Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 54-54)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إذن : فالفسق نوعان : فسق عام ، وفسق خاص . وقد يقول البعض : إنك إن ارتكبت معصية فصلاتك وزكاتك وكل عباداتك لا تنفعك . ونقول : لا فما دامت القمة سليمة إيماناً بالله وإيماناً بالرسول عليه الصلاة والسلام وتصديقاً بالمنهج ، فلكل عمل عبادي ثوابه ، ولكل ذنب عقابه لأن الحق سبحانه مطلق العدالة والرحمة ، ولا يمكن أن يضع كل الشرور في ميزان الإنسان . فمن كان عنده خصلة من خير فسوف يأخذ جائزتها وثوابها ، ومن كان عنده خصلة من شر فسوف ينال عقابها . وقوله الحق هنا { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } ، هذا القول الكريم هو حيثية للحكم بعدم قبول نفقاتهم ، وفي هذا تحديد لعموم الفسق وهو الكفر ، لا في خصوص الفسق ، وحدد الحق ثلاثة أشياء منعت التقبل منهم : الكفر بالله ورسوله وهو كفر القمة ، ثم قيامهم إلى الصلاة وهم كسالى ، ثم الإنفاق بكراهية . ونفعهم المنع على أنه رَدُّ الفعل إلى ما ينقض العمل أو ينافيه كأن يريد إنسان القيام فتُقعده ، أي أنك رددت إرادة القيام إلى القعود ، وهو ما ينافيه ، أو أن يحاول إنسان ضرب آخر فتمنع يده ، فتكون بذلك قد منعت غيره من أن يعتدى عليه . إذن فالمنع مرة يأتي للفاعل ومرة للمفعول . فأنت حين تمنع زيداً من الضرب تكون قد منعت الفاعل ، وحين تمنع عنه الضرب تكون قد منعت المفعول ، وكل فلسفة الحياة قائمة على المنع ، الذي يوجزه الفعل ورد الفعل ، تجد ذلك في الإنسان وفي الزمان وفي المكان . وإذا بحثت هذه المسألة في الإنسان تجد أن حياته تقوم على التنفس والطعام والشراب ، والتنفس هو الأمر الذي لا يصبر الإنسان على التوقف عنه ، فإن لم تأخذ الشهيق انتهت حياتك ، وإن كتمت الزفير انتهت حياتك . وإذا منعت الهواء من الدخول إلى الرئتين يموت الإنسان ، وإذا منعت خروج الهواء من الرئتين يموت الإنسان أيضاً . وحركة العالم كله مبنية على الفعل وما يناقضه . فإذا حاول إنسان أن يضرب شخصاً آخر وأمسكتَ يده ، وقلت له : سيأتي أبناؤه أو إخوته أو عائلته ويضربونك ، حينئذ يمتنع عن الفعل خوفاً من رد الفعل . والعالم كله لا يمكن أن يعيش في سلام إلا إذا كان هناك خوف من رد الفعل القوي يواجه قوياً ، والكل خائف من رَدِّ فعل اعتدائه على الآخر . ولكن إذا واجه قوي ضعيفاً ، تجد القوي يفتك بالضعيف . وهكذا العالم كله ، فالكون إما ساكن وإما متحرك . وتجد الكون المتحرك فيه قوى متوازية تعيش في سلام خوفاً من رد الفعل . وكذلك تجد العالم الساكن فالعمارة الشاهقة تستمد ثباتها وسكونها من أن الهواء لا يأتي من جهة واحدة ، ولكن من جهات متعددة تجعل الضغط متوازناً على كل أجناب العمارة ، ولكن لو فرَّغْتَ الهواء من ناحية وجعلته يهب من ناحية أخرى لتحطمت العمارة ، تماماً كما تُفزِّغُ الهواء من إناء مغلق فيتحطم . وقول الحق سبحانه وتعالى : { إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } لا يعني أن ألسنتهم لم تنطق بالشهادة ، لا ، فقد شهد المنافقون قولاً ، ولكن هناك فرق بين قولة اللسان وتصديق الجنان فالإيمان محله القلب ، والمنافقون جمعوا بين لسان يشهد وقلب ينكر ، فأعطاهم الرسول حق شهادة اللسان ، فلم يتعرض لهم ولم يأسرهم ولم يقتلهم ، وأعطاهم نفس الحقوق المادية المساوية لحقوق المؤمنين ، وكل ذلك احتراماً لكلمة " لا إله إلا الله محمد رسول الله " التي نطقوا بها ولأن باطنهم قبيح ، فالحق سبحانه يجازيهم بمثل ما في باطنهم ، ويعاقبهم ، فلا يأخذون ثواباً على ما يفعلونه ظاهراً وينكرونه باطناً . وهكذا كان التعامل معهم منطقياً ومناسباً . فما داموا قد أعطوا ظاهراً ، فقد أعطاهم الله حقوقاً ظاهرة ولأنهم لم يعطوا باطناً طيباً ، فلم يُعْطِهم الله غيباً من ثوابه وغيباً من جنته وعاقبهم بناره . ونأتي إلى السبب الثاني في قوله تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَ ٱلصَّلٰوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ } والكسل : هو التراخي في أداء المهمة . إذن فهم يصلون رياءً ، فإن كانوا مع المؤمنين ونُودي للصلاة قاموا متثاقلين . وإن كانوا حيث لا يراهم المؤمنون فهم لا يؤدون الصلاة . إذن فسلوكهم مليء بالازدواج والتناقض . والسبب الثالث : { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } والنفقة هي بذل ما عندك من فضل ما أعطاه الله لك سواء أكان ذلك مالاً أم علماً أم جاهاً أم قوة ، وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع لأن كل مجتمع به أعراض كثيرة ، تجد القوي والضعيف ، الغني والفقير ، العالم والجاهل ، الصحيح والمريض . ولو أن كل إنسان تحرك في حياته على قدر حاجته فقط لهلك الضعفاء والمرضى والعاجزون والفقراء . ولكن لابد أن يعمل كل إنسان على قدر طاقته ، وليس على قدر حاجته ، ولابد أن يأخذ من ناتج عمله على قدر حاجته ومن يعول ، فأنت تأخذ حاجتك من ثمرة طاقتك ، ثم تفيء على غيرك بفضل الله عليك ، خصوصاً على هؤلاء الذين لا يقدرون على الحركة في الحياة ، فالصحيح يعطي المريض من قوته ما يعينه على الحياة . والغني يعطي الفقير من ماله ما يعينه على الحياة . والقادر على الحركة يعطي من لا يقدر عليها ، هذا هو المجتمع المتكافل . ومثل هذا السلوك هو لصالح الجميع لأن الغني اليوم قد يكون فقيراً غداً ، والقوي اليوم قد يكون ضعيفاً غداً ، فلو أحس الإنسان بأنه يعيش في مجتمع متكافل فهو لن يخشى الأحداث والأغيار . وهذا هو التأمين الصحيح للقادر والغني ويشعر فيه كل إنسان بالتضامن والتكافل ، فلا ينشغل الفقير خوفاً من الأحداث المتغيرة ، وإن مات فلن يجوع عياله ، وإن افتقر الغني فسوف يجد المساندة ، وإن مرض الصحيح فسوف يجد العلاج . إذن : فالنفقة أمر ضروري لسلامة المجتمع ، ونجد أن السوق توصف بأنها نافقة ، وهي التي يتم فيها بيع كل السلع وشراؤها . فمن أراد أن يبيع باع ، ومن أراد أن يشتري اشترى ، إذن فالحركة فيها متكافئة . وأنت حين تذهب إلى السوق لتبيع أو تشتري ، فإما أن تأخذ مالاً نقدياً مقابل ما بِعْتَ ، وإما أن تدفع مالاً ثمناً لما اشتريت . وقديماً كان الإنسان يبادل السلعة بسلعة أخرى . وبعد اختراع النقود أصبح الإنسان يشتري السلع بثمن ، ومن ينفق ماله ويقدمه عند الله ، فالحق سبحانه يأتي له بكل خير . وقد أراد الحق سبحانه للمنافقين العذاب الباطني في الدنيا ، والعذاب الواقع أمام الكل في الآخرة ، وبيَّن لهم أن إنفاقهم طَوْعاً أو كَرْهاً لن يأتي لهم بالخير . ولكن من ينظر إلى المنافقين قد يجد أنهم يستمتعون بالمال والولد . ولا يلتفت الإنسان الناظر إليهم إلى أن المال والولد هما أدوات عذابه . وقد يقول إنسان : إن الله قد قال : { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا … } [ الكهف : 46 ] . ونقول لمن يقول ذلك : أكمل الآية : { وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [ الكهف : 46 ] . والحق سبحانه وتعالى يقول : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ … } [ التغابن : 15 ] . والله يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفي طي هذا الخطاب خطابٌ لجميع المسلمين ، وهنا يقول الحق سبحانه : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ … } .