Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 56-56)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لماذا أتى الله بهذه الآية بعد أن حذرنا من أن نُعجَبَ بأموال المنافقين وأولادهم ؟ لأن هذه ليست نعمة لهم ولكنها نقمة عليهم ، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يشحننا ضد المنافقين وأن يجعلنا نحذر منهم كل الحذر ، ويضرب لنا المثل باليمين ، واليمين لا ينطق بها الإنسان عادة إلا بعد شبهة إنكار . فإذا جئت لإنسان بخبر وصدَّقه فأنت لا تضطر لأن تحلف له . ولكن إذا أنكره فأنت تحلف لتزيل شبهة الإنكار من نفسه ، ولذلك فأنت حين تروي الخبر لأول مرة لا تحلف ، فإن أنكره سامعك حلفْتَ . ولكن لماذا يحلف المنافقون دون سابق إنكار ؟ إنهم يسمعون القرآن الذي ينزل من السماء مملوءاً بالغضب عليهم ، وهم يشعرون في داخل صدورهم أن كل مسلم في قلبه شك من ناحية تصرفاتهم ، فيبدأون كلامهم بالحلف حتى يُصدِّقهم المؤمنون ، والمؤمنون قد متَّعهم الله بمناعة إيمانية ، في صدورهم فلا يصدقون ما يقوله المنافقون ، حتى يأخذوا حِذْرهم ويكونوا بمنجاة مما يدبره هؤلاء المنافقون من أذى ، ولذلك حذر سبحانه وتعالى المؤمنين من تصديق كلام المنافقين حتى ولو حلفوا . ولو لم يُعط الله المؤمنين هذه المناعة الإيمانية لصدَّقوا قول المنافقين بقداسة اليمين . وبماذا حلف المنافقون ؟ لقد حلفوا بأنهم من المؤمنين والحقيقة أنهم في مظاهر التشريع يفعلون كما يفعل المؤمنون ، ولكن قلوبهم ليس فيها يقين أو صدق . وما داموا على غير يقين وغير صدق ، فلماذا يحلفون ؟ نقول : إن هذا هو تناقض الذات ، وأنت تجد المؤمن غيرَ متناقض مع نفسه لأنه مؤمن بقلبه ومؤمن بذاته ، ومؤمن بجوارحه ، ولا توجد مَلَكَاتٌ تتناقض فيه ، والكافر أيضاً غير متناقض مع نفسه لأنه يعلن صراحة أنه لا يؤمن بالله ولا برسوله ، فليس هناك تناقض بين ظاهره وباطنه ، صحيح أن فيه ملكة واحدة ، ولكنها فاسدة ، ولكن ليس فيه تناقض بين ما يفعل ظاهراً وما في قلبه . أما المنافق فتتناقض ملكاته . فهو يقول بلسانه : " أنا مؤمن وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " . لكن قلبه يناقض ما يقوله ، فلا يشهد بوحدانية الألوهية لله ، ولا يصدق رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم . ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة " المنافقون " : { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] . كيف يقول الحق سبحانه وتعالى { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } ، مع أنهم شهدوا بما شهد به الله ، وهو أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله ؟ نقول : إن الحق أراد أن يفضحهم ، فهم قد شهدوا بألسنتهم فقط ولكن قلوبهم منكرة . وفضح الله ما في قلوبهم وأوضح أن ألسنتهم تكذب لأنها لا تنقل صدق ما في قلوبهم . إذن : فالمنافق يعيش في تناقض مع نفسه ، وهو شر من الكافر لأن الكافر يعلن عداءه للدين فهو عدو ظاهر لك فتأخذ حِذرك منه . أما المنافق فهو يتظاهر بالإيمان ، فتأمن له ويكون إيذاؤه أكبر ، وقدرته على الغَدْرِ أشد . ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى : { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ … } [ النساء : 145 ] . ونحن نعلم أن تناقض الذات هو الذي يتعب الدنيا كلها ، ويبين لنا المتنبي هذه القضية ، ويشرح كيف أنها أتعبُ شيء في الوجود ، فيقول : @ وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيا علَى الحرِّ أنْ يَرَى عَدوّا له مَا مِنْ صَداقتِه بُدُّ @@ هذا هو تناقض الملكَاتِ حين تجد عدواً لك ، وتحكم عليك الظروف أن تصادقه . وفي ذلك يقول شاعر آخر : @ عَلَى الذَّمِّ بِتْناَ مُجْمِعينَ وحالُنَا مِنَ الخوْفِ حَالُ المجْمِعين عَلىَ الحمْدِ @@ وشاعر ثالث يريد أن يصور التناقض في المجتمع الذي يجعل الناس يمجدون هذا وهم كارهون له ، فيقول : @ كَفَانَا هَواناً مِنْ تناقُضِ ذَاتِنا متى تَصْدُق الأقوالُ بالألسُنِ الخُوَّفِ @@ إذن : فالمنافقون يحلفون بألسنتهم بأنهم من المؤمنين ، وهم كذلك في ظاهر التشريع ، ولكنهم ليسوا منكم في حقيقتهم ، فهم في قلوبهم ليسوا منكم . ويكمل الحق سبحانه وتعالى الصورة بقوله : { وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } والفَرَق معناه : الخوف ، أي أنهم في فزع دائم ، ويخافون أن يُفتضَحَ أمرهم فيعزلهم مجتمع الإسلام ويحاربهم محاربته للكفار . ويُشرِّدهم ويأخذ أموالهم ويَسْبي نساءهم وأولادهم . إذن : فالخوف هو الذي جعلهم يحلفون كذباً وخوفاً من افتضاح أمرهم ولذلك قال الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم عنهم : { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ٱلْقَوْلِ … } [ محمد : 30 ] . وفي هذا القول دعوة لفحص ما يقوله أهل النفاق ، حتى وإنْ بَدا القول على ألسنتهم جميلاً . ثم يقول الحق جل وعلا : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً … } .