Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 37-37)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والنسيء هو التأخير ، فكأنهم إذا ما دخلوا في قتال وجاء شهر حرام قالوا : ننقله إلى شهر قادم ، واستمروا في قتالهم وهم بذلك قد أحلُّوا الشهر الذي كان محرماً وجعلوا الشهر الذي لم تكن له حرمة شهراً حراماً ، وهنا يوضح الحق سبحانه أن هذا العمل زيادة في الكفر لأنه أدخل في المحلل ما ليس منه ، وأدخل في المحرم ما ليس منه لأن الكفر هو عدم الإيمان فإذا بدَّلْتَ وغيَّرْتَ في منهج الإيمان ، فهذا زيادة في الكفر . ثم يقول سبحانه : { يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } و { يُضَلُّ } هنا مبنية للمجهول ومعنى ذلك أن هناك من يقوم بإضلال الذين كفروا ، وهذه مهمة الشيطان لأن هناك فرقاً بين الضلال والإضلال ، فالضلال في الذات والنفس ، أما الإضلال فيتعدى إلى الغير ، فهناك ضال لا يكتفي بضلال نفسه ، بل يأتي لغيره ويضله ويغويه على المعصية بأن يزينها له . ولذلك هناك جزاء على الضلال ، وجزاء أشد على الإضلال ، فإذا كان هناك إنسان ضال فهو في نفسه غير مؤمن ، أي أن ضلاله لم يتجاوز ذاته ، ولم ينتقل إلى غيره . ولكن إذا حاول أن يغري غيره بالضلال والمعصية يكون بذلك قد ضلَّ وأضلَّ غيره . ويتخذ بعض المستشرقين هذه القضية مطعناً في القرآن - بلا وعي منهم أو فهم فيقولون : إن القرآن يقول : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ … } [ فاطر : 18 ] . ثم يأتي في آية أخرى فيقول : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ … } [ العنكبوت : 13 ] . فكيف يقول القرآن : إن أحداً لا يتحمل إلا وزره ، ثم يقول : إن هناك من سيتحمل وِزْره ووِزْر غيره ؟ ونقول لهم : أنتم لم تفهموا المعنى ، فالأول : هو الضَّالُّ الذي يرتكب المعاصي ولكنه لم يُغْرِ بها غيره ، أي : أنه عصى الله ولم يتجاوز المعصية . أما الثاني : فقد ضلَ وأضل غيره … أي : أنه لم يكتف بارتكاب المعصية بل أخذ يغري الناس على معصية الله . وكلما أغرى واحداً على المعصية كان عليه نفس وِزْر مرتكب المعصية . وهنا يقول الحق : { يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } وطبعاً التحليل والتحريم هنا حدث منهم لظنهم أن هذه مصلحتهم ، أي أنهم أخضعوا الأشهر الحرم لشهواتهم الخاصة ، وخرجوا عن مرادات الله في كونه ، يوم خلق السماوات والأرض . ولكن لماذا يُحلُّونه عاماً ويُحرِّمونه عاماً ؟ تأتي الإجابة من الحق : { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } أي : ليوافقوا عدة ما أحله الله حتى يبرروا ويقولوا لأنفسهم : نحن لسنا عاصين ، فإن كان الله يريد أربعة أشهر حرم ، فنحن قد التزمنا بذلك ! ولكن تشريع الله ليس في العدد فقط ولكن في المعدود أيضاً ، وقد حدد لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشهر الحرم . وكان عمرو بن لحي أو نعيم بن ثعلبة هما أول من قاما بعملية النسيء هذه ، فأحلَّ شهر المحرم ، وحرَّم غيره . وهؤلاء الذين قاموا بهذا العمل كانوا يعرفون أن هناك أربعة أشهر حرم بدليل أنهم أحلوا وحرموا . ولو لم يعرفوها ما أحلوا ولا حرموا ، ولكن هم أرادوا أن يُخضعُوا تشريع الله لأهوائهم . وهذا هو المغزى من تحليل شهر المحرم وتحريم شهر آخر ، وأرادوا بذلك إخضاع مرادات الله لشهوات نفوسهم لأن المحرم ثابت فيه التحريم ، وهو شهر حرام سواء قام الإنسان بتأجيله أم لم يؤجله ، فهو شهر حرام بمشيئة الله لا مشيئة الناس . ولذلك حكم الحق سبحانه على النسيء بأنه زيادة في الكفر لأنك حين تؤخر حرمة شهر المحرم إلى شهر غيره ، تكون قد قُمْتَ بعمليتين أحللت شهراً حراماً وهذا كفر ، وحرمت شهراً حلالاً وهذا كفر آخر … أي : زيادة في الكفر . ثم يقول الحق سبحانه : { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } وقد حكم الله عليهم بالكفر بأنهم أحلوا ما حرمه الله . ثم يقول الحق : { زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ } والتزيين : هو أمر طارئ أو زائد على حقيقة الذات مما يجعله مقبولاً عند الناس ، فالمرأة مثلاً لها جمال طبيعي ، ولكنها تتزيين بأن تبالغ في إظهار مفاتنها حتى تكون أجمل في عيون الرجال ، هذا هو التزيين . إذن : فالتزيين تغيير في المظهر وليس في الجوهر . وهناك تزيين في أشياء كثيرة ، تزيين في الفكر مثلاً ، بأن يكون هناك استعداد للقتال فيأتي القائد فيزين للمقاتلين دخول المعركة ، ويقول : أنتم ستنتصرون في ساعات ، ولن يصاب منكم أحد وسيفِرّ عدوكم هذا تزيين محمود . ولذلك أراد الحق أن يكشف لنا حقيقة التزيين الذي قاموا به حين حللوا حرمة الأشهر الحرُم ، وكشف لنا سبحانه أن هذا لون من التزيين غير المحمود فقال : { زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } وما دام قد زُيِّن لهم السوء فهذا العمل قد خرج عن منطقة الهداية ، وخرج عن نطاق التزيين المحمود إلى التزيين السيىء . وما داموا قد خرجوا عن هداية الله فلن يعينهم الله لأنه سبحانه لا يعين من كفر ، ولا يعين من ظلم ، ولا يعين من فسق . ولذلك قال سبحانه : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } أي : أنهم بكفرهم قد أخرجوا أنفسهم عن هداية الله ، فالحق سبحانه لم يمنع عنهم الهداية ، بل هم الذين منعوها عن أنفسهم بأن كفروا فأخرجوا أنفسهم عن مشيئة هداية الله لهم ، وهذا ينطبق فقط على هداية المعونة ، ونحن نعلم أن لله سبحانه هداية دلالة وهداية معونة هداية الدلالة هي للمؤمن وللكافر ، ويدل الله الجميع على المنهج ، ويريهم آياته ، وتبلغ الرسل منهج السماء الذي يوضح الطريق إلى رضاء الله والطريق إلى سخطه وعذابه . فمن آمن بالله دخل في مشيئة هداية المعونة ، فيعينه الله في الدنيا ويعطيه الجنة في الآخرة . أما من يرفض هداية الدلالة من الله ، فالله لا يعطيه هداية المعونة لأن الكفر قد سبق من العبد . وكذلك الظلم والفسق ، فيكون قد منع عن نفسه هداية المعونة بارتكابه لتلك الآثام . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ التوبة : 37 ] . { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ التوبة : 19 ] . { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [ التوبة : 24 ] . إذن : هم الذين قدَّموا الكفر والظلم والفسوق ، فمنعوا عن أنفسهم هداية المعونة التي قال الحق عنها : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] . وبعد أن طلب الحق سبحانه وتعالى من المؤمنين أن يواجهوا الباطل جميعاً ، كما يجتمع الباطل عليهم ويقاتلهم جميعاً . يقول سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ … } .