Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 23-23)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والولي هو الذي يليك وينجز ما تحبه ، وتلجأ إليه في كل أمر ، وتأخذ منه النصيحة ، كما أنه القادر أن يجيرك حين تفزع إليه ، ويكون دائماً بمثابة المعين لك ، والقريب الذي يسمع منك ، إذا استغثت يغيثك وينصرك ، ويكون معك في كل أمورك . إن قارنا بين طلب المخلوق وطلب الخالق . والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هنا : إن أردتم أن يكون بناء الإسلام قوياً لا خلل فيه ، فإياكم أن يكون انتماؤكم غير انتماء الإيمان ، فهو فوق انتماء النسب والحسب وغير ذلك ، وإن قارنا بين طلب المخلوق وطلب الخالق ، فما يطلبه الخالق فوق ما يطلبه المخلوق لأنك إن أغضبت المخلوق في رضا الخالق تكون أنت الفائز ، ويقذف الله في قلب كل من حولك رضاهم عنك ، وسيقال عنك صاحب مبدأ وضمير ، ولا ترضى أن تغضب الله ليرضى عنك أحد . وإن أسخطت الله لإرضاء مخلوق مهما كان ، تجد أن الله يجعل هذا المخلوق يسخط عليك ويحتقرك . فإن شهدت زوراً لصالح بشر . يعرف عنك هذا الذي شهدت زوراً في حقه أنك شاهد زور فلا يأمنك ، وإن جئت بالصدفة لتشهد عنده فهو لا يقبل شهادتك ويحتقر كلامك . ولذلك قال الحكماء : شاهد الزور قد يرفع رأسك على الخصم بشهادته ، ولكنك تدوس بقدمك على كرامته لأنه سقط في نظرك . والانتماء إذن هو انتماء لله ، فإن صادفك قريب يريد منك أن تفعل ما يغضب الله فلا تطعه ، ولكن لا تكن فظاً معه . وخصوصاً مع الوالدين لأن الله سبحانه وتعالى يقول عنهما : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً … } [ لقمان : 15 ] . والحق سبحانه وتعالى يقول هنا : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَٰنِ … } [ التوبة : 23 ] . إذن فالذي يربط كل شيء هو الكفر أو الإيمان . وقد أعطانا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المثل الخالد . فقد كان سيدنا مصعب بن عمير أكثر الفتيان تدللاً في مكة ، وكانت حياته في مكة قبل إسلامه غاية في الترف ، وكان يرفل في الثياب الفاخرة ، فلما هاجر إلى المدينة عاش ظروف الفقر المادي الصعب ، لدرجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه في الطريق ساتراً عورته بجلد شاة فلفت النبي عليه الصلاة والسلام نظر الصحابة إلى حالته هذه وكيف فعل الإيمان بمصعب حيث فضل الإيمان على نعيم الدنيا كلها . لقد رأى مصعب - رضي الله عنه - أن شرفه بالانتماء إلى الإسلام أكبر من فاخر الثياب ، وترف العيش وانطبق عليه قول الحق تبارك وتعالى : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التوبة : 20 - 22 ] . وأعطانا سيدنا مصعب ومن معه المثل العظيم في الانتماء الإيماني ، والمجاهدة في سبيل الله بالمال والنفس ، وكيف نجعل اختيارنا مع منهج الله ، هذا المنهج الذي يقيد الإنسان فيما له اختيار فيه . فالإنسان مقهور في أشياء ومخير في أشياء . ونعلم أن التكليف لا يأتي في الأمور التي نحن مقهورون عليها . وإنما يأتي فيما لنا فيه اختيار . فإذا ما كان لنا اختيار ، فلنراع أن نختار بين البدائل في إطار منهج الله تعالى ، ولا نخرج بعيداً عن هذا الإطار . وكان المسلمون الأوائل يضحون بالبيت والمال والولد ، ويهاجرون في سبيل الله . واستقبلوا كل هذه التضحيات الصعبة بصدور مؤمنة ، وصبر واحتمال شديدين لأنهم وثقوا في البشارة من الله سبحانه وتعالى بأن لهم الجنة والرضوان ، والنعيم المقيم خالدين فيه لا يفارقهم ولا يفارقونه . وبهذا أقيم بناء الإسلام . وبعد أن بيَّن لنا الحق أسس الانتماء للدين ، وجزاء هذا الانتماء ، حذرنا أن ننحرف عنه لنرضى أباً أو إخوة أو أقارب ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَٰنِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ التوبة : 23 ] . ويريدنا الله سبحانه وتعالى أن نعرف أن الانتماء لله لا يعلو عليه شيء ، فإذا مِلْناَ عن الحق لنرضي أقارب ، أو لنحتفظ بمال أو منصب ، فذلك ظلم للنفس لأن جزاء الحق ونعيمه أكبر ، فلا ينصرن أحد الباطل ، ولا يجعل أحدنا الإيمان خادماً لكفار لا يؤمنون بالله . ويوضح الحق سبحانه وتعالى هذه الصورة بقوله تعالى : { إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَٰنِ } ، وكلمة " استحب " أي : طلب الحب ومثلها مثل " استخرج " أي : طلب إخراج الشيء . وإذا قلنا " استجاب الله " معناها : أجاب . إذن فـ " استحب " معناها : أحب ، ولكن " استحب " فيها افتعال . و " أحب " فيها اندفاع بلا افتعال . وقول الحق تبارك وتعالى { إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَٰنِ } يدل على أن الكفر مخالف للفطرة الإيمانية للإنسان ، لأن الإنسان بفطرته مؤمن محب للإيمان ، فإن حاول أن يحب غير الإيمان ، لا بد أن يتكلف ذلك وأن يفتعله لأنه غير مفطور عليه وليس من طبيعته . ولذلك يقول القرآن الكريم : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ … } [ البقرة : 28 ] . وهذا التساؤل والتعجب يوضح لنا أن الذين يحكّمون المنطق والفكر والعقل يصعب عليهم الكفر بالله ، لماذا ؟ لأن الكون وجد أولاً ، ثم وجد الإنسان ، فكان من الواجب حين نأتي إلى كون لم نصنع فيه شيئاً أن نسأل : من الذي أوجده ؟ وكان من الطبيعي أن يبحث العقل عن الموجد ، وخصوصاً أن في الكون أشياء ، لا قدرة للبشر على إيجادها كالشمس ، والأرض ، والماء ، والهواء ، والنبات ، والحيوان . وكلها تمثل الاستقبال الجامع لمقومات حياتك . كان من الطبيعي - إذن - أن نسأل : من الذي أوجد هذا الكون ؟ . خصوصاً أننا نفتش عمن اخترع لنا اختراعاً بسيطاً مثل : مصباح الكهرباء وندرس تاريخ حياته ، وكيفية اكتشافه ، لمجرد أنه أضاف إلى حياتنا اختراعاً استفدنا منه ، فما بالنا بمن خلق هذا الكون ؟ . ولقد رحمنا سبحانه وتعالى من ضلالات الحيرة ، فأرسل لنا رسولاً برحمة منه لينبهنا ويقول لنا : إن هذا الكون من خلق الله القادر العظيم . لماذا إذن لا نصدق الرسول ، ونتبع المنهج الذي أنزل إلينا ؟ ولقد ضربنا مثلاً - ولله المثل الأعلى - بشخص سقطت به الطائرة وسط الصحراء وبقي حياً ، لكن لا ماء ولا طعام ، ثم أخذته سِنَةٌ من النوم واستيقظ ليجد الطعام والشراب ، وكل ما يحتاج إليه حوله ألا يفكر قبل أن يأكل من كل هذا : من الذي جاء به ؟ . وأنت أيها الإنسان قد جئت إلى هذا الكون العظيم وقد أُعِدَّ إعداداً مثالياً لحياتك ، وهو إعداد فوق القدرة البشرية ، فكان يجب أن تفكر من الذي أوجد هذا الكون ؟ . إذن : فالإيمان ضرورة فطرية وضرورة عقلية أيضاً ، وإن ابتعدت عن الإيمان فهذا يحتاج إلى تكلف لأنك تبتعد عن منطق الفطرة والعقل لتحقق شهوات نفسك . وما دمت قد اتبعت هواك وخضعت لشهوات النفس ، فهذا لون من التكلف الذي يصيب ملكاتك بالخلل ، وعقلك بالخبل ، فحب الكفر لا يكون عاطفياً ، أو فطرياً ، كما لا يكون منسجماً مع العقل السليم ، بل هو حب متكلَّف . فالذي يفعل حلالاً يحيا وملكاته كلها منسجمة ، والذي يفعل حراماً يعيش وملكاته مضطربة ، والمثال : حين ينظر الرجل إلى زوجته ، فهو ينظر إلى حلاله ويشعر أن ملكاته منسجمة ، ولكن إن نظر إلى امرأة أخرى ، فهو … يشعر باضطراب الملكات . فالسلوك المتفق مع الإيمان سلوك سوي . أما السلوك الخارج عن منهج الإيمان فهو الذي يحتاج إلى تكلف ، وهذا التكلف يعارض الطباع الإنسانية . بينما توابع الإيمان من الاستقامة لا تكلف شيئاً ، فالمؤمن يكون مستقيماً فلا يرتشي ، ولا يسرق ، ولا يدخل بنفسه إلى مزالق الهوى أو الشهوة ، ويحيا حياة طيبة ، فإن فتح " دولابه " الخاص ، وأخذ منه شيئاً فهو يأخذ ما يريد بهدوء واطمئنان ، لكن المنحرف من يدخل إلى غير حجرته ويأخذ شيئاً من " دولاب " ما ، حتى ولو كان " دولاب " الأب النائم ، لذلك نجده يسير على أطراف أصابعه متلصصاً ليفتح " دولاب " أبيه . إذن : فالاستقامة لا تحتاج إلى تكلف ، ولكن الانحراف هو الذي يحتاج إلى تكلف ، ولذلك قال الله سبحانه : { ٱسْتَحَبُّواْ } ولم يقل " أحبوا " ، لأن الحب أمر فطري ، فالإنسان - مثلاً - يحب ابنه حباً فطرياً عاطفياً ، والحب العاطفي لا يقنن . فأنت لا تستطيع أن تقول : سأحب فلاناً وسأكره فلاناً لأن العاطفة لا تأتي بهذه الطريقة لذلك أنت تحب ابنك عاطفياً ، حتى وإن كان فاشلاً في دراسته . لكنك تحب ابن عدوك عقلياً إن كان متفوقاً ، إذن فالحب العقلي هو الذي يقنن له . وكذلك أنت تكره الدواء المر بعاطفتك ، لكنك تحبه بعقلك إن كان فيه شفاؤك ، فتبحث عنه ، وتدفع المال من أجله ، وتحرص على أن تتناوله ، وكلنا نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه " . ووقف عند هذه سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال : يا رسول الله : أنا أحبك عن مالي وأحبك عن ولدي ، ولكن كيف أحبك عن نفسي ؟ فكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث قائلاً : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه " . وكررها عليه الصلاة والسلام ثلاثاً ، فعلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن هذا تكليف . والتكليف لا يأتي إلا بالحب العقلي الذي يمكن أن يقنن . وقد يتسامى المؤمن في الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصير حباً عقلياً وعاطفياً . ولكن الحب العقلي هو مناط التكليف ، أما الحب العاطفي فلا يكلف به . ولم يقنن الحق سبحانه وتعالى لانفعالات العواطف ، لأنه سبحانه لا يمنع العواطف أن تنفعل انفعالاتها الطبيعية ، فأنت تحب من يسدي إليك معروفاً ، وهناك من تحبه دون أن تعرف السبب . وهناك من تبغضه دون أن يكون قد عاداك أو آذاك ، وكل ذلك متروك لك ، ولكن الله سبحانه وتعالى نهى أن يؤدي ذلك إلى عدوان على الحق ، فقال سبحانه وتعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ … } [ المائدة : 8 ] . أي : لا يدفعكم كره قوم على أن تخرجوا عن طريق الحق وتظلموهم ، فإن كرهتموهم فتمسكوا بالعدل معهم . إذن فالله سبحانه وتعالى لم ينه عن الحب أو الكره ولكنه نهانا عن أن نظلم من نكره أو نجامل من نحب على حساب الحق والعدل . ويعطينا سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صورة حية لهذا فقد قتل أبو مريم الحنفي زيد بن الخطاب شقيق سيدنا عمر في معركة اليمامة ، ثم دخل في الإسلام فكان كلما مر أمام سيدنا عمر قال له : إلو وجهك بعيداً عني ، فإني لا أحبك . فقال له أبو مريم الحنفي : أو عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي . قال : لا . فقال الرجل : إنما يبكي على الحب النساء . والحق سبحانه وتعالى حين قال : { إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَٰنِ } إنما يريد أن يلفتنا إلى أنهم عارضوا فطرتهم وعقولهم ولذلك لا نجعل انتماءنا لهم فوق انتمائنا لله ، فالولاء لله فوق كل حق حتى لو كان حق الأبوة ، صحيح أن الأب سبب وجودك ، ولكنه سبحانه وتعالى خلق أباك الأول آدم من عدم ، فلا تجعل الخلق الفرعي يطغى على الخلق الأصلي . ولذلك يذيل الحق هذه الآية الكريمة بقوله : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } لأنهم نقلوا الحق من الله سبحانه وتعالى إلى الخلق ، ولأنهم ظلموا أنفسهم فحرموها من الجزاء في الآخرة ليحققوا نفعاً عاجلاً في الدنيا . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ البقرة : 57 ] . لأن أحداً لا يستطيع أن يظلم الله سبحانه وتعالى ، والذي يتمرد على الإيمان بعد أن يسمع الدعوة إليه ولا يؤمن ، ومن يأمره الحق بالطاعة فيعصي ، فهذا تمرد على الإيمان ، وإن كنت من المتمردين وجاءك الله بمرض فهل تقدر على دفع المرض ولا تمرض ؟ . وإذا جاءك الله بالموت . أتستطيع أن تتمرد على الموت وتبعده عنك فلا تموت ؟ . إذن : هناك أقدار لا تستطيع التمرد عليها ، وأنت متمرد - فقط - فيما لك فيه اختيار . وبعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يخاطبهم خطاباً صريحاً فقال : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ … } .