Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 34-34)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وبعد أن شرح سبحانه لنا ما يدور في ذواتهم ، وانحرافهم عن منهج الله تعالى ، والغرق في حب الدنيا وحب الشهوات ، وهم قد اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً ، وحرَّفوا تعاليم السماء حتى يأكلوا أموال الناس بالباطل ، ولكن هل الأموال تؤكل ؟ طبعاً لا ، بل نشتري بالمال الطعام الذي نأكله ، فلماذا استخدم الحق سبحانه عبارة { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ } [ التوبة : 34 ] ؟ أراد الحق سبحانه وتعالى بذلك أن يلفتنا إلى أنهم لا يأخذون المال على قدر حاجتهم من الطعام والشراب ، ولكنهم يأخذون أكثر من حاجتهم ليكنزوه . ولذلك يأتي قوله تعالى في ذات الآية أنهم { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] . هم إذن أكلوا أموال الناس بالباطل ، مصداقاً لقول الحق سبحانه { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ } [ التوبة : 34 ] ومعنى ذلك أنَّ هناك أكْلاً من أموال الناس بالحق في عمليات تبادل المنافع ، فالتاجر يأخذ مالك ليعطيك بضاعة ويذهب التاجر ليشتري بها بضاعة وهكذا ، وقانون الاحتياط هنا في أن يكون هناك رهبان وأحبار محافظون على تعاليم الدين ، ولا يأكلون أموال الناس بالباطل ، وهذا ظاهر في قول الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ } [ التوبة : 34 ] ولم يقل جل جلاله : كل الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ، بل قال { إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ } [ التوبة : 34 ] لأنه قد يوجد عدد محدود من الأحبار والرهبان ملتزمون ، والله لا يظلم أحداً لذلك جاء بالاحتمال . فلو أن الله سبحانه وتعالى عمَّم ووُجد منهم من هو ملتزم بالدين . فمعنى ذلك أن يكون القرآن الكريم لم يُغطِّ كل الاحتمالات ، ومعاذ الله أن يكون الأمر كذلك لأن الحق سبحانه وتعالى في قرآنه يصون الاحتمالات كلها . إذن : فاستيلاء بعض من هؤلاء الأحبار والرهبان على أموال الناس لا يكون بالحق ، أي لا يحصلون فقط على ما يكفيهم ، بل بالباطل أي بأكثر مما يحتاجون . وهم يأخذون المال ليصدوا به عن سبيل الله ، وهم في سبيل الحصول على الأموال الدنيوية يُغيِّرون منهج الله بما يتفق مع شهوتهم للمال ، وما يحقق لهم كثرة الأموال التي يحصلون عليها ، ولهذا تأتي العقوبة في ذات الآية فيقول المولى سبحانه وتعالى : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] والكنز مأخوذ من الامتلاء والتجمع ، ولذلك يقال : " الشاة مكتنزة " ، أي مليئة باللحم وتجمَّعَ فيها لحمٌ كثير . إذن : فيكنزون أي يجمعون ، وقول الحق سبحانه وتعالى : { يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } وهذان المعدنان هما أساس الاقتصاد الدنيوي ، فقد بدأ التعامل الاقتصادي بالتبادل ، أي سلعة مقابل سلعة ، وهي ما يسمى عمليات عمليات المقايضة ، وعندما ارتقى التعامل الاقتصادي اخترعت العملة التي صارت أساساً للتعامل بين الناس والدول . والعملة من بدايتها حتى الآن ترتكز على الذهب والفضة . وحتى عندما وجدت العملة الورقية ، كان لا بد أن يكون لها غطاء من الذهب لكي تصبح لها قيمة اقتصادية لأنَّ العملة الورقية لا يكون لها قيمة إلا بما يغطيها من الذهب والفضة . ومن إعجاز القرآن الكريم أن الحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن الذهب والفضة وهما معدنان ، يجعلهما الأساس في النقد والتجارة ، ولقد وجدت معادن أخرى أغلى من الذهب وأغلى من الفضة كالماس مثلاً . لكن لا يزال الأساس النقدي في العالم هو الذهب والفضة . وعلى مقدار رصيد الذهب الذي يغطي العملة الورقية ترتفع قيمة عملة أي بلد أو تنخفض … فمثلاً في مصر في عهد الاحتلال البريطاني كان النقد المتداول ثمانية ملايين جنيه ، ورصيدنا من الذهب عشرة ملايين جنيه فيكون الفائض من الذهب مليوني جنيه ، وبذلك كانت قيمة الجنيه المصري تساوي جنيهاً من الذهب مضافاً إليه قرشان ونصف القرش . والذي يهبط بالنقد إلى الحضيض أن يكون رصيد الذهب قليلاً وكمية النقد المتداولة كثيرة ، وهكذا يبقى الذهب هو الحجة والأساس في الاقتصاد العالمي . إذن : فالحق سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أراد أن يلفتنا إلى أن الذهب والفضة هما أساس التعامل في تسيير حركة العالم الاقتصادية ، وأن هذا التعامل يقتضي الحركة الدائمة للمال لأن وظيفة المال هي الانتفاع به في عمارة الأرض ، ولو أنك لم تحرك مالك وكنت مؤمناً ، فإنه ينقص كل عام بنسبة 25 % وهي قيمة الزكاة . ولذلك يفنى هذا المال في أربعين سنة . فإن أراد المؤمن أن يُبْقي على ماله فيجب أن يديره في حركة الحياة ليستثمره وينميه ولا يكنزه حتى لا تأكله الزكاة وهي نسبة قليلة تُدفَعُ من المال . ولكن إذا أدار صاحب المال ما يملكه في حركة الحياة ، فسينتفع به الناس وإن لم يقصد أن ينفعهم به لأن الذي يستثمر أمواله مثلاً في بناء عمارة ليس في باله إلا ما سيحققه من ربح لذاته ، ولكن الناس ينتفعون بهذا المال ولو لم يقصد هو نفعهم فمن وضع الأساس يأخذ أجراً ، ومن جاء بالطوب يأخذ قدر ثمنه ، ومن أحضر أسمنتاً أخذ ، ومن جاء بالحديد أخذ ، والمعامل التي صنعت مواد البناء أخذت ، وأخذ العمال أجورهم في مصانع الأدوات الصحية وأسلاك الكهرباء وغيرها ، والذين قاموا بتركيب هذه الأشياء أخذوا ، إذن : فقد انتفع عدد كبير في المجتمع من صاحب العمارة ، وإن لم يقصد هو أن ينفعهم . ولذلك فإن الذي يبني عمارة يقدم للمجتمع خدمة اقتصادية ينتفع بها عدد من الناس ، وكذلك كل من يقيم مشروعاً استثمارياً . إذن : سبحانه وتعالى لا يريد من المال أن يكون راكداً ، ولكنه يريده متحركاً ولو كان في أيدي الكافرين لأنه إذا تحرك أفاد الناس جميعاً فيحدث بيع وشراء وإنتاج للسلع وإنشاء للمصانع ، وتشغيل للأيدي العاملة إلى غير ذلك ، ولكن إن كنز كل واحد منا ماله فلم يستثمره في حركة الحياة ، فالسلع لن تستهلك ، والمصانع ستتوقف ، ويتعطل الناس عن العمل . وكما يحث الإسلام على استثمار المال ، يطالبنا أيضاً بألا يذهب المال إلى الناس بغير عمل حتى لا يعتادوا على الكسب مع الكسل وعدم العمل ولذلك قيل : إذا كثر المال ولم تكن هناك حاجة إلى مشروعات جديدة ، فلا تترك الناس عاطلين بل عليك أن تأمرهم ولو بحفر بئر ثم تأمرهم بطمّها أي وردمها ، في هذه الحالة سيأخذ العمال أجر الحفر والردم ، فلا تنتشر البطالة ويتعود الناس أن يأكلوا بدون عمل لأن هذا أقصر طريق لفساد المجتمع . إذن : فالحق سبحانه وتعالى يريد للمال أن يتحرك ولا يكتنز ولذلك قال المولى سبحانه وتعالى : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] لأنهم بكنزهم المال إنما يُوقفُونَ حركة الحياة التي أرادها الله تعالى لكونه . وأنت ترى العالم الآن يعيش في غائلة البطالة لأن المال لا يتحرك لعمارة الكون ، بل هناك من يكتنزون فقط . ولقائل أن يقول : ولكن الناس الآن يتعاملون بالنقد الورقي ، بينما ذكر الله سبحانه وتعالى الذهب والفضة نقول : إن العملة الورقية ليست نقداً بذاتها ، ولكنها استخدمت لتعفي الناس من حمل كميات كبيرة وثقيلة من الذهب والفضة ، قد لا يقدرون على حملها ، إذن فهي عملية للتسهيل ، وهي منسوبة إلى قيمتها ذهباً ، إذن : فالذين يكنزون العملة الورقية ولا ينفقونها فيما يعمر بها الكون وتتم عمارته تنطبق عليهم الآية الكريمة . ولكن الكنز في هذه الآية لا يأتي فقط بمعنى الجمع ولكنه أيضاً بمعنى أنهم لا يؤدون حق الله فيها . ولذلك فإن المال الذي أخرجتَ زكاته لا يُعدُّ كنزاً ، لأنه يتناقص بالزكاة عاماً بعد آخر أما المال المكنوز فهو المال الذي لا تُؤدَّى زكاته . والذي يملك مالاً مهما كانت قيمته ويؤدي حق الله فيه لا يعتبر كانزاً للمال . بل الكنز في هذه الحالة ما لم يؤد فيه حق الله . وإذا عُدْنا إلى نص الآية الكريمة : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] نتساءل : لماذا لم يقل الله : ولا ينفقونهما مع أنهما معدنان ؟ ونقول : إن الحق سبحانه وتعالى استخدم أسلوب الجمع لأن الذهب يطلق إطلاقات كثيرة ، فهناك من يملك ألف دينار من الذهب ، وغيره يملك مائة دينار من الذهب ، وثالث ليس لديه إلاَّ دينار ذهبيّ واحد وكذلك الفضة ، وما دام الجمع هنا موجوداً فلا بد أن تستخدم { يُنفِقُونَهَا } [ التوبة : 34 ] . ولم تقل الآية الكريمة : والذي يكنز . ولكنها قالت : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ } [ التوبة : 34 ] ، إذن : فالمخاطبون متعددون ، فهذا عنده ذهب ، وهذا عنده ذهب ، وثالث عنده فضة ، إذن فلا بد من استخدام صيغة الجمع . ويلفتنا القرآن الكريم إلى هذه القضية في قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } [ الحجرات : 9 ] . ولم يقل " اقتتلا " لأن الطائفة اسم لجماعة مكونة من أفراد كثيرين ، فإذا جاء القتال لا تقوم طائفة وتمسك سيفاً وتقاتل الثانية ، وإنما كل فرد من الطائفة الأولى يقاتل كل فرد من الطائفة الثانية ، إذن فهما طائفتان ساعة السلام ، ولكن ساعة الحرب يتقاتل كل أفراد الطائفة الأولى مع كل أفراد الطائفة الثانية ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى : { ٱقْتَتَلُواْ } ، ولم يقل " اقتتلا " . أما في حالة الصلح فقد قال سبحانه وتعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } [ الحجرات : 9 ] . واستخدم هنا " المثنى " لأننا ساعة نصلح بين طائفتين ، لا نأتي بكل فرد من الطائفة الأولى ونصلحه على كل فرد من الطائفة الثانية ، ولكن نأتي بزعيم الطائفة الأولى ونصالحة على زعيم الطائفة الثانية فيتم الصلح . ولذلك هنا تجب التثنية . وكذلك في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ } [ التوبة : 34 ] لم يقل ولا ينفقونهما ، ولكن قال سبحانه وتعالى : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } والإنفاق في سبيل الله يشمل مجالات متعددة ، ففي سبيل الله تحدث حركة في المجتمع يستفيد منها الناس ، فحين تُخْرجُ الزكاة يستفيد منها الناس ، وحين تُجهَّزُ بها جيوش المسلمين يستفيد منها الناس ، ونظرية عدم كنز المال ربما ظهرت حديثاً في الاقتصاد العالمي ولكنها موجودة منذ نزول القرآن الكريم . فأنت إن أنفقت ولم تكنز حدث رواج في السوق . والرواج معناه إيجاد العمل ووسائل الرزق . وإيجاد الحافز الذي يؤدي إلى ارتقاء البشرية ، وأنت حين تشتري لبيتك غسالة أو ثلاجة أو بنيت بيتاً صغيراً فإنك تُوجِدُ رواجاً اقتصادياً في المجتمع . وفي نفس الوقت ارتقيت بوسائل استخداماتك . والرواج يدفع إلى اكتشاف الأحسن الذي يفيد البشرية ، ولكن إذا كنزت كل مالك ساد الكساد الاقتصادي . وليس معنى ذلك أن ينفق صاحب المال كل ماله وزيادة لأن الحق سبحانه وتعالى يريد الوسط في كل الأشياء . ولذلك يقول سبحانه وتعالى : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . والحق سبحانه وتعالى في هذه الآية يحذر من سفاهة الإنفاق ، وعدم الإبقاء على جزء من المال لمواجهة أي أزمة مفاجئة . لكنك إن قترت حدث كساد في السوق وتوقف الإنتاج وتعطل العمال ، والإسلام يريد نفقة معتدلة توجد الرواج السلعي ، وادخاراً تستخدمه في الارتقاء بحياتك ومواجهة الأزمات . والإنفاق أنواع : إنفاق في المساوي لإبقاء الحركة الدائمة بين المنتج والمستهلك ، وإنفاق في غير المساوي بإعطاء الزكاة للفقير والمحتاج والمعدم ، والزكاة تنقي المجتمع من مفاسد كثيرة فهي تمنع الحقد بين الناس لأن الفقير إذا وجد من يعطيه فهو يتمنى له دوام النعمة حتى يستمر العطاء فلا يسخط الفقير على الغني ، والغني والفقير متساويان في الانتفاع لأن الفقير عندما يأخذ لا يسخط على أنه فقير ، ولكنه يحس بالعطاء حوله ، والغني حين يعطي يحس أن هذا أمان له لأنه إن ذهبت عنه النعمة فسوف يجد من يعطيه . وهكذا يحدث توازن في المجتمع بين الناس ، فلا يوجد من لا يستطيع الحصول على ضروريات الحياة ، ولا يوجد من لديه فائض يحبسه عن الناس . ولهذا يدعونا الإيمان إلى العمل بما يزيد عن قدر الحاجة ، ليكون هناك فائض للزكاة والصدقة . والإنسان إذا عمل فإنه لا يفيد نفسه فقط بل يفيد المجتمع أيضاً . فسائق " التاكسي " مثلاً إذا كسب مائة جنيه في اليوم قد يظن أنه نفع نفسه فقط ، ولكنه في الحقيقة نفع المجتمع كله بأن يسَّر على العباد مصالحهم ، فنقل هذا إلى عمله ونقل ذلك إلى المستشفى ، ونقل غيرهما إلى السوق ليشتري ما يحتاج إليه ، ونقل رابعاً ليزور قريباً أو ليحقق مصلحة وهكذا . إذن : فالذي يعمل يكون عمله خيراً لنفسه وخيراً للمجتمع ، وإن عمل كل الناس على قدر حاجاتهم فقط ، فمن أين يعيش غير القادر على العمل ؟ من أين يعيش المستحق للزكاة والصدقة ؟ إنه لا يعيش إلا بفائض القادر على العمل ، ولذلك لا بد للإنسان المسلم أن يعمل على قدر طاقته ، وليس على قدر حاجته . والعمل على قدر الحاجة يجعله يوفي بحاجات من يعولهم ، ولا يضطرهم إلى أن يمدوا أيديهم للآخرين أي أنه يقيهم شر الحاجة . أما العمل على قدر الطاقة فيجعله يأخذ حاجته ، ويعطي لغير القادر ما يقيم حياته ، وبذلك يقدم الخير لنفسه ومن يعولهم وللآخرين . إن المجتمع الذي يجد فيه غير القادر حاجته ، هو مجتمع يملؤه الاطمئنان بالنسبة للقادر وغير القادر . ونحن نعلم أننا نعيش في دنيا أغيار ، ولا يوجد من يدوم غناه أو من يدوم فقره لأن دوام الحال من المحال ، إن عاش الغني في مجتمع متكافل يجد فيه الفقير حاجته فهو لن يخشى تقلبات الزمن لأنه وهو الآن يعطي الفقير ، إن أصبح فقيراً فسوف يجد مقومات حياته ، والفقير إذا أغناه الله تعالى فسيذكر أنه كان يأخذ من الأغنياء ، فيبادر ليعين الفقراء كنوع من رَدِّ الجميل . وبذلك يعيش المجتمع كله حياة آمنة ، كما أن الحياة في مثل هذا المجتمع إنما تهيىء الاطمئنان للناس على أولادهم وذريتهم ، ذلك أن الأعمار بيد الله ، وعندما يحس الإنسان بأنه إن مات وترك أولاداً صغاراً ضعافاً فسوف يتكفل المجتمع بهم ، عندئذ يحس بالأمان في حياته ، ولكن إذا كان المجتمع قاسياً يضيع في حق اليتيم ، فالأب يعيش غير مطمئن على أولاده الصغار ، ولهذا نجد أن الحق تبارك وتعالى قد أمر بكفالة اليتيم ليعوضه عن أب واحد بآباء متعددين يَرْعَونهُ ، فَيُحسُّ الأب بالأمان وتُحس الأم بالأمان ويحس الصغار بالأمان ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [ النساء : 9 ] . وتقوى الله تكون ضماناً في أن يكفل المجتمع اليتيم فيدخل الأمن في قلب كل أب يخشى أن يموت وأولاده صغار . إذن : فساعة يكفل المجتمع اليتيم فالطفل لن يسخط على القدر الذي حرمه من أبيه لأنه وجد آباء يرعونه ، وهناك قصة يرويها عدد من إخواننا العلماء ، فقد مات زميل من زملائهم وأولاده صغار ، وكانت الأم تبكي على أطفالها لأنهم تيتموا ، ثم مرت السنوات وكبر الأطفال فصار هذا مهندساً وصار ذلك طبيباً ، والثالث أصبح محامياً ، بينما من لا يزال آباؤهم على قيد الحياة كانوا متعثرين في دراستهم ، فقال أحدهم للآخر : ليتنا نموت حتى يفتح الله باب الرزق على أولادنا . إذن : فهناك آباء محابس رزق ، إذا ذهبوا فاض الله بالرزق على أولادهم ، وهذه صورة نراها في الكون فنعرف أن المسألة في يد الله سبحانه وتعالى القائل : { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } [ الذاريات : 58 ] . إذن : فالاقتصاد الإسلامي مبني على وجود حركة في الكون ، ولا بد أن تكون هذه الحركة على قدر طاقة المتحركين ، وليس على قدر حاجاتهم حتى يكون هناك فائض يأخذه غير القادر من المتحرك القادر . ثم يعطينا الله سبحانه وتعالى لمحة إيمانية ، حينما نرى الفقير غير القادر وهو يتلقى العطاء من أي إنسان غني يتعب في عمله ، وكأن من هم أغنى منه يعملون ليعطوه ، وسبحانه وتعالى حين سلب القوة من هذا الرجل فقد عوَّضه بأن أعطاه ثمرة من جهد وناتج عمل غيره فلا يسخط على اختبار الله تعالى له بالابتلاء . { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] . وساعة تسمع كلمة { فَبَشِّرْهُمْ } [ التوبة : 34 ] تعرف أن البشارة عادة تكون في خبر سار ، وإن جاءت في خبر محزن تكون تهكماً ، فالإنسان الذي هو عزيز قومه ويجعل الناس له اعتباراً ، إن ظلم وطغى وخاف الناس أن يردوه لأنه لا يخشى الله فيهم ، هذا الظالم يُؤتَى به يوم القيامة ويُعذَّب أشد العذاب ، ويقال له : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] . وبطبيعة الموقف في النار هو مهان بعذاب جهنم ولا يمكن أن يكون عزيزاً كريماً ، ولكن قول ملائكة النار : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] ، هو تهكم شديد ، وهو في ذلك كقول الحق تبارك وتعالى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ } [ الكهف : 29 ] . وهم ساعةَ يسمعون كلمة { يُغَاثُواْ } يفرحون لأن عطشهم شديد وهم قد استغاثوا فقيل لهم إنهم سيغاثون ، وهذا خبر سار بالنسبة لهم ، ولكن الإغاثة تأتيهم بماء يشوي وجوههم ، فهل هذه إغاثة ؟ إنه تهكم عليهم وزيادة في عذابهم ، كذلك قول الحق سبحانه وتعالى هنا : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ التوبة : 34 ] . ويصف لنا الحق هذا العذاب الأليم الذي سيتعرضون له ، ويُبيِّن لنا خبر المغيَّب عنَّا في الآخرة بصورة مُحَسَّة لنا فيقول : { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ … } .