Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 117-117)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلنا : إن التوبة لها مراحل ، فهناك توبة شرعها الله ، ومجرد مشروعية التوبة من الله رحمة بالخلق ، وهي أيضاً رحمة بالمذنب لأن الحق سبحانه لو لم يشرع التوبة لاستشرى الإنسان في المعاصي بمجرد انحرافه مرة واحدة ، وإذا استشرى في المعاصي فالمجتمع كله يشقى به ، إذن : فمشروعية التوبة نفسها رحمة بمن يفعل الذنب ، وبمن يقع عليه الذنب ، وقبول التوبة رحمة أخرى بمن عمل الذنب . وأنت إذا سمعت قوله الحق سبحانه : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ … } [ التوبة : 118 ] . فافهم أن تشريع التوبة إنما جاء ليتوب العباد فعلاً ، وبعد أن يتوبوا ، يقبل الله التوبة . والحق هنا يقول : { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ } وعطف على النبي صلى الله عليه وسلم { ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ } ، فأي شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول الله : { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ } ؟ ! ونقول : ألم يقل الحق سبحانه له : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ … } [ التوبة : 43 ] . فحين جاء بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن الغزوة ، فأذن لهم ، مع أن الله سبحانه قال : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً … } [ التوبة : 47 ] . إذن : فرسول لله صلى الله عليه وسلم كان بالفطرة السليمة قد اتخذ القرار الصائب ، ولكن الحق سبحانه لا يريد ان يتبعوا فطرتهم فقط ، بل أراد أن يضع تشريعاً محدداً . وشاء الحق سبحانه أن يخبرنا بأنه قدم العفو لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أذن لمن استأذنه من المنافقين ألا يخرجوا إلى القتال ، وهناك أشياء يأخذها الله على عبده لأن العبد قام بها ضد صالح نفسه ، ومثال هذا من حياتنا ولله المثل الأعلى : أنت إذا رأيت ولدك يذاكر عشرين ساعة في اليوم فإنك تدخل عليه حجرته لتأخذ منه الكتاب أو تطفئ مصباح الحجرة ، وتقول له : " قم لتنام " . وأنت في هذه الحالة إنما تعنف عليه لأنك تحبه ، لا ، لأنه خالف منهجاً ، بل لأنه أوغل في منهجٍ وأسلوب عملٍ يرهق به نفسه . وحين سمح النبي صلى الله عليه وسلم لقوم أن يتخلفوا ، فهل فعل ذلك ضد مصلحة الحرب أم مع مصلحة الحرب ؟ إنهم لو اشتركوا في الحرب لكثر ثوابهم حتى ولو حرسوا الأمتعة أو قاموا بأي عمل ، إذن : فإذنه صلى الله عليه وسلم لهم بالتخلف هو تصعيب للأمر على نفسه . ولذلك نجد أن كل عتب على نبي الله ، إنما كان عتباً لصالحه لا عليه فسبحانه يقول له : { لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ … } [ التحريم : 1 ] . والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحل ما حرم الله بل حرم على نفسه ما أحل الله له ، وهذا ضد مصلحته ، وكأن الحق يسائله : لماذا ترهق نفسك ؟ . إذن : فهذا عتب لمصلحة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً حين جاء ابن أم مكتوم الأعمى يسأل رسول الله في أمر من أمور الدين ، وكان ذلك في حضور صناديد قريش ، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى الصناديد وهم كافرون ، يريد أن يلين قلوبهم ، وترك ابن أم مكتوم فنزل القول الحق : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } [ عبس : 1 - 2 ] . وابن أم مكتوم جاء ليستفسر عن أمر إيماني ، ولن يجادل مثلما يجادل صناديد قريش ، فلماذا يختار الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر الصعب الذي يحتاج إلى جهد أكبر ليفعله ؟ . إذن : العتب هنا لصالح محمد صلى الله عليه وسلم ، وحين يقول الحق له : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ … } [ التوبة : 43 ] . ثم جاء هنا في الآية بالمهاجرين والأنصار معطوفين على رسول الله ، وذلك حتى لا يتحرج واحد من المهاجرين أو الأنصار من أن الله تاب عليه ، بل التوبة تشمله وتشمل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه فلا تحرُّج . وهذه المسائل التي حدثت كان لها مبررات ، فقد قال الحق : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } ويزيغ : يميل ، أي : يترك ميدان المعركة كله لأنها كانت معركة في ساعة العسرة ، ومعنى العسرة الضيق الشديد ، فالمسافة طويلة ، والجنود الذين سيواجهونهم هم جنود الروم ، والجو حارٌّ ، وليس عندهم رواحل كافية ، فكل عشرة كان معهم بعير واحد ، يركبه واحد منهم ساعة ثم ينزل ليركبه الثاني ، ثم الثالث ، وهكذا ، ولم يجدوا من الطعام إلا التمر الذي توالد فيه الدود . وقد بلغ من العسرة أن الواحد منهم كان يمسك التمرة فيمصها بفيه يستحلبها قليلاً ، ثم يخرجها من فيه ليعطيها إلى غيره ليستحلبها قليلاً ، وهكذا إلى أن تصير على النواة ، وكان الشعير قد أصابه السوس ، وبلغ منه السوس أن تعفن ، وقال من شهد المعركة : " حتى إن الواحد منا كان إذا أخذ حفنة من شعير ليأكلها يمسك أنفه حتى لا يتأذى من رائحة الشعير " . كل هذه الصِّعاب جعلت من بعض الصحابة من يرغب في العودة . ولا يستكمل الطريق إلى الغزوة . إذن : فالتوبة كانت عن اقتراب زيغ قلوب فريق منهم . وجاء الحق بتقدير ظرف العسرة ، ولذلك تنبأ بالخواطر التي كانت في نواياهم ومنهم أيضاً من همّ ألا يذهب ، ثم حدثته نفسه بأنه يذهب مثل أبي خيثمة الذي بقي من بعد أن رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزوة ومرت عشرة أيام ، ودخل الرجل بستانه فوجد العريشين ، وعند كل عريش زوجةٌ له حسناء ، وقد طَهَتْ كل منهما طعاماً ، وهكذا رأى أبو خيثمة الظلال الباردة ، والثمر المدلَّى ، فمسّته نفحة من صفاء النفس فقال : " رسول الله في الفيح - أي الحرارة الشديدة جدّاً - والريح ، والقُرّ والبرد ، وأنا هنا في ظل بارد ، وطعام مطهوّ ، وامرأتين حسناوين ، وعريش وثير ، والله ما ذلك بالنِّصَفة لك يا رسول الله ، وأخذ زمام راحلته وركبها فكلّمته المرأتان ، فلم يلتفت لواحدة منهما وذهب ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال صحابة رسول الله : يا رسول الله إنَّا نرى شبح رجل مُقْبل . فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " كن أبا خيثمة " ، ووجده أبا خيثمة ، هذا معنى الحق : { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 117 ] . وفي واقعة الصحابة الذين راودتهم أنفسهم أن يرجعوا وتاب الله أيضا على آخرين اعترفوا بذنوبهم ، فتاب الحق عليهم حين قال : { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 102 ] . وأرجـأ الحق أمر آخرين نزل فيهم قوله : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ … } [ التوبة : 106 ] . وما دام الله قد قال : { مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } أي : ما بَتّ الله سبحانه في أمرهم بشيء فلا بد من الانتظار إلى أن يأتي أمر الله ، ويجب ألا نتعرض لهم حتى يأتي قول الله . وتاب أيضاً على الثلاثة الذين خلفوا ، في قوله سبحانه : { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ … } .