Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 123-123)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ينقلنا الحق هنا إلى الحديث عن الجهاد مرة أخرى . ولنا أن نتساءل : لماذا - إذن - جاء الحديث عن النفرة والفقه كفاصل بين حديث متصل عن الجهاد ؟ أجيب : شاء سبحانه هنا أن يعلمنا أن كل من ينفر لتعلُّم الفقه ، وليعلِّم غيره هذا المسلم في حاجة إلى مرحلة التعلُّم ، ومعرفة الأسباب التي يقاتل من أجلها المسلمون وحيثيات الجهاد في سبيل الله . وقد قسَّم الحق سبحانه الناس في آيات الجهاد إلى قسمين : فرقة تنفر ، وطائفة منها تبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإذا استوى الأمر ، فرقة تجاهد ، وفرقة تَتَعَلم وتعلِّم ، وتتبادل الفرقتان الخبرة الإيمانية والقتالية ، تصبح الملكات الإيمانية متساندة غير متعاندة ، ومن بعد ذلك يتجهون إلى الكفار . { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ } وهذا يعني أن هناك قوماً قريبين منهم ما زالوا كافرين ، وهناك قوم أبعد منهم ، والحق قد قال : { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً … } [ التوبة : 36 ] . إذن : فهناك أولويات في القتال ، وقتال الكفار القريبين منك فيه تأمين لمعسكر الإيمان لذلك جاء الأمر بقتال الأقرب لأنه قتال لن يتطلب رواحل ولا مؤونة للسفر البعيد ، كما أن العدو القريب منك أنت أعلم بحاله أكثر من علمك بحال الكفار البعيدين عنك لذلك فأنت تعلم مواطن قوتهم وضعفهم ، وكيفية تحصيناتهم . فإذا تيسر أمر قتال العدو الأقرب كان ذلك طريقاً لمجابهة العدو الأبعد ، بدلاً من أن تواجه العدو البعيد فيتفق مع العدو القريب ، ويصنع الاثنان حولك " كماشة " بلغة الحرب ، فلا بد أن تحمي ظهرك أولاً ، من شر العدو الأقرب . إذن : فلا تعارض بين محاربة العدو البعيد والعدو القريب . ولا تَعارض بين قوله الحق : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ } وقوله سبحانه : { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } لأن معنى { كَآفَّةً } أي : جميعاً ، ولكن الجماعة لها أولوية . فخذ القريب منك لتضمه إليك ، ومتى ضممته إليك نقصت أرضاً من عدوك ، وأصبح زائداً فيك ، فإذا كان الخصم معه سيف ومعك سيف ، وبعد ذلك دخلت المعركة فأوقعت سيفه من يده فأخذته فبذلك يصبح معك سيفان وهو لا سيف معه . ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى للكفار : اعتبروا أيها الكفار ، فأنتم لا ترون الأرض كل يوم وهي تنقص من تحت أقدامكم ، وما ينقص من أرض الكفار يزيد في أرض الإيمان . وما دام الحق قد جاء بكلمة " قتال " فهذه الكلمة تحتاج إلى عزيمة ، وجرأة تُجَرِّىء على القتال ، وصبر عليه ، فقد تجد في مواجهتك من هو أقوى منك أو من هو أشجع منك ، فإن رأى شجاعة منك تفوق شجاعته ، وأحسَّ منك قوة ومثابرة تفوق قوته ومثابرته ، فهذا ينزع من قلبه الأمل في الانتصار عليك ولذلك يقول الحق : { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } والغلظة صفة ، ويقال : غِلْظَة ، وغُلْظَة ، وغَلْظَة ، والمعروف أنها الشدة ، فحين تضرب عدوكَ اضربه بقوة ، وبجرأة ، وبشجاعة . وحين يحاول عدوك أن يضربك استقبلْ الضربة بتحمُّل ، وهكذا نجد أن الغلظة مطلوبة في حالتين اثنتين في حالة الإرسال منك ، وفي حالة الاستقبال منه ، فلا يكفي أن تضرب عدوك ضربة قوية ، وحين يردُّ لك الضربة تخور وتضعف . إن الحق يطلب منك غلظة تحمِلُ على عدوّك ، وغلظة تتحمَّل من عدوّك . ولذلك نجد آية آل عمران يقول فيها الحق : { ٱصْبِرُواْ … } [ آل عمران : 200 ] . ولكن هَبْ أن عدوَّك يصبر أيضاً ، فيأتي الأمر من الحق : { وَصَابِرُواْ … } [ آل عمران : 200 ] . أي : حاول أن تغلبه في الصبر . وحذَّر الحقُّ من إلقاء السلاح بعد انتهاء المعركة لأن العدو قد يستنيم المؤمن لذلك جاء الأمر من الحق : { وَرَابِطُواْ … } [ آل عمران : 200 ] . أي : استقر أيها المؤمن في الأرض ليعلم العدو أنك تنتظره إن حاول الكرّة من جديد أو حدَّثته نفسه بالقتال مرة أخرى . إذن : فالغلظة تطلب منك أن تهاجم ، وتطلب منك أن تتحمّل ، والتحمُّل يقتضي صبراً ، والتحامل يقتضي شجاعة ، فإذا ما كان في خصمك صبر وشجاعة فعليك أن تصابره أي : تصبر أكثر منه ، وهي مأخوذه في الأصل من " نافس فلان فلانا … أي سابقه وحاول أن يسبقه " ، والمنافسة من النفس ، والحق يقول : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } [ المطففين : 26 ] . أي : تنافسوا في الخير ، ونحن نعلم أن تركيبة النفس الإنسانية تحتاج إلى شيء مرة أو مرتين في اليوم ، وتحتاج إلى شيء آخر خمس أو ستَّ مرات في اليوم . وتحتاج إلى شيء ثالث دائماً . فأنت في الأكل تأكل ثلاث وجبات ، وفي الشراب تحتاج إلى لترين أو أربعة من الماء أو أكثر . أما التنفس فأنت لا تصبر على الانقطاع عنه ، وهو أهم الضروريات لحياة الإنسان . وقلنا قديماً : إن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه قد يملك إنسان طعامَ إنسان ، وقد يستطيع الإنسان الصبر عن الطعام لأسابيع ، ولا يصبر الإنسان عن انقطاع الماء إلا أياماً تتراوح من ثلاثة إلى عشرة ، حسب كمية المياه التي في جسمه لذلك لم يُملِّك الحق سبحانه الماء مثلما مَلَّك الطعام ، وأما الهواء فأنت لا تصبر على افتقاده للحظات ولذلك لم يملِّك الله الهواء لأحد أبداً ، وكأنه سبحانه علم أن عباده غير مأمونين على بعضهم البعض ، ولذلك سُمّي استنشاق الهواء وزفيره بالتنفس ، وهو من النفس ، وهو سبب وجود النفْس وهي مزيج من المادة والروح ، والأساس هو نَفَس الهواء الذي يضمن استمرار النفس في الحياة . وإذا ما نافست العدو فأنت تصطاد الشيء النفيس ، وهو إعلاء منهج الله . وحين تصابر أهل الباطل ، فكل واحد من أهل الباطل قد يصابر لجاجة لمدة قصيرة ثم يتراجع لأن الباطل زهوق ، وهنا يقول سبحانه : { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أي : غلظة تحمل بها على العدو ، وغلظة تتحمَّل من العدو ، وأن تصبر ، وتصابر ، وترابط . وكيف يطلب الله منا أن تكون لنا غلظة عليهم مع أنه قال لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ … } [ آل عمران : 159 ] . فإن هذا ينفي الغلظة ، وأقول : لِنُفرق بين أمرين ، أمر الغلظة في أن تكون الحجة قوية ، وأمر الغلظة التي يتطلبها القتال ، أما المعايشة والمآكلة والملاطفة ، فهذه تحتاج إلى لين ورِقَّة . وقوله الحق : { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } يفيد أن الغلظة ليست صفة دائمة ، بل تعني أنك إن تَطَلّبَ الأمرُ فيجب أن تتوافر فيك ، وكذلك قلنا : إن الله لم يطبع المؤمن على الغلظة ، ولم يطبعه على الشدة ، ولم يطبعه على العزة ، بل قال : { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] . وقال : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ … } [ المائدة : 54 ] . ويُنهي الحق الآية : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } . إياك أن تفهم أنك تواجه أعداءك من الكفار بعددك وعُدَّتِك ، ولكن العدد والعدة أمران مطلوبان لتدخل المعركة ، وعندك شيء من الاطمئنان . ومثال هذا من يسلك مفاوز أو صحارى مقفرة أو طريقاً موحشاً ، ويحتمل أن يصادف قُطَّاع طريق ، نجده يستعد بحمل سلاح فهو يعطيه شيئاً من الاطمئنان فقط ، وهكذا الحال مع العدد والعدة . أما النصر فهو من المدد الرَّبَّاني من الحق سبحانه وتعالى . وما دام الله مع المتقين ، ولله معيَّة مع المتقين فلا بد أن يمدهم بمدده لذلك جاء الحق هنا بقوله : { أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } لننتبه إلى أن الداخل في الحق هو من سيسلك سلوكاً غليظاً مع الأعداء ، وقد يسلك بالغلظة طمعاً في المغنم ، فيدخل على الكافر بالقسوة ، وقد يكون قلب هذا الكافر مستعداً للإيمان ، فيقول : أسلمت واستسلمت ، لكن من دخل عليه تعجبه مطية هذا الكافر ، ويعتبرها مغنماً . لذلك يأتي التحذير في قول الحق سبحانه : { أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } فإن سلَّم لك واستسلم فاستأسره ، وإياك أن تؤذيه أو تأخذ معداته على أنها مغنم ، فأنت لم تذهب للقتال من أجل الغنائم ، أو لتكسب مكانة في مجتمعك كمقاتل ، بل أنت تقاتل حين يكون القتال مطلوباً ، وتسلك بالخلق الإيماني اللائق في إطار أنك من المتقين لله ، وتحارب لتكون كلمة الله هي العليا وهنا تكون معيه الله لك { أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } . إذن : فالغلظة لا تعني أنها طبع أصبح فيك ، ولكن عدوك يجد فيك غلظة إن احتاج الأمر إلى غلظة . فإن لم يحتج الأمر إلى غلظة فلا بد أن يوجد في طبعك اللين والموادعة . ولذلك يقولون : الرجل كل الرجل هو من كانت له في الحرب شجاعة ، وفي السلم وداعة ، وخيركم من كان في الجيش كميّاً وفي البيت صبيّاً ، فلا يصطحب غلظته مع العدو إلى البيت والزوجة والأبناء لأن ذلك وضع للطاقة في غير مجالها . هكذا نفهم قوله الحق : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } [ التوبة : 123 ] . أي : كونوا في حربكم غلاظاً بما يناسب الموقف لأن الحرب تتطلب القسوة والشدة ، ولكن إياك أن تستعمل هذه الأمور لصالحك ، ولكن استعملها لله لتضمن أن تكون في معية الله ويقول سبحانه بعد ذلك : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ … } .