Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 33-33)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء بالقيم التي تهدي إلى الطريق المستقيم ، جاء بالدين الحق . فكلمة " دين " أخذَتْ واستعملت أيضاً في الباطل ، ألم يأمر الحق سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أَن يقول لكفار ومشركي مكة : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] . فهل كان لهم دين ؟ نعم كان لهم ما يدينون به مما ابتكروه واخترعوه من المعتقدات لكن { وَدِينِ ٱلْحَقِّ } [ التوبة : 33 ] هو الذي جاء من السماء . { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] ولنلحظ أن الحق سبحانه وتعالى جاء بهذا القول ليؤكد أن الإسلام قد جاء ليظهر فوق أي ديانة فاسدة ، ونحن نعلم أن هناك ديانات متعددة جاءت من الباطل ، فسبحانه القائل : { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } [ المؤمنون : 71 ] . ونتوقف عند قول الحق سبحانه وتعالى : { عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] ، فلو أن الفساد كان في الكون من لون واحد ، كان يقال ليظهره على الدين الموجود الفاسد ، ولكنَّ هناك أدياناً متعددة منها البوذية وعقائد المشركين ، وديانات أهل الكتاب والمجوس الذين يعبدون النار أو بعض أنواع من الحيوانات ، وكذلك الصابئة . ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يظهر دينه الذي هو دين الحق على دين واحد من أديان الباطل الموجودة ، ولكن يريد سبحانه أن يظهره على هذه الأديان كلها ، وأن يعليه حتى يكون دين الله واقفاً فوق ظَهْر هذه الأديان كلها ، والشيء إذا جاء على الظَّهْر أصبح عالياً ظاهراً . والحق سبحانه وتعالى يقول : { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ } [ الكهف : 97 ] . أي : أن يأتوا فوق ظهره . وكل الأديان هي في موقع أدنى بكثير من الدين الإسلامي . بعض الناس يتساءل : إذن كيف يكون هناك كفار ومجوس وبوذيون وصابئون وأصحاب أديان أخرى كاليهودية والنصرانية ، فما زالت دياناتهم موجودة في الكون وأتباعها كثيرون ، نقول : لنفهم معنى كلمة الإعلاء ، إن الإعلاء هو إعلاء براهين وسلامة تعاليم ، بمعنى أن العالم المخالف للإسلام سيصدم بقضايا كونية واجتماعية ، فلا يجد لها مخرجاً إلا باتباع ما أمر به الإسلام ويأخذون تقنيناتهم من الإسلام ، وهم في هذه الحالة لا يأخذون تعاليم الإسلام كدين ، ولكنهم يأخذونها كضرورة اجتماعية لا تصلح الحياة بدونها . وأنت كمسلم حين تتعصب لتعاليم دينك ، فليس في هذا شهادة لك أنك آمنت ، بل دفعك وجدانك وعمق بصيرتك لأنْ تؤمن بالدين الحق ، ولكن الشهادة القوية تأتي حين يضطر الخصم الذي يكره الإسلام ويعانده إلى أن يأخذ قضية من قضايا الإسلام ليحل بها مشكلاته ، هنا تكون الشهادة القوية التي تأتي من خصم دينك أو عدوك . ومعنى هذا أنه لم يجد في أي فكر آخر في الكون حلاً لهذه القضية فأخذها من الإسلام . فإذا قلنا مثلاً : إن إيطاليا التي فيها الفاتيكان الذي يسيطر على العقائد المسيحية في العالم الغربي كله ، وكانت الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان تحارب الطلاق وتهاجم الإسلام لأنه يبيح الطلاق ، ثم اضطرتهم المشكلات الهائلة التي واجهت المجتمع الإيطالي وغيره من المجتمعات الأوروبية إلى أن يبيحوا الطلاق لأنهم لم يجدوا حلاً للمشكلات الاجتماعية الجسيمة إلا بذلك . ولكن هل أباحوه لأن الإسلام أباحه ، أم أباحوه لأن مشاكلهم الاجتماعية لا تُحلُّ إلا بإباحة الطلاق ؟ وساعة يأخذون حلاً لقضية لهم من ديننا ويطبقون الحل كتشريع ، فهذه شهادة قوية ، يتأكد لهم بها صحة دين الله ويتأكد بها قول الحق سبحانه وتعالى : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ } [ التوبة : 32 ] ، وبالله لو كان الإظهار غلبة عقدية ، بمعنى ألاَّ يوجد على الأرض أديان أخرى ، بل يوجد دين واحد هو الإسلام لما قال الحق هنا : { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [ التوبة : 33 ] ولما قال في موضع آخر من القرآن : { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } وهذا يعني أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل من المعارضين للإسلام من يظهر الإسلام على غيره من الأديان لا ظهور اقتناع وإيمان ، لا ، بل يظلون على دينهم ولكن ظروفهم تضطرهم إلى أن يأخذوا حلولاً لقضاياهم الصعبة من الإسلام . ومثال آخر من قضية أخرى ، هي قضية الرضاعة ، يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] . وقامت في أوروبا وأمريكا حملات كثيرة ضد الرضاعة الطبيعية ، وطالبوا الناس باستخدام اللبن المجفف والمصنوع كيميائياً بدلاً من لبن الأم ، وكان ذلك في نظرهم نظاماً أكمل لتغذية الطفل ، ثم بعد ذلك ظهرت أضرار هائلة على صحة الطفل ونفسيته من عدم رضاعته من أمه . واضطر العالم كله إلى أن يعود إلى الرضاعة الطبيعية وبحماسة بالغة . هل فعلوا ذلك تصديقاً للقرآن الكريم أم لأنهم وجدوا أنه لا حَلَّ لمشكلاتهم إلا بالرجوع إلى الرضاعة الطبيعية ؟ وكذلك الخمر نجد الآن حرباً شعواء ضد الخمر في الدول التي أباحتها من قبل وتوسعت فيها ، ولكن شنُّوا عليها هذه الحروب بعد أن اكتشف العلم أضرارها على الكبد والمخ والسلوك الإنساني ، هذا هو معنى { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] أي : يجعله غالباً بالبرهان والحجة والحق والدليل على كل ما عداه . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [ التوبة : 33 ] فقد ظهر هذا الدين وغلب في مواجهة قضايا عديدة ظهرت في مجتمعات المشركين والكافرين الذين يكرهون هذا الدين ويحاربونه ، وهو ظهور غير إيماني ولكنه ظهور إقراري ، أي رغماً عنهم . وبعد أن بيَّن الله سبحانه وتعالى أن الأحبار والرهبان لا يؤمنون بالله الإيمان الصحيح ، ولا باليوم الآخر بالشكل السليم ، ويحلون ما حرم الله ، ويحرمون ما أحل الله ، ويتخذهم أتباعهم أرباباً من دون الله . هنا يقول الحق سبحانه وتعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ … } .