Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 61-61)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ونعلم أن الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بعد النبوة ، وكان بعض الكفار يقولون ما حكاه القرآن على ألسنتهم : { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . وهذا دعاء مَنْ لا عقل له ، ولو كانوا يعقلون لقالوا : إن كان هذا الحق من عندك فَاهْدنا يا رب إليه ، أو اجعلنا نؤمن به . ولكنهم من فَرْط حقدهم وضلالهم ، تمنَّوا العذاب على الإيمان بالحق . وهذا يكشف لنا تفاهة عقول الكفار . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ } والذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم هم السادة ، وهم أصحاب النفوذ الذين يخافون أن يذهب منهج هذا النبي بنفوذهم وثرواتهم وما أخذوه ظلماً من الضعفاء . والضعفاء - كما نعلم - هم أول من دخل إلى دين الإسلام لأنهم أحسوا أن هذا الدين يحميهم من بطش الأغنياء واستغلالهم ونفوذهم . وشاء الحق أن يبدل خوف الضعفاء قوة وأمناً ، وشاء سبحانه أن يضم إلى الإيمان عدداً من الأغنياء ومن رجال القمة مثل : أبي بكر الصديق ، وعثمان بن عفان ، وعمر بن الخطاب وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين ، حتى لا يقول أقوياء قريش مثلما قال قوم نوح لنبيهم : { وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا … } [ هود : 27 ] . وهكذا كان الإيذاء له صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة ، أما قبل الرسالة فكان في نظر الجميع هو : الأمين والصادق والمؤتمن . ومن العجيب أنهم ، بعد أن نزل الوحي ، كانوا لا يستأمنون أحداً مثلما يستأمنون محمداً صلى الله عليه وسلم . فإذا كان هناك شيء ثمين عند الكافرين المعارضين ، ذهبوا إلى رسول الله ليحفظوا هذه الأشياء الثمينة عنده . وهذا التناقض لا يفسره إلا وثوقهم في أخلاقه صلى الله عليه وسلم . ورغم ذلك كانوا في غيظ وكَمَدٍ لأن القرآن قد نزل عليه . والحق هو القائل ما جاء على ألسنتهم : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . وهم بذلك قد اعترفوا بألسنتهم بعظمة القرآن ، بعد أن اعترفوا بسلوكهم بأمانة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم اعترضوا على اختيار الحق سبحانه له ، وتمنوا لو كان هذا القرآن قد نزل على أحدهم عظمائهم . ورد الحق سبحانه عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا … } [ الزخرف : 32 ] . وفي هذا دعوة لأن يتأدبوا مع الله سبحانه ، فهو لم يوكلهم في اختيار من ينزل عليه رحمته ، ورسالته ، ولكنه سبحانه هو الذي يختار . وهو الذي قسم بين العباد معيشتهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة . وإذا كان لأحد نعمة من مال أو جاه أو مجد ، أو غير ذلك ، فهذا ليس من قدرات البشر أو من ذواتهم ، ولكنه نعمة من الله . وهنا يقول الحق سبحانه : { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ } إذن : فالإيذاء سببه أنه صلى الله عليه وسلم جاء بدعوة الخير ، ولا يجيء رسول بدعوة الخير إلا إذا كان الشر قد عم المجتمع . وحين يعم الشر في المجتمع فهناك مستفيدون منه ، فإذا أتى رسول الله بالخير أسرع جنود الشر ليؤذوا صاحب رسالة الخير ، إذن : فمن الطبيعي أن يكون للنبي أعداء . والحق سبحانه وتعالى يقول : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً … } [ الأنعام : 112 ] . بل إن كل من يحمل من العلماء رسالة رسول الله ليبلغها إلى الأجيال التالية ، إن لم يكن له أعداء ، أنقض ذلك من حظه في ميراث النبوة ، وكل من له أعداء ويقوم بهداية الناس إلى منهج الله ، نقول له : لا تنزعج ، واطمئن لأن معنى وجود من يعاديك ، أن فيك أثراً من آثار النبوة . وتمثَّل إيذاء المنافقين له صلى الله عليه وسلم في عدة صور منها قولهم : { وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } . وللإنسان - كما نعلم - وسائل إدراك متعددة : فالأذن وسيلة إدراك ، والعين وسيلة إدراك ، والجوارح كلها وسائل إدراك . وكل إنسان له ملكات متعددة ، منها ملكات إدراكية وملكات نفسية ، والملكات الإدراكية هي التي يدرك بها الأشياء مثل : السمع والبصر والشم والذوق . أما الملكات النفسية فهذه يوصف بها الناس . وعلى سبيل المثال : نحن نسمي الجاسوس عيناً لأنه يتجسس وينقل ما يراه إلى غيره . ونسمي الرجل الذي يسمع كل حدث " أُذُن " ، ونسمي اللص الذي يتعدَّى على ماله غيره صاحب اليد الطويلة وهكذا . إذن : كل جارحة لها حاسة ، والنظر والسمع والشم واللمس والذوق كلها من وسائل الإدراك الحسية التي تتكون منها الخمائر المعنوية ، ثم تصبح عقائد ، فوسائل الإدراك هذه تتلقى من العالم الحسي ما يعطيه لها من معلومات ، وتخزنها لتتصرف بعد ذلك على أساسها ، وتكون في مجموعها هي ما يعلمه الإنسان ولذلك نجد الحق سبحانه يمتنُّ على خَلقه ، فيقول : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَٰرَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] . والشكر لا يكون إلا على النعمة ، فكأن وسائل الإدراك هذه مما تسمعه أو تراه ببصرك ، أو تدركه بفؤادك هي من نعم الله التي يجب أن نشكره عليها لأنها أعطتنا العلم الحسي بعد أن كنا لا نعلم شيئاً . وإذا أطلقَ على الإنسان اسم جارحة من جوارحه ، فاعلم أن هذه الجارحة هي العمدة فيه ، فكأن قول المنافقين وصفاً للرسول { هُوَ أُذُنٌ } هو سَبٌّ للرسول ، وكان الواحد منهم يقول : احذروا أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكشف نفاقهم ويؤذيكم لأن محمداً عليه الصلاة والسلام في رأيهم يُصدِّق كل شيء . أرادوا أن يتهموه صلى الله عليه وسلم أنه لا يمحص القول الذي يُنقل إليه ويصدق كل ما يقال له ، كما نقول نحن في العامية " فلان وِدَني " أي : يعطي أذنه لكل ما يقال له . فيرد عليهم الله : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } لأنه صلى الله عليه وسلم يستمع لمنهج السماء ويبلغه للبشر ليهدي أهل الأرض ، إذن : فهو خير للناس كلهم . وحتى إذا أخذنا كلامهم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدقهم إن كذبوا عليه ، فهذا خير لهم لأنه صلى الله عليه وسلم لا يؤذيهم ، وهو صلى الله عليه وسلم { أُذُنُ خَيْرٍ } لأنه لا يسمع إلا من الله بالوحي . ولذلك قلنا : إن الحكمة من أمية رسول الله عليه الصلاة والسلام ، أنه لم يستمع من مُسَاو له ، وإنما كان علمه من الله . فإذا كانت الأمية فينا نحن نقيصة فإنها الكمال كله في حق رسول الله عليه الصلاة والسلام لأنه لم يأخذ إلا من خالقه ، وهو أذن خير لأنه الأذن التي استمعت إلى آخر إرسال ينزل من السماء لهداية الأرض . فإذا كان المنافقون قد قالوا : { هُوَ أُذُنٌ } فقد قال سبحانه : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } ، وهو خير يعود نفعه على البشرية كلها ، ولكن ليس بالمعنى الذي تعيبونه عليه ، فهو قد يسمع إساءاتكم ، ثم يسمع اعتذاركم فلا يؤذيكم ويعفو عنكم . وما دام هذا هو سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلماذا تؤذونه وترهقونه ؟ وفي اللغة ما يسمونه " القول بالموجب " ، فإن قال لك واحد شيئاً تصدقه وتقول له : نعم ، ولكن قد تأخذها على مَحْمَل آخر ، فإن كان هناك إنسان يُكثِر الزيارة لإنسان ويقول له : أنا أثقلتُ عليك ، ويرد عليه : أنت أثقلتَ كَاهلي بأياديك ، أي أن أفضالك عليَّ كثيرة . وإن قال لك واحد : " أنا طولت عليك " ، يرد عليه صديقه : لا ، أنت تطولت عليَّ ، أي : أعطيتني نعمة بأنك أسعدتني بمجلسك . إذن : فهو قد وافقه على ما قال ، ولكنه رد عليه بعكس ما قال . وهم قد عابوا على الرسول أنه أذن ، فكأن أذنه تتحكم في كل تصرفاته ، وإن سمع شيئاً تأثر به . وإن سمع شيئاً ينغصه ينقلب موقفه من النقيض إلى النقيض . وحاولوا أن يدَّعوا عليه أنه يصدق كل ما يسمعه ولا يحتاط تجاه من يبلغه ، وقالوا : إنه صلى الله عليه وسلم { أُذُنٌ } ، وردَّ الحق سبحانه { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } وبطبيعة الحال لم يكن قول الحق موافقاً لما قالوه لأن " أُذُن " عندهم غير { أُذُن } التي أقرها الله سبحانه وتعالى . وقد يقول بعض السطحيين : إن المنافقين قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { هُوَ أُذُنٌ } وهم يقصدون بذلك أنه يسمع ويصدق كل ما يقال له ، وليس له حكمة التمحيص والاختيار . لكن لنلتفت إلى أن الحق قد قال : { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسمع إلا من الله ، وما يسمعه من الله أطاعه وطبَّقه ، وما سمعه من الناس عرضه على منهج الله فإن وافق المنهج نفذه ، وإن تعارض مع المنهج رفضه . إذن : فهو أذن للخير لا يسمع إلا من الله ، ولا يأتي من رسالته إلا الخير لمن اتبعه . ولكن لماذا لم يقل الحق سبحانه وتعالى : أذن خير للمؤمنين ، وقال : { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } ؟ لأن خيرية رسول الله قد شملت الجميع ، وتعدَّتْ المؤمنين إلى المنافقين وإلى الكفار . فكان رسول الله صلى الله عليه لا يفضح منافقاً ، إلا إذا فضح الله المنافق بقرآن نزل من السماء . وعلى سبيل المثال : كان المنافقون يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويعتذرون عن الجهاد في سبيل الله ويطلبون الإذن بالقعود . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم الإذن . وحين كان المنافقون يأتون إلى الرسول الكريم ويحلفون له كذباً ، كان يصدقهم ، أو على الأرجح لا يفضح كذبهم أمام الناس . إذن : فالخيرية فيه عليه الصلاة والسلام شملت المنافقين لأن خُلُقَه الكريم أبى أن يفضحهم أمام الناس . أما الكفار فد شملتهم الخيرية أيضاً لأن دعوته لهم إلى الإسلام ، وإصراره صلى الله عليه وسلم على هذه الدعوة ، جعل عدداً من الكفار يسلم ويؤمن ، وأصابهم خير عميم من اهتدائهم لدين الحق . إذن : فقول الحق سبحانه وتعالى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } أي : للبشرية كلها . وهكذا فرق الحق سبحانه وتعالى بين ما يريدونه ، وما يقصده الله جل جلاله . هم قصدوا وصف الرسول أنه أذن سَمَّاعة . والله يقول : إنها أذن خير وهذا ما يسمونه في اللغة - كما قلنا - : " بالقول الموجب " ، أي : أن تتفق مع خصمك فيما قاله ، إلا أنك تحول ما قاله من الشر إلى الخير . والمثال أيضاً فيما يقوله الحق سبحانه وتعالى على ألسنة المنافقين حين قالوا : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ … } [ المنافقون : 8 ] . كانوا يقصدون أنهم هم الأعز ، أما الأذل فهم المؤمنون . ووافقهم الحق سبحانه وتعالى على ما قالوا نعم سيُخرِج منها الأعزُّ الأذلَّ . ولكنه أراد أن يبين لهم من هو العزيز ومن هو الذليل فقال : { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ … } [ المنافقون : 8 ] . فكأن الحق سبحانه وتعالى يؤكد لهم أن الأعز سيُخرج الأذل ، ولكنهم يحسبون أنفسهم هم الأعزاء فيقول لهم : { وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } . هذا ما يسمونه بالقول الموجب ، أي : أن تتفق مع من يقول ، ويقصد أن يوجه كلامه وجهة الشر فتقلب المقصود من الكلام وتوجهه وجهة الخير . وهذا مقصود به هنا أن تزيد من ذلة المخاطب ، فأنت تجعله يعتقد أنك توافقه ، فتنفرج أساريره ويشعر بالسعادة ثم بعد ذلك تنقض ما قاله فيصاب بالذل . تماماً كما يأتي الحارس لسجين يشعر بظمأ شديد ويُلِحُّ في طلب كوب ماء . فيقول له الحارس : سأحضر لك كوب الماء . وفعلاً يحضر الكوب مليئاً بالماء المثلج ، ويفرح السجين ويظن أنه سينال ما يريده ، ولكن ما إن يقرب الحارس الكوب من فم السجين ، حتى يفرغه على الأرض ، فيكون تعذيبه أكبر مما لو رفض منذ البداية إحضار كوب الماء . وهكذا شاء الحق سبحانه وتعالى أن يزيد ذلة المنافقين ، فوافقهم على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أُذُن " ثم جاء بنقيض ما كانوا يقصدونه فقال : { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } وما دام صلى الله عليه وسلم يؤمن بالله فهو يأخذ منهجه من الله سبحانه وتعالى ، ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم . إذن : فهناك ثلاثة أدلة على خيرية رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه يؤمن بالله وينفذ منهجه . ثم يؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا . ونلاحظ أن هناك اختلافاً بين قوله تعالى : { يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } وبين قوله عز وجل : { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } . فبالنسبة للإيمان بالله جاء بالباء في قوله : { بِٱللَّهِ } وبالنسبة للمؤمنين جاء باللام في قوله : { لِلْمُؤْمِنِينَ } . بعض الناس يقولون : إن هذه مترادفات لأن معنى { يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } أي : يصدق بوجوده . والمنافقون كفرة بالله ، { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } معناها أنه صلى الله عليه وسلم يصدق المؤمنين . أما المنافقون فهو صلى الله عليه وسلم يعرف أنهم كاذبون فلا يصدقهم . ولكنه لا يفضحهم أمام المؤمنين حتى لا يقطع عليهم خط الرجعة إن كانوا ينوون الإيمان فعلاً . ولو فضحهم صلى الله عليه وسلم أمام المؤمنين لضاعت هيبتهم تماماً . وإن فكر أحدهم في ترك النفاق إلى الإيمان ، لوجد صعوبة شديدة في ذلك لأن أحداً لن يصدقه . ولكن أراد صلى الله عليه وسلم أن يسترهم أمام المؤمنين فجعل باب الإيمان مفتوحاً على مصراعيه لأنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء رحمة للعالمين ، ولذلك فهو يحرص على أن يبقى باب التوبة وباب الإيمان أمامهم مفتوحاً دائماً مع حفظ كرامتهم . قول الحق سبحانه وتعالى : { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : يصدقهم ، وكلمة الإيمان بالنسبة للناس جاءت في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى حين أعلن السحرة إيمانهم برب موسى وسجدوا قال لهم فرعون : { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ … } [ طه : 71 ] . ومعنى { آمَنتُمْ لَهُ } أي : صدَّقتموه ، ولكن ما هو الفرق بين الباء واللام ؟ أنت حين تقول : آمنا بالله . فأنت تعلن أنك قد آمنت بالذات بكل صفات الكمال فيها ، وحين تقول : آمنت للمؤمنين فيما قالوه ، أي صدقتهم لأنهم مؤمنون . ومادة " آمن " تدور كلها حول الأمن والطمأنينة ، ولكنها تأتي مرة لازمة ومرة متعدية . مثلما تقول : " آمنت الطريق " أي : اطمأننت إلى أنه لن يصيبني فيه شر . ومنها قول يعقوب عليه السلام لبنيه : { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ … } [ يوسف : 64 ] . أي : أن السابقة هنا أنه آمنهم على يوسف فلم يرعوا الأمانة ، فصار لا يأمنهم على أخي يوسف ، وهذه آمن اللازمة . أما المتعدية فهي التي يتعدد فيها الأمن ، مثل قوله تعالى : { وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ … } [ قريش : 4 ] . والخوف متعدد في أشكاله ، فهناك مثلاً خوف من الظلام ، وخوف من العدو ، وخوف من مخاطر الطريق ، إذن : فالأمن هنا شمل أشياء متعددة وقد أدخلهم الحق سبحانه في الأمان والطمأنينة من أشياء متعددة . وقوله تعالى : { يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } هو إيمان بالذات ، وإيمان بالصفات ، وإيمان بالمنهج ، وإيمات يسع أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها ، فكأن الإيمان هنا قد تعددت جوانبه . أما الإيمان للمؤمنين فهو تصديق لهم وهذا هو الخير الثاني . وقوله سبحانه { وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } لأنه صلى الله عليه وسلم شفيع لهم يوم القيامة ، وقال : " أمتي أمتي " . وهو رحمة لهم في الدنيا لأنه يقودهم إلى الخير الذي يقودهم إلى سعادة الدنيا ثم إلى جنة الآخرة ، ويبعدهم عن الشر والنار فهو صلى الله عليه وسلم رحمة تدفع الضرر وتأتي بالخير ، والرحمة إنما تأتي باتقاء الضرر . والله سبحانه وتعالى يقول : { شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ … } [ الإسراء : 82 ] . الشفاء يعني أن يكون هناك مرض ويشفى الإنسان منه ، والرحمة ألا يأتي المرض ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بمنهج إذا اتبعه الناس وآمنوا به كان لهم وقاية فلا يصيبهم شر في الدنيا ولا نار في الآخرة . ويتساءل بعض الناس : لقد قال الحق سبحانه وتعالى : { وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } والمنافقون قد آمنوا بألسنتهم فقط فما موقفهم ؟ نقول : إن الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه رحمة فقد احترم كلمة اللسان وصدقهم أمام الناس ، أما الحق سبحانه فينزلهم في جهنم . ثم يقول سبحانه وتعالى : { وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وإيذاء المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بالمواجهة لأنهم أعلنوا كلمة الإيمان ، وكان الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين في قلوبهم وفيما بينهم في مجالسهم ، ولذلك لم يكن الإيذاء منهم مباشرة قط ، ولكن الآيات بينت أنواع الإيذاء بأنهم يلمزون في الصدقات ، ويقولون : إنه أُذُنُ ، ويحلفون له كذباً ليضللوه ، إلى آخر ما كانوا يفعلون . ثم يأتي الحق بصورة أخرى من صور المنافقين فيقول سبحانه : { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ … } .