Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 28-28)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي : أنه لا يكفي أن يقطع المؤمنون كل عهودهم مع المشركين ، بل لا بد أن يبرأوا أيضاً من المشركين أنفسهم لأنهم نجس ، والنجس هو الشيء المستقذر الذي تعافه النفس وتنفر منه ، وقد يكون المشرك من هؤلاء مقبولاً من ناحية الشكل والملبس ، ولكن هذا هو القالب ، والحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم إنما يتكلم عن المعاني وعن الخلق . فالله عز وجل لا ينظر إلى القوالب ، بل إلى القلوب ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه : " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم " . فقد تكون الصورة مقبولة شكلاً ، لكن العقيدة التي توجد في قلوب تلك الأجساد قذرة ونجسة ، وسبحانه لا يأخذ بالظواهر ولا بالصور ، بل بالقيم . وأنت إذا ما نظرت إلى القيم وإلى العقائد الحقة الصادقة ، تجد كل عقيدة تنبئ عن تكوين مادتها ، وعلى سبيل المثال ، حينما تكون فرحاً ، يتضح ذلك على أساريرك ، ومن سيقابلك سيلحظ ذلك ويعرف أنك مبتهج ، وإن كنت غاضباً أو تعاني من ضيق ، فهذا يتضح على أساريرك . إذن : فالمادة تنفعل بانفعال القيم ، وما دامت القيم فاسدة فالمادة التي يتكون منها جسده تكون متمردة على صاحبها لأن المادة بطبيعتها عابدة مسبحة لله ، وكذلك الروح بطبيعتها عابدة مسبحة لله تعالى ، ولا ينشأ الفساد إلا بعد أن توضع الروح في المادة ، ثم تتكون النفس من الاثنين معاً ، المادة والروح ، فإن غلَّبت النفس منهج الله صارت مطمئنة ، وإن تأرجحت النفس بين الطاعة والمعصية ، فإمَّا أن تطيع فتكون نفساً لوامة ، وإما أن تكفر وتتخذ طريق الشر فتكون نفساً أَمَّارة بالسوء . أما قبل أن تنفخ الروح في المادة ، فكل منها مسبح لله تعالى لأن كل شيء في الوجود عابد مسبح ، والنفس في كل سلوكها مقهورة لإرادة صاحبها بتسخير من الله عز وجل ، وحين يأتي الموت ، تنتهي الإرادة البشرية وتسقط سيطرة الإنسان على جسده ، بل إن هذا الجسد يشهد على صاحبه يوم القيامة . والإنسان في الحياة الدنيا يعيش وإرادته تسيطر على مادته بأمر من الله ، فاليد قد تضرب إنساناً ، وقد تعين إنساناً آخر وقع في عسرة ، ولسان المسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، ولسان الكافر يشرك مع الله آلهة أخرى . إذن : فمادة الإنسان خاضعة لإرادة صاحبها في دنيا الأغيار ، فإذا انتقل إلى الآخرة فلا تأثير له على المادة ، وتتحرر المادة من طاعة صاحبها في المعصية ، وتتمرد عليه ، وتشهد على صاحبها بأنه كان يستخدمها في المعصية . والحق سبحانه وتعالى يقول : { حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ فصلت : 20 - 21 ] . فكأن جوارح الإنسان تقول له يوم القيامة : لقد أتعبتني في الدنيا وأكرهتني على فعل أشياء لم أكن لأفعلها لأنني عابدة مسبحة لله ، وإن ما أمرتني به يخرج عن طاعة الله عز وجل ، وسبق أن ضربت المثل بقائد الكتيبة الذي يصدر أوامر خاطئة فيطيعه الجنود ، فإذا ما عادوا إلى القائد الأعلى شكوا له مما كان قائد الكتيبة يكرههم عليه ، كذلك أعضاء الجسم تشهد عليه عند خالقها يوم القيامة . فإن كنت عابداً مُسبِّحاً كانت جوارحك معك . وإن كنت غير ذلك كانت جوارحك ضدك ، فاللسان مثلاً عابد مسبح في ذاته ، فإذا أكرهته على أن يشرك بالله فهو مُكْرَهٌ في الدنيا ، ويصير شاهداً عليك يوم القيامة . والحق سبحانه وتعالى ينادي يومئذ قائلاً : { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . وهنا يقول الحق عز وجل : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] أي : أن عقيدتهم الفاسدة تنضح على تصرفاتهم ، وسبحانه وتعالى يربب المعاني الإيمانية في النفوس أي يزيدها ، ومثال ذلك : نحن نرجم إبليس كمنسك من مناسك الحج ، نرجم قطعة من الحجر رمزنا إليها بالشيطان ، ونحن لا نرى الشيطان وقد وضعنا له رمزاً وأرسينا في أعماقنا أن الشيطان عدو لنا ويجب أن نرجمه لنبتعد عن مراداته ، وبذلك أبرزنا هذه المعاني في أمر حسي لنوضح للنفس البشرية أن الشيطان عدو لنا ، وكلما وسوس الشيطان لنا بأمر نرجمه بأن نبيت لأنفسنا قضايا الإيمان الناصعة فيهرب منا . وكل منا عليه أن يتذكر أن الشيطان سوف يضحك على العاصين والكافرين في يوم القيامة ، ويقول ما أورده الحق سبحانه وتعالى على لسانه : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي } [ إبراهيم : 22 ] . وفي هذا القول سخرية ممن صدقوه لأن السلطان إما سلطان القهر بأن تأتي لإنسان بما هو أكبر منه وتقهره على فعل شيء بالقوة ، وإما سلطان الإقناع بأن تقنع إنساناً بأن يفعل شيئاً . والشيطان ليس له سلطان القهر والحجة . والحق سبحانه وتعالى عندما يقول : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] فإنه يوضح لنا أن نجسهم يحتم علينا أن نمنعهم من دخول الأماكن التي لا يدخلها إلا الإنسان الطاهر . وجعل الحق سبحانه وتعالى النجاسة المعنوية مثلها مثل النجاسة المادية ، ولذلك قال العلماء : ما دام الحق قد وصفهم بأنهم نجس فلا بد أن يكون فيهم نجس مادي ، ولذلك إذا اقتربت منهم تجد لهم رائحة غير طيبة ، لأنهم لا يتطهرون من حدث ، ولا يغتسلون من جنابة . وعندما ذهبنا إلى الجزائر بعد تحريرها من فرنسا ، لم نجد في البيوت حمامات لأن الواحد من المستعمرين لا يذهب إلى الحمام إلا كل عشرين يوماً مثلاً ، لذلك جعلوا الحمامات بعيداً عن المساكن ، ولكن بعد أن تحررت الجزائر صار في البيوت حمامات لأن الثقافة الإسلامية مبنية على الطهارة ، ويتوجب على المسلم أنه كلما دخل الإنسان الحمَّام تطهر ، وكلما كان جنباً اغتسل . ولقد قال البعض : لو أنني سلَّمت على مشرك ويده رطبة … فلا بد أن أغسل يدي . فإذا كانت يده جافة فيكفي أن أمسح على يدي . وفي هذا احتياط وتأكيد على اجتناب هؤلاء المشركين . وإذا كنا نجتنبهم أجساداً وقوالب ، ألا يجدر بنا أن نجتنبهم قلوباً ؟ وقد أنزل الحق سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة في العام التاسع من الهجرة وهو العام الذي صدر فيه منع المشركين من الاقتراب من المسجد الحرام والبراءة من هؤلاء المشركين ، وتساءل العلماء : هل الممنوع والمحرم هو اقتراب المشرك من المسجد الحرام ، أم من الحرم كله ؟ وحدد الإمام الشافعي التحريم على المشركين بالوجود في المسجد الحرام . ومع احترامنا لاجتهاد الإمام الشافعي نقول : إن الحق سبحانه وتعالى قال : { فَلاَ يَقْرَبُواْ } ولم يقل : فلا يدخلوا . وتحريم الاقتراب يعني ألا يكونوا قريبين منه ، وأقرب شيء للمسجد الحرام هو كل الحرم ، ولو كان المراد هو المسجد فقط لمنع الحق دخولهم إليه بالنص على ذلك . وهكذا نرى كيف يمكن أن يجتهد الإنسان ويبحث في المعاني ليستخرج المضمون الحق . ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 28 ] . وفي هذا القول الكريم حديث عن الغيب . والغيب - كما عرفنا - هو ما يغيب عنك وعن غيرك ، أما الشيء الذي يغيب عنك ولا يغيب عن غيرك فلا يكون غيباً ، فإذا سرق منك مال مثلاً فأنت لا تعرف من الذي سرق ، والسارق في هذه الحالة غيب عنك ، ولكنه ليس غيباً عن غيرك فالسارق يعرف نفسه والذي دبر له الجريمة يعرفه ، ومن رآه وستر عليه يعرفه . وأنت - أيضاً - لا تعرف مكان المسروقات ، ولكن السارق يعرف المكان الذي خبأها فيه . إذن : فهي غيب عنك وليست غيباً عن غيرك . وهذه لعبة الأفاقين والنصابين الذين يُسخِّرون الجن ، فما دام الشيء معروفاً ومعلوماً لغيرك من الناس فالكشف عنه مسألة سهلة ، ولكنّ هناك غيباً عنك وعن غيرك ، وهذا هو ما ينفرد به الحق سبحانه وتعالى في قوله سبحانه : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ … } [ الجن : 26 - 27 ] . ولكنْ هناك غيبٌ عن الناس جميعاً ، ولكنه لن يظل غيباً إلى آخر الزمان ، فمثلاً الكهرباء كانت غيباً واكتشفناها ، وتفتيت الذرة كان غيباً وعرفناه ، وقوانين الجاذبية كانت غيباً ثم دخلت في علم الإنسان فأصبحت معلومة له وليس هذا هو الغيب الذي يقصده الله سبحانه وتعالى في قوله : { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ } ، فهذا غيب يختص نفسه به ، لا تقل : إن فلاناً يعلم الغيب ، ولكن قل : إنه مُعلَّم غيب ، والمسائل الغيبية : إما أن يحجبها الزمان أو يحجبها المكان ، فالآثار المطمورة مثلاً ، تعبِّر عن شيء ماضٍ واندثر ، وفيه أخبار الأمم السابقة ، ولا يعرفها أحد ، وستره حجاب الزمن الماضي ، إلى أن يتم الكشف عنها ويهيِّئ الله لها من يفكُّ ألغازها . أما إبلاغ الله رسوله من أنباء الأمم السابقة مما جاء في القرآن الكريم فهو اختراق لحجاب الزمن الماضي ، نحو قوله تعالى : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ] . ويقول سبحانه وتعالى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى ٱلأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [ القصص : 44 - 45 ] . وقوله سبحانه : { وَمَا كُنتَ } في آيات أخرى دليل على أن الله سبحانه وتعالى أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بما كان مستوراً في الزمن الماضي . أما الشيء الذي سوف يحدث في المستقبل ، فهو محجوب عنك بحجاب الزمن المستقبل ، وقد اخترق القرآن الكريم حجاب المستقبل في آيات كثيرة كلها تبدأ بحرف السين ، وحرف السين دليل على أن الشيء لم يحدث بعد ، وقوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] . دليل على أنه من الزمن المستقبل يكشف الله لنا عن آياته الموجودة في الأرض ، وقوله تعالى : { الۤـمۤ * غُلِبَتِ ٱلرُّومُ * فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } [ الروم : 1 - 3 ] . وهذا اختراق لحجاب المستقبل لأن النصر حدث بعد نزول هذه الآية بتسع سنوات . إذن : فالذي يحدث في المستقبل محجوب عنك بالزمن المستقبل ، ولكن هناك شيئاً يحدث في الحاضر ولا نعرفه وهو محجوب عنك بحجاب المكان ، فما يحدث في مكان لست موجوداً فيه لا تعرفه ، فأنت إن كنت جالساً في مكة مثلاً ، فأنت لا تعرف ما يحدث في المدينة المنورة لأنه محجوب عنك بحجاب المكان ، وهناك أيضاً حجاب النفس ، أي : أن ما يدور في نفسك لا يعرفه أحد غيرك لأنه محجوب بحجاب النفس . وحين يقول الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] فسبحانه وتعالى يخاطب قوماً يريد منهم أن ينفذوا هذا الأمر ، ولكنه سبحانه يعلم السرائر التي تستقبل النص . مثلما يأتي إنسان ويخبرك أن المخبز القريب من منزلك سوف يغلق فأول ما يتبادر إلى ذهنك السؤال : ومن أين سنأتي بالخبز ؟ أو أن يقال لك : " إن الباخرة التي تحمل اللحم والخضروات ضلت الطريق " فأول ما يخطر على بالك لحظتها : ومن أين نأكل ؟ وكان المشركون يأتون إلى الحج ومعهم أموالهم ويتاجرون وينفقون ، هذه الفترة تمثل بالنسبة لمن يعيشون حول بيت الله الحرام فترة الرواج المادي الذي يعيشون عليه طوال العام . فإذا كان الحق سبحانه وتعالى يقول لهم : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } [ التوبة : 28 ] فأي شيء يختلج في نفوس المسلمين ؟ لا بد أن يدور في أعماقهم السؤال : ومن الذي سيشتري بضائعنا ؟ لكن هل ترك الله عز وجل مثل هذا القول دون أن يرد عليه ؟ لا ، فقد رد على التساؤل بقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 28 ] . وهكذا كشف الله حجاب النفس ، وردَّ على ما سيدور في نفوس المؤمنين في نفس الآية التي حرم فيها على المشركين أن يقتربوا من المسجد الحرام ، ولم ينتظر الحق سبحانه وتعالى حتى يعلن المؤمنون ما في أنفسهم ، بل رد على ما يجول بخواطرهم قبل أن يعلنوه . وحين يكشف الله عز وجل حجاب النفس بهذا الشكل ، فالمؤمن الذكي يقول : هذا ما جاء في بالي . ولأطمئن لأنه عرف ما بنفسي فسوف يرزقني . ولو لم يأت ذلك في بالهم لَكَذَّبوا النص . ولو كذبوا النص لما بقوا على الإيمان ، وما داموا قد بَقَوْا على الإيمان فقد جاء النص معبراً عما يجول بأنفسهم تماماً . والله سبحانه وتعالى كشف حجاب النفس في آيات كثيرة في القرآن الكريم ، منها قوله تعالى عن المنافقين والكفار : { وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ } [ المجادلة : 8 ] . وقول النفس لا يسمعه أحد ، ولو أن هؤلاء لم يقولوا هذا في أنفسهم لقالوا : والله ما خطر ذلك في نفوسنا . ولأنهم قالوه في أنفسهم فقد بُهِتُوا لكشف القرآن الكريم لما يدور داخل أنفسهم . ولقد رد الله سبحانه وتعالى في الآية الكريمة على ما سيدور في خواطر المؤمنين عندما يستمعون إليها ، فلم ينتظر الحق سبحانه وتعالى حتى يشكو المؤمنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوفهم الفقر وقلة الرزق ، بل أجاب سبحانه وتعالى على ذلك قبل أن يخطر على بالهم . فكأن الحق سبحانه وتعالى يُشرِّع حتى للخواطر قبل أن تخطر على البال ، ولا يترك الأمور حتى تقع ثم يُشرِّع لها . وهنا يقول المولى سبحانه وتعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } [ التوبة : 28 ] والعيلة هي الفقر ، ويتابع الحق جل وعلا : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 28 ] ، ولم يقل الحق " سيغنيكم " بل قال : { فَسَوْفَ } [ التوبة : 28 ] وهي تقتضي زمناً سيمر ولكنه زمن قريب لأن الخير الذي سيأتي له أسباب كثيرة كفيلة بتحقيقه كأن يعوضهم الله عما كان يأتي به الكفار بأن تمطر السماء مطراً فينبت النبات ، وهذه تحتاج إلى زمن ، وأن يأخذوا بالأسباب بأن يروج لهم تجارة على غير المشركين ، أو يكشف لهم من كنوز الأرض ما يغنيهم . ولذلك قال : { فَسَوْفَ } [ التوبة : 28 ] والأسباب تحتاج إلى وقت ، فنزلت الأمطار قرب جدة التي أسلمت ونبت الزرع في وادي خليط ، وتبالي باليمن وجرش وصنعاء ، وجاءت أحمال البعير بالخير لأهل مكة وحدثت الفتوحات الإسلامية ، فجاء الخير من الجزية والخراج . وهكذا نرى أن { فَسَوْفَ } [ التوبة : 28 ] امتدت لمراحل كثيرة ، وما زالت موجودة ممتدة حتى الآن . إذن : فقد أخذت الأمد الطويل . على أننا لا بد نلتفت إلى قول الحق سبحانه وتعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } [ التوبة : 28 ] هي حيثية بأن المؤمن عليه ألاَّ يتهاون في أمر دينه رغبة في تحقيق أمر من أمور الدنيا ، فكل من يرتكب معصية خوفاً من أن تضيع منه فائدة مادية أو دنيوية ، كأن يخشى قول الحق خوفاً من أن يضيع منه منصبه ، أو يغضب عليه صاحب العمل فيطرده من وظيفته ، نقول له : لا عذر لك لأن الله سبحانه وتعالى قال : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 28 ] . وحيث إن الرزق من عند الله سبحانه وتعالى ، وهذا هو كلام الله عز وجل ، فلا عذر لأحد أن يرتكب معصية بحجة المحافظة على رزقه ، أو بحجة أنه يدفع الفقر عن نفسه وبيته وأولاده . على أن قوله تعالى : { إِن شَآءَ } [ التوبة : 28 ] قد تجعل الإنسان يظن أن الزمن سوف يباعد بينه وبين الرزق لأنه سبحانه قد يشاء أو لا يشاء ، فكيف يكون هذا الأمر وهو سبحانه أراد بالآية طمأنة المسلمين . وإذا كان الله قد قال : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 28 ] . فإننا نقول : إن الحق سبحانه وتعالى يريد الصلة الدائمة بعبده وأَلاَّ يفسد على العبد الرجاء الدائم في الله تعالى . وقوله عز وجل : { إِن شَآءَ } [ التوبة : 28 ] هو إبقاء لهذا الرجاء لأن العبد سيظل في رجاء إلى الله عز وجل فيظل الله تعالى في باله ولأنه سيطلب دائماً رضا الله فإن هذا يجعله يبتعد عن المعصية ويتمسك بالطاعة . وفوق ذلك كله ، فإن الحق تبارك وتعالى له طلاقة القدرة في كونه ، فقدر الله وقضاؤه ليسا حجة على الله سبحانه وتعالى تقيد مشيئته سبحانه ، فمشيئة الله مطلقة لا يقيدها حتى قدر الله فهو إن شاء حدث القدر . وإن شاء لم يحدث . وهكذا تظل طلاقة قدرة الله في كونه . وبعض العارفين بالله يكشف لهم الله لمحة من لمحات الغيب ، فيخبر الواحد منهم الناس ، فيخلف الله سبحانه وتعالى ما كشفه حتى يظل الله وحده عالم الغيب فما دام ذلك اصطفاه الله بغيب أطلع الناس عليه . فسبحانه يُغيِّر أحداث الغيب ولا يعطي لذلك الشخص خبراً عن أي غيب آخر . إذن فكلمة : { إِن شَآءَ } [ التوبة : 28 ] هي إثبات لطلاقة قدرة الله في كونه ، فإن شاء أعطاكم ، وإن شاء لم يُعْطِكم ، فالإعطاء له حكمة ، والمنع له حكمة ، فقد يفتري البعض بالنعمة فيحجبها الحق عنهم ، وهذا ما حدث في كثير من البلاد التي طغت وكفرت بنعمة الله عليها لأنه سبحانه لو ترك النعمة هكذا بدون ضوابط لاستشرى في تلك البلاد الفساد والمعاصي ، إذن : فالمشيئة تقتضي إعطاءً ، أو منعاً ، والإعطاء له حكمة ، والمنع له حكمة لأن الحق سبحانه وتعالى يعامل خلقه على أنهم من الأغيار القُلَّب منهم من تأتيه النعمة فتطغيه ، ولذلك يقول سبحانه وتعالى : { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } [ الفجر : 15 - 16 ] . أي : أن الإنسان إذا أنعم الله تعالى عليه ، عدّ هذا كرماً من الله عز وجل ، وإذا ما ضيق الله عليه الرزق اعتبر ذلك إهانة وعدم رضا من الله . ويرد الله تبارك وتعالى ليصحح المفهوم فيقول : { كَلاَّ } [ الفجر : 17 ] أي لا المال دليل على الإكرام ، ولا قلة المال دليل على الإهانة . { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } [ الفجر : 17 - 20 ] . إذن : فالمال إذا جاء ليطغيك يكون نقمة عليك وليس نعمة لك ، وإذا كانت قلة المال تمنع طغيانك فهي نعمة وليست نقمة . ولذلك قال تبارك وتعالى : { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [ العلق : 6 - 7 ] . قد يمنع عنك المال الذي إن وصل إليك غرَّك فتحسب أنك في غنى عن الله تعالى وتطغى ، وهذا المنع نعمة وليس نقمة ، إذن فقوله تبارك وتعالى : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 28 ] هو إبقاء لطلاقة القدرة في الكون حتى يكون الإغناء لا بالمادة وحدها ولا بالمال وحده ، ولكن بالقيم أيضاً ، فلا يذهب المال قيم السماء ولا يبعد عن منهج الله . وقوله سبحانه وتعالى : { إِن شَآءَ } [ التوبة : 28 ] يعني : أنه سبحانه إن شاء أعطى ، وإن شاء منع ، فلا مانع لنا أعطى ، ولا معطي لما منع ، وهي طلاقة المشيئة ، في حدود حكمة الله عز وجل ، فلا تقل حين يمنع : إنه لم يحقق قوله : { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 28 ] لأن الإغناء كما يكون بالمادة ، يكون أيضاً إغناء بالقيم . ويؤكد هذا قَوْلَه سبحانه وتعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 28 ] أي : عليم بالأمر الذي يصلح لكم ، حكيم في وضع العطاء في موضعه والمنع في موضعه . ثم يقول الحق بعد ذلك : { قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ … } .