Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 38-38)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وساعةَ تسمع { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فهذا نداء خاص بمن آمن بالله لأن الله لا يكلف من لم يؤمن به شيئاً ، ولكنه كلف الذين آمنوا ، فلا يوجد حكم من أحكام منهج الله فيه تكليف لكافر أو غير مؤمن . ولكن أحكام المنهج موجهة كلها للمؤمنين . ولذلك ساعةَ تسمع : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } تعرف أن الله يخاطب أو يأمر من آمن به لأنك أنت الذي آمنت باختيارك ، ودخلتَ على الإيمان برغبتك ، فالحق سبحانه لم يأخذك إلى الإيمان قهراً ، ولكنك جئت للإيمان اختياراً ، ولذلك يقول سبحانه وتعالى لك : ما دُمْتُ قد آمنت بي إلهاً قادراً قيُّوماً ، له مطلق صفات الكمال ، فاسمع مني ما أريده لحركة حياتكَ . ولا يحسب أحد أنه قادر على أن يدخل في الإيمان ولا ينفذ المنهج ، ولا يحسب أحد أنه قادر أن يضر الله شيئاً ، وسبق أن ضربنا المثل بالمريض الذي يختار أبرع الأطباء ، ولم يجبره أحد على أن يذهب إليه ، وأجرى الطبيب الكشف على المريض ، وحدد الداء وكتب الدواء ، ولكن المريض بعد أن خرج من العيادة أمسك بتذكرة الدواء ومزقها ، أو أنه اشترى الدواء ولم يتناوله . أيكون بذلك قد عاقب الطبيب أم عاقب نفسه ؟ إن الطبيب لن يتأثر ولن يضره شيء مما فعله هذا المريض ، ولكنه هو الذي سيزداد عليه المرض ويقود نفسه إلى الهلاك ، وكذلك الإنسان إن لم يتبع منهج الله ، فإنه يضيع نفسه ويُغرقها في الشقاء لأن الحق سبحانه قد وضع هذا المنهج وفيه علاج لكل أمراض الإنسان ، فإن عمل به الإنسان نجا من بلاء الدنيا ، وإذا عمل به مجتمع لن يظهر فيه الشقاء . بل يمتلىء بالرخاء والأمن والطمأنينة ، ومن لم يعمل به فلن يضر الله شيئاً ، بل يحصل على الشقاء ويهلك نفسه . وحين يخاطب الحق سبحانه الذين آمنوا يوضح : خذوا مني هذا التكليف ففيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة ، ولهذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى لا يذكر أمراً من أوامره بأي تكليف أو نهياً من نواهيه ، إلا مسبوقاً بقوله سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } مثل قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ … } [ البقرة : 183 ] . وقوله سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ … } [ البقرة : 178 ] . وهذه التكليفات لمَ تأتِ مبنية للمعلوم ، فمن الذين يكتب ؟ إنه الحق سبحانه ، كما أنها صيغة مبنية دائماً لما لم يُسَمَّ فاعله ، أي : أن الكتابة أتت من كثير . ونقول : صحيح أن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب ، فلماذا لم يقل : يأيها الذين آمنوا كتبتُ عليكم . ولماذا يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } ؟ . ونقول : لأن الله وإن كان قد كتب ، إلا أنه لم يكتبها على كل خلقه ، بل كتبها على الذين آمنوا به ، وأنت بإيمانك أصبحت ملتزماً بعناصر التكليف ، فكأن الحق سبحانه لم يكتب ثم يلزمك ، ولكن التزامك تم في نفس اللحظة التي دخلت فيها باختيارك في الإيمان . وبذلك تكون كل هذه الأحكام قد كُتِبتْ علينا باختيار كل منا ، فمن لم يَخْتَرْ الإيمان ليس مكتوباً عليه أن ينفذ أحكام الإيمان لأنها لا تُنفذ إلا بالعقد الإيماني بيننا وبين الحق سبحانه وقد احترم سبحانه دخولنا في هذا العقد ، فلم ينسبه لذاته العلية فقط ، بل شمل أيضاً كل مَنْ دخل في الإيمان . ولذلك فإن سأل أحد عن حكمة التكليف من الله ، نقول له : إن الحكمة تنبع من أنه سبحانه هو الذي كَلَّف . ثم إن معرفة الحكمة لا تكون إلا من المساوي للمساوي ، فإن ذهب المريض إلى الطبيب وكتب له الدواء ، وظل المريض يناقش الطبيب في الدواء وفوائده فالطبيب يرفض المناقشة ، ويقول للمريض : ادخل كلية الطب واقْضِ فيها سبع سنوات ، واحصل على الدرجات العلمية ، ثم تَعَالَ وناقشني . إذن : فأنت تربط علة التكليف بأمر المكلف ، مع أن المكلف من البشر قد يخطئ . أما إذا جئنا بمجموعة من الأطباء ليكشفوا على مريض احتار الطب فيه ، ثم جلسوا بعد الكشف يتناقشون ، فكل منهم يقبل مناقشة الآخر لأنه مُسَاوٍ له في الفكر والثقافة والعلم إلى آخره ، لكن إنْ أردتَ أن تسأل عن الحكمة في تكليف من الله فلن تجد مساوياً لله سبحانه وتعالى ، وبذلك تكون المناقشة مرفوضة . إذن : فالمكلف لا بد أن تكون له منزلة سابقة على التكليف ، ومنزلة الحق أنك آمنت به ، ولهذا أرى أن البحث عن أسباب التكليف هو أمر مرفوض إيمانياً ، فإذا قيل : إن الله فرض الصوم حتى يشعر الغني بألم الجوع ليعطف على الفقير ، نقول : لا ، وإلا سقط الصوم عن الفقير لأنه يعرف ألم الجوع جيداً . وإذا قيل لنا : إن الصوم يعالج أمراض كذا وكذا وكذا . نقول : إن هذا غير صحيح ، وإلا لما أسقط الله فريضة الصوم عن المريض في قوله تعالى : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ … } [ البقرة : 185 ] . فإذا كان الله قد أباح للمريض أن يفطر ، فكيف يأتي إنسان ويقول : إن علة فرض الصوم هي شفاء الأمراض ؟ كما أن هناك بعض الأمراض لا يُسْمَح معها بالصوم . إذن : فنحن نصوم لأن الله فرض علينا الصوم ، وما دام الله قد قال فسبب التنفيذ هو أن القول صادر من الله سبحانه ، ولا شيء غير ذلك ، فإذا ظهرت حكمة التكليف فإنها تزيدنا إيماناً ، مثلما ثبت ضرر لحم الخنزير بالنسبة للإنسان لأن لحم الخنزير مليء بالميكروبات والجراثيم التي يأكلها مع القمامة ، ونحن لا نمتنع عن أكل لحم الخنزير لهذا السبب ، بل نمتنع عن أكله لأن الله قد أمرنا بذلك ، ولو أن هذه الحكمة لم يكشف عنها الطب ما قَلَّلَ هذا من اقتناعنا بعدم أكل لحم الخنزير لأننا نأخذ التكليف من الله ، وليس من أي مصدر آخر . ونعود إلى خواطرنا حول الآية الكريمة : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ } ، ونجد كلمة : { مَا لَكُمْ } تأتي حين نتعجب من حال لا يتفق مع حال ، وكأن حرب المؤمنين للكفار أمر متوقع وتقتضيه الحال لأن المؤمنين حين يقاتلون الكفار إنما يدخلون شيئاً من اليقين على أهل الاستقامة ، فأهل الاستقامة إن لم يجدوا من يضرب على أيدي الكافرين فقد ينحرف على أيدي الكفار ، فإنه بفعله هذا يربب في المؤمن إيمانه لأنه يرى عدوه وهو يتلقى النكال . كأن تقول للتلميذ : ما لك تهمل في مذاكرتك وقد قَرُبَ الامتحان ؟ أي : أن المفروض أنه إذا قرب الامتحان لا بد أن يجتهد الطالب في المذاكرة . فإن أهمل التلميذ عمله فنحن نتعجب من سلوكه لأنه لا يتفق مع ما كان يجب أن يحدث . وبذلك نستنكر أن يحدث مثل هذا الإهمال ، مثلما نستنكر ونتعجب من مريض يترك الدواء بينما هو يتألم . ويتعجب الحق سبحانه هنا من تثاقل المؤمنين حين يُدْعَوْنَ إلى القتال لأن قوة الإيمان تدعو دائماً إلى أن يكون هناك استعداد مستمر للقتال ، وهذا الاستعداد يخيف الكفار ويمنع عدوانهم واستهتارهم بالمؤمنين أولاً ، كما أنه ثانياً يجعل المؤمنين قادرين على الرد والردع في أي وقت . ويعطي ثالثاً شيئاً من اليقين للمجتمع المؤمن عندما يرى أن هناك من يضرب على يد الكافرين إذا استهانوا بمجتمع الإيمان وحاولوا أن يستذلوا المؤمنين . إذن : فَلِكَيْ يبقى المجتمع المؤمن قوياً وآمناً لا بد أن يوجد استعداد دائم للقتال في سبيل الله ورغبة في الشهادة ، وهنا يقول الحق : { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } فكأن الاستعداد المستمر للقتال في سبيل الله أمر لا بد أن يوجد بالفطرة وبالعقل ، فإذا ضَعُفَ هذا الاستعداد أو قَلَّ صار هذا الأمر موطناً للتعجب لأن المؤمنين يعرفون أن مجتمع الكفر يتربص بهم دائماً ، وعليهم أن يكونوا على استعداد دائم مستمر للمواجهة ، ويستنكر الحق أن يتثاقل المؤمنون إذا دُعُوا للقتال في سبيل الله أو أن يتكاسلوا . وقوله سبحانه : { ٱنفِرُواْ } من " النفرة " وهي الخروج إلى أمر يهيج استقرار الإنسان ، فحين يكون الإنسان جالساً في مكانه ، قد يأتي أمر يهيجه فيقوم ليفعل ما يتناسب مع الأمر المهيج ، فأنت مثلاً إذا رأيت إنساناً سيسقط في بئر ، فهذا الأمر يهيجك ، فتنطلق من مكانك لتجذبه بعيداً ، ومنه النُّفْره التي تحدث بين الأحباب الذين يعيشون في وُدٍّ دائم ، وقد يحدث بينهم أمر يُحوِّل هذا الود إلى جَفْوة . إذن : فكلمة { ٱنفِرُواْ } تدل على الخروج إلى أمر مهيج ، وهو المنطق الطبيعي الذي يجب أن يكون لأن عمل الكفار يهيج المؤمنين على مواجهتهم . وقول الحق سبحانه : { ٱنفِرُواْ } يدل على الاستفزاز المستمر من الكفار للمؤمنين . ويقول الحق تعالى : { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ } . والثقل معناه : أن كتلة الشيء تكون زائدة على قدرة من يحمله ، فإن قلت : إن هذا الشيء ثقيل فهذا يعني أن وزنه مثلاً أكبر من قوة عضلاتك فلا تستطيع أن تحمله . أما التثاقل فهو عدم موافقة الشيء لطبيعة التكوين . كأن تقول : فلان ثقيل أي أن وزنه ضخم ولا يستطيع أن يقوم من مكانه إلا بصعوبة ، ولا أن يتحرك إلا بمشقة . ولكن التثاقل معناه تكلف المشقة ، أي : لك قدرة على الفعل ، ولكنك تتصنع أنك غير قادر ، كأن يكون هناك - على سبيل المثال - شيء وزنه رطل ، ثم تدَّعي أنه ثقيل عليك ولا تستطيع أن تحمله . إذن : فقوله تعالى : { ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ } أي : تكلفتم الثقل بدون حقيقة ، فأنتم عندكم قدرة على القتال ولكنكم تظاهرتم بأن لا قدرة لكم . وهكذا نعرف أن الموقف يقتضي النفرة ليواجهوا الكفر لأن المنهج الذي ارتضوه لأنفسهم والتزموا به يحقق السلامة والأمن والاطمئنان لهم ولغيرهم ، وكأن التثاقل إلى الأرض له مقابل ، فالنفرة تكون في سبيل الله ، والمقابل في سبيل الشيطان أو في سبيل شهوات النفس . لقد تحدث العلماء في المسائل التي تجعل الإنسان يُقبِلُ على المعصية ، وهي النفس التي تُحدِّث الإنسان بشيء ، فالإنسان يقبل على المعصية بهذين العاملين فقط . فما الفرق بين الاثنين ؟ وكيف يتعرف الإنسان على ذلك ؟ قال العلماء : إذا كانت النفس تُلحُّ عليك أن تفعل معصية بعينها بحيث إذا صرفتها عنها عادت تُلِحُّ عليك لاقتراف نفس المعصية لتحقق متعة عاجلة ، فهذا إلحاح من النفس الأمَّارة بالسوء . ولكن الشيطان لا يريد منك ذلك ، إنه يريدك مخالفاً لمنهج الله على أي لون ، فإذا استعصى عليه أن يجذبك إلى المال الحرام ، فهو يزين لك شهوة النساء ، فإذا فشل جاء من ناحية الخمر . إذن : فهو يريدك عاصياً بأي معصية ، ولكن النفس تريدك عاصياً بنفس المعصية التي تشتهيها . وهذا هو الفرق . وهكذا نعرف أن هناك واقعين ، واقعاً يدعو المؤمنين إلى قتال الكفار الذين يفسدون منهج الله في الأرض ، وواقعاً يدعوهم إلى أن يتثاقلوا عن هذا القتال ، وذلك إما بسبب حب الدنيا لتحقيق شهوة النفس أو إغراء الشيطان ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى : { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ } والرضا هو حب القلب ، فيقال : فلان رَاضٍ لأنه مسرور بالحال الذي هو فيه . ومعنى تثاقل المؤمنين عن القتال في سبيل الله ، أن هناك شيئاً قد غلب شيئاً آخر في داخل نفوسهم ، فالرضا بالحياة الدنيا قد تغلَّبَ على حب الآخرة . ولكن المنطق الإيماني يقول : إنه إذا كان هناك أمر آخر غير الدنيا ، أو حياة أخرى غير حياتنا الدنيوية ، فلا بد أن نقارن بين ما تعطيه الدنيا وبين ما تعطيه الآخرة ، فإذا رضينا بما تقدمه لنا هذه الحياة المادية ، يكون المؤمن بلا طموح وبلا ذكاء لأنه رضي بمتاع قليل زائل وترك متاعاً أبدياً ممتداً بقدرة الله . وأنت لو نظرت إلى الدنيا نظرة فاحصة ، تجد أنها متغيرة متبدلة ، فالصحيح يصبح مريضاً ، والغني يصبح فقيراً ، والقوي يصبح ضعيفاً . إذن : فمتاع الدنيا متغير ولا عصمة لك فيه ، وأنت لا تستطيع أن تعصم نفسك من المرض أو من الضعف أو من الفقر لأن هذه كلها أغيار تحكمك ولا تحكمها أنت تقهرك ولا تستطيع أنت أن تقهرها . فإن رضيت بمتاع الدنيا اليوم فأنت لا تضمن استمراره إلى غد . ولهذا ينبغي ألا تؤخر تنفيذ ما يكلفك به الله لأنك الآن تستطيع أن تؤديه ، لكن أنت لا تضمن إن كنت قادراً غداً أم لا . كذلك لا تأخذ التكليف على أنه قد يسلبك حريتك أو مالك ، بل هو يسلبك ويعطيك في نفس الوقت . فإذا أمر الله سبحانه بأن تُخرِجَ الزكاة ، قد تعتقد أن هذا يُنقصُ مالك ، أو تقول : هذه غرامة . نقول : إن هذا في ظاهر الأمر قد يكون صحيحاً ، ولكنه سبحانه يأخذ منك هذا المال فيزيده لك ويُنميه فإذا بالجنيه الواحد قد تضاعف إلى سبعمائة مِثْل ، ثم تضاعف إلى ما شاء الله ، كما أن هذا الحكم الذي يأخذ منك الآن وأنت غني ، هو بذاته الذي سوف يعطيك إن افتقرتَ ولجأت إلى الناس . فإذا كان الحكم الذي سيأخذ هو الذي سيعطي تكون هذه عدالة وتأميناً ضد الأغيار ، وعليك أن تقارن الصفقة النفعية بمقابلها ، وساعةَ تعطي أنت الذي لا يملك ، لا بد أن تتذكر أنه قد يأتي عليك يَوْمٌ لا تملك فيه . وكلمة دنيا بالنسبة لحياتنا أعطتنا الوصف الطبيعي الذي ينطبق عليها لأن " الدنيا " مقابلها " العليا " . والحياة العليا تكون في الآخرة . فإذا كانت هذه هي الحياة الدنيا . فلماذا تربط نفسك بالأدنى إلا أن يكون ذلك خَوَراً في العزيمة ؟ والمثال للقوة الإيمانية هو : سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وكان قبل أن يصبح خليفة المؤمنين يرتدي أفخر الثياب ويتعطر بأجمل العطور ، وكان الناس يدفعون أموالاً لمن يغسل ثياب عمر بن عبد العزيز ليدخلوا ثيابهم مع ثيابه حتى تمتلئ عطراً . وذلك من غزارة وجود العطر الذي كان يضعه عمر بن عبد العزيز على ثيابه فتخرج كل الثياب مليئة بالعطر . وعندما أصبح عمر بن عبد العزيز خليفة ، كانوا يأتونه بالثوب الخشن الذي كان يرفض ارتداءه قبل الخلافة ، فيرفضه ويقول : هاتوا أخشن منه ، وامتنع عن العطر ، أي : أن معاييره قد تغيرت وليس في هذا أدنى تناقض ، بل هو علو في الحياة ، ولذلك قال : اشتاقت نفسي إلى الإمارة فقلت لها : اقعدي يا نفْسُ ، فلما نلْتُهَا اشتاقت نفسي إلى الخلافة فنهيتها عن ذلك ، فلما نلْتُها أي نال الخلاَفة ، اشتاقت نفسي إلى الجنة فسلكتُ كل طريق يؤدي إليها . وهكذا نعرف أن سلوكه رضي الله عنه لم يكن في تناقض بل تعلية للصفقة الإيمانية . كان دائماً في علو يريد أن يواصله ، فقد اشتاق أولاً إلى الإمارة ، فلما تحققت أراد أن يعلو فاشتاق للخلافة ، فلما تحققتْ أراد أن يعلوَ فاشتاق إلى الجنة ، إذن : فهو دائماً في عُلُوٍّ . وأقول : ليس في سلوكه أدنى تناقض لأن علماء النفس يفسرون التناقض في السلوك البشري على أنه اختلاف في المقارنة ، فالإنسان يقارن بشيء ثم يقارن بشيء آخر وهكذا لأن كل شيء في الدنيا نسبي . ومعنى النسبية أن ينسب الشيء لما حوله ، فإذا قلت : إنني أسكن فوق فلان ، فأنت في نفس الوقت تسكن تحت فلان الذي يعيش في الطابق الذي يعلوك . إذن : فأنت فوق فلان وتحت فلان في نفس الوقت ، فلا تأخذ نقطة وتغفل عن الأخرى ، وهذا اسمه " معنى إضافي " أي : أن المعاني لا تتحقق بذاتها ، ولكن بالنسبة إلى شيء تقاس به ، وكذلك المقاييس بين الأشياء يجب أن نقيسها بالأمور التي تُصعد لك القيمة . فأنت إذا نظرت إلى الدنيا تجد أن الحق سبحانه أسماها : دُنْيا ولم يجد اسماً أقلَّ من هذا ليسميها به ، لماذا ؟ لأنك تتنعم في الدنيا على قدر وجودك فيها ، أي على قدر عمرك ، وهو مهما زاد وطال فهو سنوات معدودة ، وقد يكون متاعك منها حتى سنِّ الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين . أو أكثر من ذلك أو أقل . ومتاعك فيها بما تحققه قدراتك ، فالذي عنده ألف جنيه يتمتع على قدرها ، والذي عنده عدة ألوف متاعه على قدرها ، وصاحب الملايين متاعه أكبر . إذن : فكل واحد يتمتع بقدر ما عنده من مال . وحتى إن وصل الإنسان إلى أعلى متاع في الدنيا متاع صاحب الملايين ، فهذه الملايين إما أن تزول عن صاحبها ، وإما أن يترك هو هذه الملايين بالموت . وهذه تتحقق وهذه تتحقق . إذن : فنعمة الدنيا إما أن تنخلع منك أو تنخلع أنت منها . فإذا جئتَ إلى المقابل وهو الآخرة تجد أن النعيم فيها دائم لا يزول عنك ، وأنت خالد لا تزول عن النعمة بالفناء أو الموت ، وأنت لا تتمتع في الآخرة بقدراتك أنت ، بل بقدرة الله سبحانه . فكأن المتاع أكبر كثيراً من قدرتك ، وأعلى كثيراً من كل ما تستطيع أن تحققه . فمثلاً : إن كان معك ريال وجاءك رجل فقير فأعطيته له ليأكل به ، تكون في ظاهر الأمر قد آثرتَ الفقير على نفسك لأنك أعطيته كل ما تملك ليأكل به وحرمت نفسك منه ، ولكنك في الحقيقة فضَّلْتَ نفسك على الفقير لأنك أعطيته هذا الريال ليكون عند الله عشرة إلى سبعمائة ضعف ، فمَنْ منكما الذي استفاد ؟ ومَنْ منكما الذي انتفع ؟ إنه أنت . ولذلك نجد أن الدين الصحيح ضد الأنانية الحمقاء ، ويُعْلي فيك الأنانية العاقلة بأن يجعلك تحب نفسك حباً أعلى . فأنت حين تتصدق تحب نفسك ، ولذلك تريد أن تعطيها الأعلى والأنفع . فظاهر الأمر أنك أعطيت ، وفي حقيقته أنك قد أخذت . وأنت حين تعطي إنساناً مساوياً لك كأن تقدم له هدية في مناسبة معينة ، تنتظر أن يرد إليك الهدية بمثلها في مناسبة أخرى . إذن : فالعطاء مُتَساوٍ ، وقد يرد هذا الإنسان الهدية ، وقد لا يردها . وقد ينوي ردها ولكن تصادفه ظروف لا تُمكِّنه من أن يردها لك . لكن الحق سبحانه يقول : { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً … } [ البقرة : 245 ] . إذن : فحينما تعطي ابتغاء وجه الله فأنت لا تحصل على عطاء مُسَاوٍ لما أعطيت . لكنك تحصل على عطاء مضاعف أضعافاً مضاعفة . والذي يعطيك الثواب هو الله سبحانه وتعالى دائم الوجود ، ولن ينفد عطاؤه لك لأنه دائم القدرة ، ولن يأتي عليه وقت يكون غير قادر على أن يرد لك ما أعطيت لأن عنده كنوز السماوات والأرض وهو سبحانه قادر على أن يضاعف لك مهما كانت قيمة عطائك . فإن فضَّلْتَ الحياة الدنيا على الآخرة ، فأنت تقيس بمقاييس الكمال عندك وهي مقاييس ساقطة وهابطة ، ولو كنت تملك المقياس الصحيح لعرفتَ أن الذي يحقق لك النفع الأكبر هو أن تعطي وتعمل طلباً للآخرة وليس للدنيا . ولذلك فالحق سبحانه يقول هنا : { أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ } أي : أنكم أردتم الحياة الدنيا بدل الآخرة . وهذه مقارنة غير عاقلة وغير حكيمة . وكلمة { مِنَ } تدل على البدل في قوله : { بِٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا } ومادة البدل والاستبدال البيع والشراء ، ونعرف أن الباء تدخل على المتروك ، فأنت تقول : اشتريت الشيء بكذا درهم ، أي : تركت الدراهم مقابل شرائك الشيء ، كأن هؤلاء الراضين بالحياة الدنيا قد أخذوا الدنيا بدلاً من الآخرة ، وهذه صفقة تخلو من العقل والحكمة . وبعد أن استنكر الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يرضوا بالحياة الدنيا ويتركوا الآخرة يقول سبحانه : { فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } والمتاع : هو ما يستمتع به . والإنسان لا يستطيع أن يوقن أنه سيستمتع بالحياة ، وهذا أمر مطعون فيه ، فليس كل كائن حي مستمتعاً بالحياة ، هناك أشقياء وهناك تعساء ، وهناك مَنْ حياتهم كلها تعب ، وحتى أولئك المستمتعون بالحياة في الحاضر ، مَنْ يُدريهم ماذا يحمل المستقبل لهم ؟ ألا يمكن أن يكون استمتاعهم هذا وقتياً ؟ ألا يمكن أن يأتيهم ظرف من الظروف أو قدر من الأقدار يملأ حياتهم بالشقاء ؟ إننا نجد العقلاء - حين يرون في نعمة الله عليهم ما يكدر حياتهم - يشكرون الله ، بينما نجد الإنسان السطحي التفكير والفهم يستاء وينفعل ويزيد الموقف معاناة . العاقل - إذن - يعرف أن الإنسان يعيش في دنيا أغيار ، ومعنى أننا نعيش في دنيا أغيار أنه تأتي أحداث تنقلنا من حال إلى حال ، أي من الغنى إلى الفقر . أو من الصحة إلى المرض إلى غير ذلك من أحوال الدنيا المتقلبة المتغيرة ، ففي الدنيا لا يدوم حال ، وما دامت الدنيا أغياراً فأحوال الناس تتغير فيها دائماً . وهَبْ أن إنساناً وصل إلى القمة التي لا يوجد أعلى منها . نقول له : لا داعي أن يأخذك الفرح والكبر والخيلاء ، ولا تنس أنك تعيش في دنيا أغيار ، وأن دوام الحال من المحال ، فلو دامت لغيرك ما وصلتَ أنت إلى القمة لأن مَنْ كان عليها سقط فصعدتَ أنت . إذن : فمعنى هذا أنك وإن وصلتَ للقمة فلن تثبت عليها وتبقى هكذا بلا تغيير . وما دمتَ قد وصلت إلى أعلى ما يمكن ، فالتغيير الوحيد الذي يمكن أن يحدث لك هو أن تنزل لأنك وصلت إلى قمة الصعود ، ولم يَعُدْ بعدها شيء تصعد إليه . فالتغيير المتوقع لا بد أن يكون إلى أسفل ، ويقال : " ترقَّبْ زَوالاً إذا قِيل تَمّ " ، ولهذا نجد أهل الحكمة والبصيرة يقولون : إن المصائب في الأموال والأنفس من تمائم النعمة ، وكأن الحق لا يريد أن يتمم النعم لأنها إن تمت تزول لأن المصيبة ما دامت قد حدثت فلا بد أن تزول . وسبحانه حين يقول : { فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } يريد أن يبين لنا أن متاع الآخرة أكبر ، فأنت حين تقول : شيء في شيء . فأيهما يكون أكبر ؟ إنه الذي يدخل فيه الشيء الآخر ، فإذا قلنا : فلان في البيت ، فمعنى ذلك أن البيت أكبر من فلان هذا ، وإلا لما احتواه داخله . وإن قلنا : محمد في جدة أو في المملكة العربية السعودية أو في مصر يكون هناك ظرف ومظروف ، والمظروف عادة أوسع من الظرف ، وسعته كبيرة لدرجة أنه تحيط بالظرف من كل جوانبه . وقول الحق سبحانه : { فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } معناه : أن متاع الدنيا يتوه في متاع الآخرة لأن متاع الآخرة أوسع ويحتوي متاع الدنيا ويزيد ، وما دام الكلام بقدرة الله سبحانه وتعالى ، فمعنى ذلك أن سعة متاع الآخرة بالنسبة لمتاع الدنيا لا نهائية . فإذا زاد الحق سبحانه وقال : { فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } فهو لإعطاء صورة لسعة متاع الآخرة . لكن هذا الاستثناء في قوله تعالى { إِلاَّ قَلِيلٌ } إنما هو لمخاطبة العقول بالنسبة لقمة المتمتعين في الدنيا . ومثال هذا : أنك تجد إنساناً قد أعطاه الله قمة متاع الدنيا ، وتجده يعتقد أن المتاع لا يمكن أن يزيد على ما وصل إليه ، فيوضح الحق سبحانه وتعالى له : لو أنك متمتع بكل ما تستطيع أن تعطيه لك الدنيا فهو بالنسبة لمتاع الآخرة قليل . وإذا كان غير المتمتع بشيء من متاع الدنيا ينظر إلى مَنْ أعطاه الله سبحانه وتعالى قمة متاع الدنيا ويتساءل : هل هناك متاع أكثر من ذلك ؟ إن هذا الإنسان متمتع بكذا وكذا وكأنه يعيش في الجنة ، ولا أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك متاع أكثر من هذا . نقول له : لا ، إن ما تحسبه نهاية لما يمكن أن يتمتع به الإنسان هو بالنسبة لمتاع الآخرة قليل . إذن : فقوله سبحانه { إِلاَّ قَلِيلٌ } ليس مقصوداً به المتعة العادية للدنيا التي يتمتع بها الناس ، ولكن المقصود به متاع القمة الذي لا يصل إليه ولا يحدث إلا لأفراد قليلين في العالم . فقد يعيش إنسان في قصر ضخم ، وحوله المئات من الناس يخدمونه ، وعنده من الأجهزة الإلكترونية وغيرها ما يجعله بمجرد أن يريد شيئاً يضغط على زر صغير فيجد ما يريده أمامه ، وكل شيء حوله يحقق له رغباته ، بل إنه يعيش في درجة الحرارة التي يريدها داخل قصره ، وعنده أفخر أنواع الطعام والشراب ، وإذا أراد أن ينتقل من مكان إلى آخر ضغط على زر فيتحرك به الكرسي إلى المكان الذي يريده وكل مَنْ حوله يطيعونه طاعة عمياء ، فكل رغباته أوامر ، وحياته تشبه الحلم الجميل . إذا عاش إنسان في هذا الجو وانبهر بهذه النعم كلها يستوقفه رب العزة سبحانه ويوضح له : لا تنبهر ، فهذا المتاع الذي تعيش فيه بالنسبة للآخرة قليل . فإذا قرأ الناس أو سمعوا أو شاهدوا ما يعيش فيه هذا الإنسان من متعة وانبهروا بها ، يوضح لهم الله : لا تنبهروا ولا يأخذكم العجب ، فكل هذا الذي ترونه أمامكم بالنسبة لمتاع الآخرة قليل . إذن : فقوله سبحانه { إِلاَّ قَلِيلٌ } يدل على أن فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تحب القليل من النعم بل تريد الكثير ، ولهذا نجد الحق سبحانه وتعالى يُنفِّر عباده من أن تفتنهم نعم الدنيا مهما بلغت ، فيوضح لهم : لا تظنوا أن هذه النعم كثيرة ، بل إنها نعم قليلة بالنسبة لما ينتظركم في الآخرة ، فإذا كان الإنسان بفطرته يحب كثرة النعم ، ففي هذه الحالة لن تفتنه نعم الدنيا ، بل سوف يطلب نعم الآخرة . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لو أن ابن آدم أعطي وادياً ملآن من ذهب أحبَّ إليه ثانياً ، ولو أعطي ثانياً أحب إليه ثالثاً " أي : أن الإنسان الذي امتلك واديين يريد أن يحتفظ بالواديين كما هما ويطمع في امتلاك الوادي الثالث ، رغم أنه قد لا يعيش لينفق مقدار وادٍ واحد . فالإنسان بطبعه لا يحب القليل من النعم بل يطلب الكثير ، لماذا ؟ لأن كثيراً من الناس ينسون الآخرة ، ويعتقدون أن هذه الحياة الدنيا هي كل شيء ، ولهذا تجد الإنسان منهم يريد أن يحتاط لنفسه ، فإذا أخذ ما يكفيه يريد أن يحتاط لأولاده ، فإذا كان عنده ما يكفيه هو وأولاده يريد أن يحتاط لأحفاده . ولكن المؤمن الحق هو من يعرف أن الحياة الدنيا طريق العبور إلى الآخرة ، وأنها رحلة قصيرة تنتهي ، فلا يهتم بهذا اللون من الاحتياط ، ولكن الذي يحرص على عملية الاحتياط هذه هو من يظن أن الحياة الدنيا هي الغاية من الخلق ، ولا يتنبه إلى أنها وسيلة للآخرة . إننا نجد أولئك الذين يسرفون على أنفسهم ويتبعون شهواتهم وهم يحاولون أن يأخذوا من الدنيا كل شيء يمكن أن تعطيه لهم حلالاً أو حراماً ، وهذا واضح في سلوكهم الدنيوي . أما المؤمن فهو كالطالب الذي يَجِدُّ في دروسه ويجتهد ويستيقظ مبكراً ويذهب إلى المدرسة ، ويظل ساهراً ليذاكر ويحرم نفسه من مُتَعٍ كثيرة لأنه بفطنته وذكائه يعرف أن هذا حرمان مؤقت . وهو إنما يفعل ذلك لفترة قصيرة ليستريح بقية العمر ، ويحصل على المركز المرموق والدخل المرتفع إلى آخر ما يمكن أن يعطيه له المستقبل . أما المسرف على نفسه فهو كالطالب الذي لا يذهب إلى المدرسة ويقضي وقته في اللعب والاستمتاع وهو بمثل هذا السلوك كان قصير النظر ، وأعطى لنفسه شهوة عاجلة ليظل في معاناة بقية حياته . إذن : فكل من الطالبين أعطى نفسه ما تريد الأول : أعطى نفسه مستقبلاً مريحاً ممتدّاً ، وصار قمة من قمم المجتمع ، والثاني : أعطى نفسه متعة عاجلة زائلة ، ثم صار بعد سنوات قليلة صعلوكاً في المجتمع لا يساوي شيئاً . إذن : فإياك أن تنظر تحت أقدامك فقط لأن العالم لا ينتهي عند موقع وقوف قدميك هاتين ، ولكنه ممتد إلى آفاق بعيدة ، فإذا نظرتَ إلى هذه الآفاق ، فلا يليق بك أن تختار متعة وقتية قليلة . وقول الحق سبحانه : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] . نزل في غزوة تبوك ، وهي أول غزوة للمسلمين مع غير العرب ، وسبقتْها كل المعارك بين المسلمين وبين الكفار والمشركين ، ودارت على أرض الجزيرة العربية معارك مع المشركين في بدر أو في مكة ، أو مع اليهود في مجتمع المدينة ، فقد كانت هذه معارك في محيط الجزيرة العربية ، ولكن غزوة تبوك كانت مع الروم على الحدود الشمالية للجزيرة العربية . وحينما بدأ تجهيز الجيش ليذهب إلى تبوك لمحاربة الروم تثاقل المسلمون . وهنا يبرز استفهام : كيف يحارب المسلمون الروم ، وهم الذين حزنوا حين انتصر الفرس على الروم ؟ أيحزن المسلمون لهزيمة الروم ثم يذهبون ليحاربوهم ؟ نقول : نعم لأن المواقف الإيمانية ليست مواقف في قالب من حديد ، ولكنها تتكيف تبعاً لمواقف الكفار من الإيمان والإسلام . ولذلك فإن المؤمن الحق ينفعل للأحداث انفعالاً إيمانياً ، وعلى سبيل المثال ، نجد قلب سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه مملوءاً رقة ورحمة ، بينما قلب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مملوءاً قوة وحزماً ، انظر إلى موقف الاثنين عندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وارتد عدد من المسلمين عن الإسلام ، ومنعوا الزكاة وقرر أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يحارب هؤلاء المرتدين لأنهم أنكروا ركناً من أركان الإسلام ، هنا وقف عمر بن الخطاب ضد رأي أبي بكر وقال : يا أبا بكر أنحارب أناساً شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فقال أبو بكر : أجبار يا عمر في الجاهلية خوّار في الإسلام ؟ والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه . وهكذا انقلبت المواقف فالقوة والشدة ملأت قلب أبي بكر الذي كان مشهوراً بالرقة والرحمة والعطف ، بينما امتلأ قلب عمر باللين ، وهو المشهور بالشدة والقوة . ولو أن عمر هو الذي قال كلمة أبي بكر لقالوا : شدة ألفها الناس من عمر . ولكن الناس قالوا عن عمر الشديد : " قد لاَنَ قلبه بينما اشتد قلب أبي بكر " هذه هي المواقف الإيمانية التي تملأ نفس كل مؤمن . فالذي يصنع موقف المؤمن هو إيمانه لا طبعه ولذلك قال الحق في وصفه للمؤمنين : { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ … } [ المائدة : 54 ] . وكيف يكون الإنسان عزيزاً وذليلاً في الوقت نفسه ؟ وكيف يوصف الشخص نفسه بـأنه عزيز وذليل ؟ وكيف يمكن أن يجتمع النقيضان في شخص واحد ؟ لكنك تقرأ ما يطمئنك في قول الحق : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ … } [ الفتح : 29 ] . لقد وصف الحق سبحانه المؤمنين بأنهم أشداء ، ووصفهم أيضاً بأنهم رحماء ، ولكي تفهم هذا المعنى عليك أن تعلم أن المواقف الإيمانية هي التي تحدد مشاعر المؤمن ، ولا تحددها طباعه الخاصة والشخصية ، وهو يُكيِّف مواقفه حسب الموقف الإيماني وما يتطلبه ، فهو شديد ورحيم ، وذليل وعزيز . ونعود إلى غزوة تبوك التي نزلت فيها الآية التي نتناولها بخواطرنا وإلى السؤال : كيف يحارب المسلمون الروم ، وقد حزنوا يوم هزيمة الروم من الفرس ؟ ونقول : لقد حزن المسلمون لأن إلحاداً ينكر الألوهية قد انتصر على إيمان مرتبط برسالات السماء ولأن الروم - وهم نصارى - مرتبطون برسالات السماء . ولذلك فهم أقرب إلى قلوب المؤمنين من الكفار ، إذن : فالمسألة قد أُخِذَتْ من ناحية الوجود الإلهي . أما في غزوة تبوك فقد أُخِذَتْ من ناحية قبول المنهج الناسخ ومنع الدعوة له ، ولهذا تحول الموقف في غزوة تبوك إلى عداء إيماني ، وهذا هو السبب الذي أدَّى إلى الحرب . فإذا نظرنا إلى الغزوة نفسها نجد أن تبوك تبعد عن المدينة بمسافة كبيرة ، ووقت الغزوة كان صيفاً شديد الحرارة ، كما أنها كانت بعد غزوة حنين التي قاتل المؤمنون فيها قتالاً شديداً . وكان العام عام عسرة ، فلم يكن مع الجيش ما يكفيه من طعام أو خيل أو جمال . إذن : فقد اجتمعت المشقة في هذه الغزوة مع حرارة الجو وبُعْد المسافة ، وكانت قوى المسلمين مُنْهكَة من غزوة حنين . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخروج لغزوة ، لا يخبر عنها أصحابه إلا عندما يصلون إلى مكان القتال إلا هذه الغزوة فقد بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته قبل أن يغادروا المدينة لكي يستعدوا للمشقة التي تنتظرهم . وتباطأ المسلمون ، وبعضهم كان يستمتع بالجلوس في ظل البساتين الموجودة في المدينة ويأكل من ثمارها . واستطاب - هذا البعض - الثمار والظلال لذلك تباطأوا في الذهاب إلى القتال ، فنزلت هذه الآية ببيان اللوم ، ثم جاءت الآية التي بعدها لتوضح وتُبيِّن العقوبة ، فقال الحق : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً … } .