Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 26-26)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي : أن الله تبارك وتعالى أنزل سكينته أولاً على رسوله وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه ، ثم أنزلها على المؤمنين الذين فروا من المعركة ثم عادوا إلى القتال مرة أخرى ، وقوله تعالى : { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } [ التوبة : 26 ] . وقد حدَّثونا عن أن الملائكة نزلت وثبَّتت المؤمنين ، وألقت الرعب في قلوب الكافرين وأنزلت العذاب بهم . والذين آمنوا هم الذين شهدوا بذلك لأنهم وصفوا كائنات على جياد بُلْق ولم يكن عندهم مثلها . وإذا حدثنا القرآن الكريم بأن الملائكة قد نزلت وأن هناك من رآهم ، فعلى الإنسان منا أن يقف موقف المؤمن ، وأن يثق في القائل وهو صادق فليؤمن بما قال ولا يبحث عن الكيفية . وإن كان منكم من يقف أمام هذه المسألة فعليه ألا يقف وقفة الرافض لوجودها ، ولكن وقفة الجاهل لكيفيتها لأن وجود الشيء مختلف تماماً عن إدراك كيفية وجوده . وهناك أشياء كثيرة في الكون ، موجودة وتزاول مهمتها ، ونحن لا ندرك كيفية هذا الوجود . وليس معنى عدم إدراكنا لها أنها غير موجودة . وكل الاكتشافات التي قدمها لنا العلم المعاصر كانت موجودة . ولكننا لم نكن ندرك كيفية وجودها من قبل . فالجاذبية الأرضية كانت موجودة . لكننا لم ندرك وجودها ولا كيفية عملها ، وكذلك الكهرباء كانت موجودة في الكون منذ بداية الخلق ، ولكننا لم نكن ندرك وجودها حتى كشف الله تعالى لنا وجودها فاستخدمناها ، والميكروبات كانت موجودة في الكون تؤدي مهمتها ولم نعرفها ، حتى كشف الله لنا عنها فعرفنا وجودها وكيفية هذا الوجود ، فكل هذه الأشياء كانت موجودة في كون الله منذ خلق الله الكون . ولكننا لم نكن ندرك وجودها . وعدم معرفتنا لم ينقص من هذا الوجود شيئاً ولذلك إذا حُدِّثْت بشيء لا يستطيع عقلك أن يفهمه فلا تنكر وجوده لأن هناك أشياء لم نكن نعرف عنها شيئاً ، ثم أعطانا الله تعالى العلم فوجدنا أنها تعيش بقوانين مادية محددة . إذن : فوجود الشيء يختلف تماماً عن إدراك هذا الوجود . وقول الحق سبحانه وتعالى : { ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } [ التوبة : 26 ] كلمة { لَّمْ تَرَوْهَا } [ التوبة : 26 ] . تعطي العذر لكل من لم ير ، ويكفي أن الله قال ليكون هذا حقيقة واقعة . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] . وحين كان يقال لنا : إنّ لله خلقاً هم الجن ، كما أن له خلقاً آخرين هم الملائكة ، والجن يروننا ونحن لا نراهم . كان البعض يقف موقف الاستنكار . وكذلك قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يَجْرِي من ابن آدم مَجْرى الدم " . وكان بعض الناس ينكرون هذا الكلام ويتساءلون : كيف يدخل الشيطان عروق الإنسان ويجري منها مجرى الدم ؟ ! وعندما تقدمنا في العلم التجريبي واكتشفنا الميكروبات ورأينا من دراستها أنها تخترق الجسم وتدخل إلى الدم في العروق ، هل يحس أحد بالميكروب وهو يخترق جسمه ؟ هل علم أحد بالميكروب ساعة دخوله للجسم ؟ طبعاً لا ، ولكن عندما يتوالد ويتكاثر ويبدأ تأثيره يظهر على أجسامنا نحس به ، وهذا يدل على أن الميكروب بالغ الدقة مبلغاً لا تحس به شعيرات الإحساس الموجودة تحت الجلد . ومن فرط دقته يخترق هذه الشعيرات أو يمر بينها ونحن لا ندري عنه شيئاً ، ويدخل إلى الدم ويجري في العروق ونحن لا نحس بشيء من ذلك ، والدم يجري في عروق يحكمها قانون هو : أن مربع نصف القطر يوزع على الكل ، ومثال ذلك ما يحدث في توزيع المياه ، فنحن نأتي بماسورة رئيسية نصف قطرها ثماني بوصات وندخلها إلى قرية ، تكون كمية الصب هي 8 × 8 … أي 64 بوصة مربعة ، حينما نأتي لنوزعها على مواسير أخرى فرعية نأخذ منها ماسورة نصف قطرها أربع بوصات ، ومنها نأخذ ماسورة نصف قطرها بوصتان ، ومنها نأخذ ماسورة نصف قطرها بوصة أو نصف بوصة ، المهم أن مربع أنصاف أقطار المواسير الفرعية يساوي ما تصبه الماسورة الكبيرة . وهكذا عروق الدم ، فالدم يجري في شرايين واسعة وأوردة وشعيرات دقيقة … ولكن دقة حجم الميكروب تجعله يخترق هذه الشعيرات فلا ينزل منها دم ، وعندما تضيق هذه الشرايين تحدث الأمراض التي نسمع عنها ، من تراكم الكوليسترول أو حدوث جلطات ، فيتدخل الطب ليوسع الشرايين لأنها مواسير الدم . وهناك جراحات تجري بأشعة الليزر أو غيرها من الاكتشافات الحديثة تخترق هذه الأشعة الجلد بين الشعيرات لأنها أشعة دقيقة جداً فلا تقطع أي شعيرة ولا تُسيل أي دماء . إذن : فكل ما في داخل الجسم محسوب بإرادة الله تعالى ، ولكل ميكروب فترة حضانة يقضيها داخل الجسم دون أن نحس به ، ثم بعد ذلك يبدأ تأثيره فيظهر المرض وتأخذ عمليات توالد الميكروب في الدم ومقاومة كرات الدم البيضاء له فترة طويلة ، بينما نحن لا نحس ولا ندرك ما يحدث . فإذا كان " الميكروب " وهو من مادتك ، أي : شيء له كثافة وله حجم محدد ولا تراه إلا بالميكروسكوب فتجد له شكلاً مخفياً ، وهو يتوالد ويتناسل وله دورة حياة ، إذا كان هذا " الميكروب " لا تحس به وهو في داخل جسمك فما بالك بالشيطان الذي هو مخلوق من مادة أكثر شفافية من مادة الميكروب ، هل يمكن أن تحس به إذا دخل جسدك ؟ لا ، وإذا كان الشيء المادي قد دخل جسدك ولم تحس به ، فما بالك بالمخلوق الذي خلقه الله تعالى من مادة أشف وأخف من الطين ؟ ألا يستطيع أن يدخل ويجري من ابن آدم مجرى الدم ؟ ! فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " . فلا تتعجب ولا تُكذِّب لأنك لا تحس به . فالله أعطاك في عالم الماديات ما هو أكثر كثافة في الخلق ويدخل في جسدك ولا تحس به . إذن : فالعلم أثبت لنا أن هناك موجودات لا نراها . ولو أننا باستخدام الميكروسكوبات الإلكترونية الحديثة فحصنا كل خلية في جسم الإنسان فإننا سنرى العجب ، سنرى في جلد الإنسان الذي نحسبه أملسَ آباراً يخرج منها العرق ، وغير ذلك من تفاصيل بالغة الدقة لا تدركها العين ، فإذا حدَّثنا الله سبحانه وتعالى بأن هناك ملائكة تنزل وتقاتل ، فنحن نصدق ، وقد جعل الحق تبارك وتعالى لنا ما يطمئن بشريتنا فقال : { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } [ التوبة : 26 ] فإن قال واحد : إنَّه رآها ، وقال آخر : لم أرَ شيئاً ، نقول : إن قول الحق : { لَّمْ تَرَوْهَا } [ التوبة : 26 ] أي : لم تروْها مجتمعين ، فهناك من لمحها ، وهناك من لم يرها . وقول الحق سبحانه وتعالى : { وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ التوبة : 26 ] أي : بالقتل أو بالأسْر أو بسلب أموالهم ، وقوله تعالى : { وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } [ التوبة : 26 ] أي : أن ما لحق بهم من هزيمة كان جزاءً لهم على كفرهم . ولكن البعض يتساءل : لماذا لم ينزل الجزاء وتتم الهزيمة من أول لحظة في القتال ؟ نقول : إن الله أراد أن يزيد عذابهم ، فلو أنه ألحق بهم الهزيمة من أول لحظة ، لكان ذلك أخف على أنفسهم وأقل عذاباً ، ولكنه أعطاهم أولاً فرحة النصر حتى تأتي الهزيمة أكثر قسوة وأكثر بشاعة ، والشاعر يقول : @ كَما أدركَتْ قَوْماً عِطَاشاً غَمَامةٌ فلمَّا رأوْهَا أقشعتْ وتجلَّت @@ فحين تمر سحابة على قوم يعانون من شدة العطش ، هم يحلمون أن تمطر عليهم ، لكن الحلم يتبدد تماماً كالمسجون الذي يعاني من عطش شديد . فيطلب من السجان شربة ماء فيقول له السجان : سأحضرها لك . وفعلاً يذهب السجان ويحضر له كوب ماء مثلج فيعطيه له ويمسك المسجون الكوب بيده ونفسه تمتلئ فرحاً . وإذا بالسجان يضربه بشدة على يده فيسقط الكوب على الأرض ، فيصاب المسجون بصدمة شديدة . وهذه أبشع طرق التعذيب . ولو أن السجان رفض إحضار كوب الماء من أول الأمر لكان ذلك أقل إيلاماً للسجين . لكن بعد أن يحضر كوب الماء للمسجون ويضعه في يده ثم يحرمه منه فهذا أكثر عذاباً . وهكذا أراد الله أن يزيد من عذاب الكافرين فأعطاهم مقدمات النصر وحلاوته أولاً ، ثم جاءت من بعد ذلك مرارة الهزيمة لتسلبهم كل شيء ، وبذلك تجتمع لهم فجيعتان : فجيعة الإيجاب ، وفجيعة السلب . ثم تأتي لمحة الرحمة التي يغمر بها الله سبحانه وتعالى كونه كله ، ويفتح الباب لكل عاصٍ ليعود إلى طريق الإيمان فيتقبله الله ، ويقول الحق تبارك وتعالى : { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ … } .