Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 19-19)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

جاءت هذه الآية رداً على كفار مكة الذين أسروا في غزوة بدر ، وكان منهم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تحدث إليه بعض من الصحابة يدعونه للإسلام وللجهاد في سبيل الله فقال : إننا نسقي الحجيج ونرعى البيت ، ونفك العاني ، ونقوم بعمارة البيت الحرام قال العباس ذلك ولم يكن قد أسلم بعد . وما قاله العباس هو موجز رأي أهل الشرك من قريش ، الذين جعلوا هذه المسائل مقابل الإيمان بالله والجهاد في سبيله . وجاء قول الحق ليؤكد أن الكفة غير راجحة فقال : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ … } [ التوبة : 19 ] . وكلمة { سِقَايَةَ } تطلق ثلاث إطلاقات : فهي المكان الذي يجتمع فيه الماء ليشرب منه الناس والذي نسميه . السبيل . وكذلك تطلق السقاية : على الإناء الذي نشرب منه الماء ، والذي يرفع إلى الفم كالكوب والكأس أو يسمى صواع الملك ، وفي قصة يوسف عليه السلام يأتي القول الكريم : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ … } [ يوسف : 70 ] . أما المعنى الثالث : فهو الحرفة نفسها فنقول : هذه خياطة ، وهذه حدادة وهذه سقاية ، أي أنه عمل يتصل بسقاية الناس ، فالسقاية - إذن - هي المكان الواسع الذي يتجمع فيه الماء ، أو الإناء الذي نستعمله في الشرب ، أو الحرفة التي يقوم بها السقا . وهنا يقول الحق تبارك وتعالى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ … } [ التوبة : 19 ] . فإن كنتم تفتخرون بأنكم تحترفون سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام وتجعلون هذا في مقابل الإسلام ، فذلك لا يصلح أبداً كمقابل للإيمان ، ولا تتساوى كفة الإيمان بالله واليوم الآخر أبداً مع كفة سقاية الحجيج ، وعمارة المسجد الحرام . ومن يقدر ذلك هو الله سبحانه وتعالى ، وله مطلق المشيئة في أن يتقبل العمل أو لا يتقبله . والمؤمن المجاهد في سبيل الله إنما يطلب الجزاء من الله ، أما من يسقي الحجاج ويعمر بيت الله دون أن يعترف بوحدانية الله كالمشركين - قبل الإسلام - فهو يطلب الجزاء ممن عمل من أجلهم ، ولأنه سبحانه هو معطي الجزاء ، فهو جل وعلا يوضح لنا : أن هذين العملين لا يستويان عنده ، أي لا يساوي أحدهما الآخر في الجزاء . ويقال : إن سيدنا الإمام علياً رضي الله عنه ، وكرم الله وجهه ، مر على طلحة بن شيبة والعباس ووجدهما يتفاخران ، أي : يفاخر كل منهما الآخر بالمناقب التي يعتز بها ليثبت أنه أحسن وأفضل منه . وكانت المفاخرة من طبع العرب حتى في الأشياء التي ليس لهم فيها فضل ، والممنوحة لهم من الله عز وجل مثل الشكل والنسب إلى آخره ، لأن أحداً لا يختار أباه وأمه ليتفاخر بهما ، وإنما كل ذلك هو عطاء من الله سبحانه وتعالى . لقد كان العرب مثلاً يجلسون أمام مكان ممتلىء بالماء يتفاخرون أيهم يغطس في الماء ، ويبقى رأسه تحت الماء مدة أطول ، أي : أيهم أطول نفساً من الآخر ، مع أن هذه مسألة خاضعة لبنية الجسم وتكوينها من الله الخالق ، وليس لأحد يد فيها ، فهناك من أعطاه الله رئتين أقوى من الآخر ، وهو الذي يستطيع أن يغطس مدة أطول ، ولكن هذه المسألة كانت من أوجه التفاخر عند العرب . جلس طلحة والعباس يتفاخران ، فقال طلحة بن شيبة : بيدي مفتاح الكعبة ، ولو شئت أن أنام فيها لنمت . فرد عليه العباس : وأنا معي سقاية الحاج ، ولو شئت ألا أسقي أحداً لاستطعت . ومر الإمام علي كرم الله وجهه عليهما وهما يتفاخران ، فلما سمع كلامهما قال : ما أدري ما تقولان لقد صليت ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد فنزلت الآية : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ … } [ التوبة : 19 ] . ولم يكد العباس يسمع هذه الآية حتى قال : " إنَّا قد رضينا ، إنَّا قد رضينا " ، قال ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي حكم ، وفي هذا القول إشارة إلى أن المفاخرة التي كانت بين العباس وطلحة لم تكن في موضعها . وكلمة { عِندَ ٱللَّهِ } في الآية الكريمة تفيد : أن المقاييس عند الله تختلف عن المقاييس عند البشر لأن المقاييس عادة تختلف حتى بين الناس ، فلك مقاييس وللناس مقاييس . وقد تجامل نفسك في مقاييسك . وقد يجاملك الناس في مقاييسهم ، أو قد يقسون عليك . وكل مقياس يكون فيه هوى لأن كل إنسان إنما يؤثر نفسه . وكل إنسان يحاول أن يأخذ كل شيء . ولكن المقاييس التي لا هوى فيها والتي ليس فيها إلا العدل المطلق هي مقاييس الله ، ولذلك نجدها تَجُبُّ كل شيء ، وليس فيها أي فرصة للطعن . ثم يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ التوبة : 19 ] . وهذه أوجدت الحل لمشكلات متعددة يثيرها بعض الناس حول الهداية ، وكيف أنها من الله سبحانه وتعالى وليست من العبد لقوله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ … } [ القصص : 56 ] . نقول : نعم ، إن مشيئة الهدى من الله سبحانه وتعالى ، لكنه سبحانه قد أوضح لنا من لا يدخلهم في مشيئة هديه ، فقال : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ البقرة : 264 ] . وقال سبحانه : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 258 ] . وقال سبحانه : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [ المائدة : 108 ] . وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى هذه الحقائق في الكثير من آيات القرآن الكريم . وبعض الناس يقول : إن الهدى من الله ، ولو أن الله هداني ما قتلت ، وما سرقت وما ارتشيت ، ونقول : هذا فهم خاطىء ، ولنرجع إلى القرآن الكريم ، فالحق تبارك وتعالى يقول : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي } أي نفي ما يستوجب الهداية عمن ظلم أو فسق أو كفر لأن الحق سبحانه لاَ يَهْدِي من قدم الكفر أو قدم الظلم أو قدم الفسق فكأن الكافر أو الظالم أو الفاسق ، هو الذي يمنع الهداية عن نفسه . ولو قدم الإنسان الإيمان لدخل في هداية الله تعالى ، فكأن خروج الإنسان عن مشيئة هداية الله هي مسألة من عمل الإنسان وباختياره ، فقد يختار الإنسان طريق الغواية ، ويترك طريق الهداية لذلك لا يهديه الله لأنه سبحانه لا يهدي إلا المؤمن به . وإن اختار الإنسان طريق الهداية ، فالحق يعطيه المزيد من الهدى لأنه آمن بالله فاختار طريق الهداية ، واستقبل منهج الله بالرضى . وهكذا نفهم قول الحق تبارك وتعالى : { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ … } [ فاطر : 8 ] . إذن فالحق يهدي من استمع إلى القرآن بروح الإيمان ، واستقر في يقينه أن له رباً ، واعتقد أن له إلهاً ، وقد فصلنا ذلك في مسألة القضاء والقدر ، وقلنا : إن الذين يقرأون القرآن لفهم قضية الهداية عليهم أن يستقرئوا كل الآيات المتعلقة بالموضوع ، فسبحانه وتعالى قد أوضح أنه لا يهدي الكافر ، إذن فهو يهدي المؤمن ، وأوضح أنه لا يهدي الظالم ، إذن فهو يهدي العادل ، وأوضح أنه جل وعلا لا يهدي الفاسق ، إذن فهو يهدي الطائع ، فلا يقولن أحد : إن الله لم يشَأْ أن يهديني لأن هذا فهم خاطىء لمعنى الهداية من الله فسبحانه وتعالى قد بيَّن لنا من شاء هدايته ومن شاء إضلاله ، وهو يهدي من قدم أسباب الهداية ، وأسلم مقاليد زمامه للإيمان ، والله سبحانه وتعالى يقول : { وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } [ مريم : 76 ] . ويقول أيضاً : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] . إذن فالله أخبرنا مسبقاً بمن يستحق هدايته ومن لا يدخل فيها ، وأنت باختيارك طريقك ، إما أن تؤمن فتدخل في الهداية ، وإما أن تختار طريق الكفر والظلم والعياذ بالله فتمتنع عنك الهداية . فإذا جاء أحد يجادلك ويقول لك : إن الله سبحانه وتعالى قد قال : { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ … } [ المدثر : 31 ] . لك أن تقول له : لقد بيَّن الله عز وجل من شاء له الهداية ، ومن شاء له الضلال ، ولقد ضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى - فقلنا : إن الهداية قد وردت في القرآن الكريم على معنيين : المعنى الأول هو الدلالة على الطريق ، وهذه هداية للجميع ، فقد دل الله المؤمن والكافر على طريق الإيمان برسله وكتبه ، أي : بيَّن لهم ما يرضيه وما يغضبه وما يوجب رحمته وما يوجب لعنته ، فالهداية الأولى - إذن - وردت بمعنى الدلالة للجميع ، أي : أنها هداية عامة . ثم هناك هداية ثانية خاصة للمؤمنين ، وهي التي بيَّنها الله سبحانه وتعالى في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] . أي : أعانهم على منهجه فيسَّر لهم الطاعة وصعَّب عليهم المعاصي ، فإذا امتثل المؤمن لمنهج الله وأطاعه ، فالحق عز وجل يشرح صدره بذلك ، ويحبب الطاعة إليه فيزداد طاعة . وإذا شرع في ارتكاب المعصية بغَّضها له وجعلها ثقيلة على نفسه حتى يتركها . وضربنا لذلك مثلاً بالرجل الذي يقود سيارته ذاهباً لمكان معين . وعند مفترق الطرق وجد رجلاً من رجال المرور فدله على الطريق ، هذه دلالة عامة . وعندما يقدم الرجل الشكر لجندي المرور . فرجل المرور يُزيد من الإيضاح له : لا تتبع طريق كذا لأن فيها متاعب ومصاعب ، واتبع طريق كذا وكذا تصل في سرعة ويسر ، وهذه زيادة في الدلالة ، أو زيادة في الهداية . لكن إن قال سائق السيارة لنفسه : إن هذا رجل مرور لا يعرف شيئاً ، وتجاهل شكره ، فرجل المرور يتركه وشأنه . إذن فالحق سبحانه قد هدى المؤمن والكافر إلى طريق الإيمان ، فمن اتخذ طريق الإيمان أعانه الله تعالى عليه . ومن اتخذ طريق الكفر - والعياذ بالله - تركه الله يعاني ويضل . ولذلك لا بد لنا أن نتذكر دائماً أن الهداية هدايتان هداية دلالة لكل الناس ، وهداية معونة للمؤمنين فقط ، وفي الدلالة العامة يقول الحق تبارك وتعالى : { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [ البلد : 10 ] . أما دلالة المعونة : فهي التي يقول فيها المولى عز وجل : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] . وما يكشف لنا أن الهداية عامة ، أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن قوم ثمود وهم الذين بعث الله إليهم أخاهم صالحاً ، قال سبحانه : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ … } [ فصلت : 17 ] . ولو كانت الهداية هنا بمعنى أنهم أصبحوا مهتدين ، وسلكوا سبيل الإيمان ما قال الله سبحانه بعدها : { فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ … } [ فصلت : 17 ] . إذن { فَهَدَيْنَاهُمْ } في هذه الآية الكريمة معناها دللناهم على طريق الإيمان ولكنهم اختاروا طريق العمى والكفر . ويقول المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ … } .