Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 53-53)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

إذن : فشرط تقبُّل الله لأي عمل إنما يأتي بعد الإيمان بالله ، أما أن تعمل وليس في بالك الله ، فخذ أجرك ممن كان في بالك وأنت تعمل . لذلك ضرب الله مثلاً بأعمال الذين كفروا في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . ويعطينا الله سبحانه مثلاً آخر في قوله تعالى : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ } [ إبراهيم : 18 ] . ويقول الحق سبحانه وتعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] . وهذا ما يشرح لنا ما استغلق على بعض العلماء فهمه في قول الحق : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] . فقد تساءل بعض من العلماء : أيجزي الحق سبحانه هؤلاء الكفار في الآخرة أم في الدنيا ؟ وقد استغلق عليهم الأمر لأن الآية عامة . ونقول : إن الحق يعطي في الدنيا الجزاء لمن عمل للدنيا ، ويعطي في الآخرة لمن عمل للدنيا والآخرة وفي قلبه الله . ولذلك فالذين يحسنون اتخاذ الأسباب المخلوقة لله بمنح الربوبية ينجحون في حياتهم . والذين يتقدمون دنيوياً في زراعة الأرض وانتقاء البذور والعناية بها يعطيهم الله جزاء عملهم في الدنيا ، ولا يبخس منه شيئاً ولكن الحق سبحانه يقول أيضاً : { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] . هذا القول يوضح عطاء الآخرة ، ولذلك فالخير الذي يعمله غير المؤمن لا يُجزى عليه في الآخرة لأنه عَمِلَ وليس في باله الله ، فكيف ينتظر جزاءه ممن لم يؤمن به ؟ إن الله سبحانه يجزي مَنْ آمن به وعمل من أجله . ولكن من كفر بالله حبط كل عمله . وهذا أمر طبيعي لأنك ما دُمْتَ قد عملت الخير وليس في بالك الله ، فلا تنتظر جزاءً منه . إن عملتَ للإنسانية أعطتْك الإنسانية ، وإن عملتَ للمجتمع أعطاك المجتمع وصنعوا لك التماثيل وأطلقوا اسمك على الميادين والشوارع ، وأقيمت باسمك المؤسسات ، وتحقق لك الخلود في الدنيا ، وهذا هو جزاؤك . ولكن إن كنت مؤمناً بالله ، راجياً ثوابه تجيء يوم القيامة لتجد يد الله ممدودة لك بالخير الذي قدمته . والحق سبحانه وتعالى يقول هنا : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } والطَّوْع : هو الفعل الذي تُقبل عليه بإرادتك دون أن تكون مكرهاً ، فكيف لا تجازى على خير فعلته بإرادتك ؟ ولا بد لنا أن نفرق بين " طوع " و " طائع " ، وكذلك نفرق بين هذا وبين الفعل الذي تقوم به حين يحملك غيرك ويُكرهك أن تفعله . والأفعال كلها إما أن تكون بالطواعية وبالإرادة ، وإما أن تكون بالإكراه . ولو كان الحق قد قال : أنفقوا ، طاعة لما قال : { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } لأن الطاعة معناها انصياع عابد لإرادة معبود ، ولكن قوله هنا : { طَوْعاً } يكشف أن ما ينفقونه هو أمر اختياري من عندهم . وكانت أحوال المنافقين كذلك ، فمنهم من قدم أولاده للجهاد ، ومنهم من قدم بعضاً من ماله ، وكانوا يفعلون ذلك طائعين لأنفسهم ويستترون بمثل هذه الأفعال حتى لا يفتضح نفاقهم ، وكان الواحد منهم يتقدم إلى الصف الأول من صفوف الصلاة في المسجد ، ويفعل ذلك طوْعَ إرادته ، خوفاً من افتضاح نفاقه لا طاعة لله ، فطاعة الله هي طاعة عابد لمعبود ، أما مثل تلك الأفعال حين تنبع من طوع النفس فهي للمظهر وليست للعبادة . { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } هل هذا أمر بالإنفاق ؟ أو هل الله يريد منهم أن ينفقوا فعلاً ، خاصة أنه سبحانه لن يتقبل منهم ؟ لا ليس هذا أمراً بالإنفاق بل هو تهديد ووعيد . مثلما تقول لإنسان : اصبر ، فذلك ليس أمراً بالصبر ولكن تهديد بمعنى : اصبر فَستَرى مني هولاً كثيراً . وهذا مثل قوله تعالى : { فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ … } [ الطور : 16 ] . وقوله تعالى : { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ … } [ فصلت : 40 ] . أي : أنكم إن صبرتم أو لم تصبروا فإن ذلك لن يغير شيئاً من الجزاء الذي سوف تلاقونه ، فالأمر سواء . ولو كان قوله تعالى : { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } أمراً لكان كل من عمل معصية داخلاً في الطاعة لأن الله أمره أن يفعل ما يشاء . ولكن هذا أمر تهديدي ، أي : افعلوا ما شئتم فأنتم عائدون إلى الله وسيحاسبكم على ما عملتموه . ولن تستطيعوا الفرار من الله سبحانه . وقوله تعالى : { أَنفِقُواْ } هو - إذن - أمر تهديدي لأنه لن يجديكم أن تنفقوا طوعاً أو كرهاً . وكلمة { كَرْهاً } وردت في القرآن الكريم في أكثر من سورة ، فهي في سورة آل عمران ، وفي سورة النساء ، وفي سورة التوبة ، وفي سورة الأحقاف ، وفي سورة الرعد ، وفي سورة فصلت ، قد ذكرت { كَرْهاً } بفتح الكاف وقرأها بعضهم بضم الكاف . وقال البعض : إن " كَرْهاً " بفتح الكاف و " كُرْهاً " بضم الكاف بمعنى واحد . نقول لهم : لا ، إن المعنى ليس واحداً ، فمثلاً قول الحق سبحانه وتعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً … } [ الأحقاف : 15 ] . فالكُره هنا ليس للحمل ولا للوضع ، ولكن للمشقة التي تعانيها الحامل أثناء حملها وعند الولادة . فلم يكرهها أحد على هذا الحمل . ولكن البعض يقول : إن الحمل يحدث وليس للمرأة علاج في أن تحمل ولا أن تضع ، فلا توجد امرأة تقول لنفسها : " سوف أحمل الليلة " لأن الحمل يحدث دون أن تَعيَ هي حدوثه ، فالحمل يحدث باللقاء بين الرجل والمرأة . والمرأة لا تستطيع أن تختار ساعة الحمل ولا أن تختار ساعة الولادة ، ولا تستطيع أن تقول : سألد اليوم أو لن ألد اليوم . فكل هذا يحدث إكراهاً بغير اختيار منها . ولذلك نقول لمن يقولون أن " كَرْهاً " بفتح الكاف و " كُرْهاً " بضم الكاف بمعنى واحد : لا لأن " الكُرْه " بضم الكاف هو ما لا يريده الإنسان لأن فيه مشقة ، و " الكَره " بفتح الكاف هو ما فيه إكراه من الغير . إذن فـ " كَرْهاً " بفتح الكاف تختلف في معناها عن " كُرْهًا " بضم الكاف . الحق سبحانه وتعالى يقول : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } أي : لن يقبل الله منكم ما تنفقونه . ولكن ما الفرق ؟ لقد كان المنافقون يدفعون الزكاة ويقبلها الرسول منهم ولم يرفضها أدباً منه صلى الله عليه وسلم ، فكل عمل يؤدى ثم يذهب إلى الرقيب الأعلى وهو الحق سبحانه وتعالى . ولكن حدث أن واحداً من هؤلاء هو ثعلبة طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بالغنى ، فلما دعا له ورزقه الله الرزق الوفير بَخِل عن الزكاة ، وحاول أن يتهرب من دفعها فنزل القول الكريم : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ * فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [ التوبة : 75 - 77 ] . وعندما نزلت هذه الآيات جاء ثعلبة ليدفع الزكاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها منه . وعندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ثعلبة إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبل منه الزكاة . وبعد أبي بكر جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يقبلها منه . ومات ثعلبة في عهد عثمان . هذا هو عدم القبول . ولكن هناك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من دفع الزكاة من المنافقين وقُبلَتْ منه ، ولكن الله لم يتقبلها منه . إذن : فكل عمل قد يُقبل من فاعله ، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يتقبله أو قد لا يتقبله . إذن فالآية معناها : أن الله لن يتقبل من هؤلاء المنافقين إنفاقهم في الخير ولو تقبله البشر . ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى السبب في ذلك فيقول : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } وكما قلنا : إن كلمة الفاسق مأخوذة من " فسقت الرُّطَبَة " أي انفصلت القشرة عن الثمرة . وقشرة البلح مخلوقة لتحفظ الثمر . وعلمنا أن المعاني في التكليف الشرعي قد أُخذت من الأمور الحسّية ولهذا تجد أن الدين سياج يمنع الإنسان من أن يخرج على حدود الله ويحفظه من المعصية ، والإنسان حين ينفصل عن الدين إنما يصبح كالثمرة التي انفصلت عن سياجها . فالذي يشرب الخمر أو يرتكب الجرائم أو الزنا يُعاقب على معصيته ، أما إن كان الإنسان منافقاً بعيداً عن الإيمان بالله فطاعته لا تقبل . وهَبْ أن الإنسان مؤمن بالله ولكنه ضعيف أمام معصية ما ، هنا نقول : لا شيء يجور على شيء ، إن له ثوابَ إيمانه وعليه عقاب معصيته . إذن : فالفسق في هذه الآية الكريمة ليس هو الخروج عن مطلق الطاعة . ولكنه فسق من نوع خاص لأن هناك فسقاً محدوداً وهو أن يخرج الإنسان عن مجرد تكليف . ولكن الفسق الكبير هو أن يكفر الإنسان بالله . ولذلك جاءت الآية الكريمة التالية : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ … } .