤمنون بنيان ، والحق هو القائل : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] . فإذا ما سبق قوم من المؤمنين بأن يُقْتَلوا ، فكأن الكل قُتل . إذن : فحين قتل بعض المؤمنين ، يمكننا أن نقرأ قول الحق على قراءة الحسن ونقول : " فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ " . أو : أنهم حينما دخلوا إلى القتال وضعوا في أنفسهم أن يقتلوا ، ولم يغلبوا جانب السلامة . وكلنا نعرف قصة الصحابي الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أليس بيني وبين الجنة إلا أن ألقى هؤلاء فيقتلوني ؟ قال له : " نعم " فأخرج الصحابي تمرة كانت في فمه ، ودخل إلى القتال وكأنه يستعجل الجنة . { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ } ، وهذا تأكيد بأن لهم الجنة ، وهو وعد من الحق في التوراة والإنجيل والقرآن لمن يدخلون المعارك دفاعاً عن الإيمان . وكل دين في وقته له مؤمنون به ، ويدخلون المعارك دفاعاً عنه . إذن : فالقتال في سبيل نصرة الدين والدفاع عنه ليس مسألة مقصورة على المسلمين ، لكنها لم تكن عامة عند الرسل ، فقد كان الحق سبحانه وتعالى هو الذي يتدخل لعقاب أهل الكفر ، وكان الرسول يبلِّغ ، فإذا لم يستجِبْ له قومه عاقبهم الله سبحانه ، والقرآن يقول : { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا … } [ العنكبوت : 40 ] . ولم تَأْتِ مسألة القتال في سبيل الله إلا عندما طلب اليهود من بعد سيدنا موسى عليه السلام أن يقاتلوا في سبيل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ … } [ البقرة : 246 ] . إذن : فهذا وعد من الله في التوراة للذين آمنوا بموسى عليه السلام ، وطالبوا بالقتال في سبيل الله ، وكذلك في الإنجيل للذين آمنوا بعيسى عليه السلام ، وأخيراً في القرآن للذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم . أو : أن هذا الوعد خاص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنها الأمة المأمونة للدفاع عن كلمة الله بالمجهود البشري . وبهذا يكون الوعد في التوراة والإنجيل والقرآن هو وعد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فكأن التوراة قد بُشِّر فيها بهذا للمسلمين المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الإنجيل قد بُشِّر فيه بهذا الوعد للأمة المسلمة . والدليل على ذلك هو قول الحق سبحانه في آخر سورة الفتح : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] . إذن : فالدين لا يطبع المتدين لا على الشدة ولا على الرحمة ، إنما يطبعه انطباعاً يصلح لموقف الشدة فيكون شديداً ، ولموقف الرحمة فيكون رحيماً . ولو أنه مطبوع على الشدة لكان شديداً طوال الوقت ، ولو طُبع على الرحمة فقط لكان رحيماً كل الوقت ، ولكن شاء الحق أن يطبع المؤمنين ليكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم ولذلك فالدين لا يطبع الناس على ذلة ولا على عزة ، إنما يجعلهم أذلة على المؤمنين ، وأعزة على الكفار . وبذلك يُطوِّع المؤمن نفسه ، فهو شديد ورحيم ، عزيز وذليل ، فهو طوع للمنهج ، فحين يتطلب منه منهج الله أن يكون شديداً يشتد ، وحين يتطلب منهج الله منه أن يكون رحيماً يرحم ، وحين يتطلب الله من أن يكون ذليلاً بالنسبة لإخوانه المؤمنين يذل ، وحين يتطلب الله منه أن يكون عزيزاً على الكافرين يعز . { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] . وتتابع صفات المؤمنين في قوله سبحانه : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً … } [ الفتح : 29 ] . وهم في ركوعهم وسجودهم إنما يعبرون عن قيم الولاء لله . ثم يصفهم سبحانه : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ … } [ الفتح : 29 ] . وهم لا يريدون إلا رضاء الله وفضله ، والنور يشع من وجوههم لأنهم أهل للقيم ، ويضيف سبحانه : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ … } [ الفتح : 29 ] . أي : أن التوراة جاءت فيها البشارة بأن محمداً سيجيء بأمة فيها الخصال الإيمانية والقيمية التي لا توجد في اليهود ، هؤلاء الذين تغلب عليهم المادية ولا ترتقي أرواحهم بالقيم الدينية ، فأنت إن نظرت إلى التوراة المحرفة فلن تجد فيها أي شيء عن اليوم الآخر ، بل كلها أمور مادية . أما في الإنجيل فقد جاءت المسيحية بالرهبنة ، والماديات فيها ضعيفة ولذلك جاء القرآن منهجاً متكاملاً تنتظم به الحياة ، قيماً حارسة ، ومادة محروسة فالعالم يفسد حين تأتي المادة فتطغى وتنحسر القيم ، أو حين توجد قيم ليس لها قوة مادية تدافع عنها ، فيأبى القوي الظالم إلا أن يطغى بقوته المادية على القيم الروحية فيكون الخلل في البناء الاجتماعي . إذن : فنحن في حاجة دائمة إلى قيم تحرسها مادة ، ومادة تحرسها قيم . وأخبر الله قوم موسى : أنتم لا تملكون القيم المعنوية ، وتعتزون بالقيم المادية ، لذلك ستأتي أمة محمد وهي تملك قيم الروح والمادة ، فهم رُكَّع ، سُجَّد ، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود . وأبلغ سبحانه قوم عيسى عليه السلام أنه سيأتي في أمة محمد بمنهج يعطيهم ما فقدتموه من المادة بسبب أنكم انعزلتم عن الحياة وابتدعتم رهبنة ما كتبها الله عليكم ، بينما نحن نريد حركة في الحياة . { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ … } [ الفتح : 29 ] . ومن حق المسلمين أن يقولوا : أيها الكافرون ليست لكم مادة تطغون بها علينا لأن الإسلام يريد من حركة حياتنا على ضوء منهجه في الأرض أن تتوازن المادة مع القيم لأن القيم هي التي تحرس الحضارة ، والمادة إنما تحرس القيم ، وحين يمتلك المسلمون القوة المادية فسيرتدع أي إنسان عن أن يطمع في فتنة المسلمين في دينهم ولذلك قال الحق سبحانه : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ … } [ الأنفال : 60 ] . فالكفار إذا رأوك قد أعددْتَ لهم يتهيبون . وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ، يقول الحق : { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ } وما دام الحق قد أعطى الوعد ، فلن يوجد من هو أوفى منه لذلك يقول : { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } وبذلك يطمئننا سبحانه على أن وعده محقق لأن العهد ارتباط بين مُعَاهَد ومُعَاهِد ، والذي يخرج عن هذا الارتباط أمران : الأول : ألا يكون صادقاً حين أعطى عهداً ، بل كان في نيته ألا يوفي ، ولكنه أقام العهد خديعة حتى يستنيم له المعَاهَد . والأمر الثاني : أن يكون قد أعطى وعداً بما لا يستطيع تنفيذه ، فهو كاذب . والله لا يليق به لا الكذب ولا الخديعة فسبحانه مُنزَّه عن كل ذلك ، ولا أحد أوْفَى بالعهد من الله . فقد يُطعن في العهد والوفاء به عدم القدرة ، لكن قدرة الحق مستوفية . إذن : فالعهد الحقيقي إنما يؤخذ من الله ، وقد جاء الحق بهذه القضية بشكل استفهامي { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } ؟ فالإجابة : لا أحد لأن الذي يقدح في مسألة العهد الخُلف والكذب وغير ذلك . والله سبحانه مُنزَّه عن الكذب والخديعة لأن الخديعة لا تأتي إلا من ماكر ، وإذا سمع أي إنسان { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } ثم أدار فكره في الكون ليبحث عن جواب ، فلا يجد إلا أن يقول : " الله " ، ولا أحد أوفى من الله بالعهد . وما دام الوعد بالجنة ، فالجنة لا يملكها إلا هو سبحانه ووعده حق ، وكلها تأكيدات بأن المسألة واقعة وحادثة . ولهذا يقول سبحانه : { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } [ التوبة : 111 ] . فالنتيجة لهذه المسألة كلها من شراء الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، ثم وعده الحق المبيَّن في التوراة والإنجيل والقرآن ، وكلها شهادات مسجلة هي الاستبشار بما باعه المؤمن لله . فالإنسان - ولله المثل الأعلى - لا يسجل إلا ما يكون في صالح قضيته ، ولا يسجل للخصم ، فعندما يكون عندك صَكٌّ على فلان ، فأنت الذي تحتفظ به وتحرص عليه لأنه يؤيد حقك . والحق سبحانه يقول : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] . والقرآن هو الحجة الكاملة الشاملة في كل أمور الدنيا والآخرة ، ومن فَرْط صدق القرآن أن البشر قد يصلون إلى قضية كونية ما ، ومن بعد ذلك تُخَالَف ، وحين تعود إلى القرآن تجد أن كلام القرآن هو الذي صدق ، وقد حفظ الحق سبحانه القرآن لأن قضايا الكون الذي خلقه الله لا يمكن أن تخرج عن قضايا القرآن لأن منزل القرآن وخالق الكون واحد ، فلا شيء يصادمه . { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } قوله الحق : { فَٱسْتَبْشِرُواْ } مأخوذ من " البشرة " ، وهي الجلد عامة ، وإن كان الظاهر منه هو الوجه . وحين يقول الحق سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } فقد يفهم أحد أن النفس سوف تضيع ، وأن الأموال سوف تنفق ، وهذا قد يُقبِضُ النفس فهذا فيه الموت ، وخسارة للمال ، وكان من الطبيعي أن يشحب وجه الإنسان ويفزع ويخاف . ولكن ساعة يقول الحق سبحانه : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ } تجد بشرة المؤمن تطفح بالسرور . والبشر ، ويحدث له تهلل وإشراق ، مع أنه هنا سيأخذ نفسه ، ولكن المؤمن يعرف أنه سبحانه سيأخذ نفسه ليعطيه الحياة الخالدة . إذن : قضايا الإيمان كلها هكذا لا يجب أن تصيبنا بالخوف ، بل علينا أن نستقبلها بالاستبشار ، ولذلك يقول الحق : { فَٱسْتَبْشِرُواْ } أي : فليظهر أثر ذلك على بشرتكم إشراقاً وسروراً وانبساطاً . { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ } وهل يستبشر الإنسان بالبيع ؟ نعم لأن الإنسان لا يبيع إلا ما يستغني عنه عادة ، ويشتري ما يحتاج إليه ، فهنا الاستبشار بالبيع وليس بالشراء ، فالمؤمن هنا يبيع فانياً بباق . { فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } وأنت إذا ما نظرت إلى الذين يخالفون العهد الذي أخذ عليهم ، تجد الواحد منهم يحتاج للمخالفة لأن وفاءه يتعبه . لكن الحق سبحانه ليس في حاجة لأحد وهو غني عن الجميع ، ولا يوجد أدنى مبرر لخُلْف الوعد أبداً . وتأتي { وَذَلِكَ } إشارة إلى الصفقة التي انعقدت بينكم وبين ربكم . { وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } والفوز هو بلوغ الغاية المأمولة في عرف العقل الواعي ، كما تقول لابنك : " ذاكر لتفوز بالنجاح " وتقول للتاجر : " اجتهد في عملك بإخلاص لتفوز بالربح " . إذن : فهناك " فوز " ، وهناك " فوز عظيم " والفوز في الدنيا أن يتمتع الإنسان بالصحة والمال وراحة البال . وهناك فوز أعظم من هذا أن تضمن أن النعمة التي تفوز بها لا تفارقك ولا أنت تفارقها ، فيكون هذا هو الفوز الذي لا فوز أعظم منه . ويقول الحق بعد ذلك : { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ … } .