Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 74-74)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي هذه الآية الكريمة يبين لنا الحق سبحانه وتعالى حلقات الحلف بالكذب للمنافقين فهم يحلفون أنهم ما قالوا ، ويجعلون الله عرضة لأيمانهم مع أنهم قالوا كلمة الكفر ، وكفروا بعد أن أعلنوا الإسلام بلسانهم ، وإسلامهم إسلامٌ مُدَّعًى . ولهذه الآية الكريمة قصة وقعت أحداثها في غزوة تبوك التي حارب المسلمون فيها الروم ، وكانت أول قتال بين المسلمين وغير العرب ، حيث دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة في فترة شديدة الحرارة ، وكان كل واحد في هذه الفترة يفضل الجلوس في الأخياف ، أي الحدائق الصغيرة ، ويجلسون تحت النخيل والشجر في جو رطب ولا يرغبون في القيام من الظل . وعندما دعا رسول الله للجهاد في سبيل الله ، والذهاب إلى قتال الروم ، تلمَّس المنافقون الأعذار الكاذبة حتى لا يذهبوا للجهاد فظلَّ القرآن ينزل في هؤلاء الذين تخلفوا عن هذه الغزوة شهرين كاملين ، فقال رجل اسمه الجلاس بن سويد : والله إن كان ما يقوله محمد عن الذين تخلفوا عن القتال صِدْقاً فنحن شرٌّ من الحمير . وهنا قال عامر بن قيس الأنصاري : لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم شر من الحمير . وأنت يا جلاس شر من الحمار . وهنا قام عدد من المنافقين ليفتكوا بعامر بن قيس الأنصاري لأن الجلاس بن سويد كان من سادة قومه . وذهب عامر بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما حدث ، فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن سويد وسأله عن الخبر ، فحلف بالله أن كل ما قاله عامر بن قيس لم يحدث . وتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن حلف بالله . وهنا رفع عامر بن قيس يده إلى السماء ، وقال : اللهم إني أسألك أن تنزل على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم تصديق الصادق وتكذيب الكاذب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آمين " . ولم ينتهوا من الدعاء حتى نزل الوحي بقول الحق جل جلاله : { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } . وهكذا حسمت هذه الآية الكريمة الموقف . وأظهرت من هو الصادق ومن هو الكاذب فيما رواه عامر بن قيس وأنكره الجلاس . ولكن الآية الكريمة تجاوزت ما عُرف من الحادثة إلى ما لم يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال سبحانه : { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } ذلك أن الله تبارك وتعالى أراد أن يُعلم المنافقين أن سبحانه يخبر نبيه بما يخفيه المنافقون عنه ، ولو نزلت الآية فقط في حادثة الحلف الكذب ، لقال المنافقون : ما عرف محمد - عليه الصلاة والسلام - إلا ما قاله عامر ، ولكن هناك أشياء لم يسمعها عامر وهم قالوها ، ذلك أن المنافقين كانوا قد تآمروا على حياة النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على قتله عند عبوره العقبة ، والعقبة هذه هي مجموعة من الصخور العالية التي تعترض الطريق ، فيتحايلون على اجتياز هذه العقبة بأن يعبروها أحياناً من أنفاق منخفضة ، وأحياناً يعبرونها بأن يصعدوا فوقها ثم ينزلوا . ودبر المنافقون أن يدفعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعلى الصخور ، فيسقط في الوادي ، ولكن حذيفة بن اليمان الذي كان يسير خلف ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبه للمؤامرة ، فهرب المنافقون ، وهكذا لم ينالوا ما يريدون ، مثلما لم ينالوا ما أرادوه عندما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة ، فقد كانوا يعدون العُدَّة ليجعلوا عبد الله بن أبيّ ملكاً عليهم ، ولكن مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُمكنهم من ذلك . وقيل : إنهم تآمروا على قتل عامر بن قيس لأنه أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله الجلاس بن سويد ، ولكنهم لم يتمكنوا . وقول الحق سبحانه وتعالى : { وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } و { نَقَمُوۤاْ } تعني : كرهوا ، والغنى - كما نعلم - أمر لا يُكره ، ولكن وروده هنا دليل على فساد طبعهم وعدم الإنصاف في حكمهم لأن الغنى والأمن الذي أصابهم ليس عيباً ولا يولد كراهية . بل كان من الطبيعي أن يولد حباً وتفانياً في الإيمان . والحق سبحانه وتعالى يوضح لهم : ماذا تعيبون على محمد ؟ وماذا تكرهون فيه ؟ هل تكرهونه وقد جاءكم بالعزة والغنى ؟ وقبل أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان الذين كرهوا مجيء الرسول إلى المدينة فقراء لا يملكون شيئاً ، ولكنهم لما نافقوا ودخلوا في الإسلام ، أخذوا من الغنائم ، وأغناهم الله بل إن الجلاس بن سويد لما قُتِل له غلام دفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألف درهم ديّة . إذن : فقد جاء على يد الرسول صلى الله عليه وسلم الغنى للجميع ، فهل هذا أمر تكرهونه ؟ طبعاً لا . ولكنه دليل على فساد طباعكم وعدم إنصافكم في الحكم ، وما دام الله سبحانه وتعالى قد أغناكم بمجيء رسوله ما كان يصح أن يُعاب ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كان يجب أن يُمدح به ، وأن تتفانوا في الإيمان به ونصرته . وقول الحق سبحانه وتعالى : { مِن فَضْلِهِ } يلفتنا إلى أسلوب القرآن الكريم . ولقد قال الحق سبحانه وتعالى : { ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } وكان قياس كلام البشر أن يقال " الله ورسوله من فضلهما " ، ولكنه قال : { مِن فَضْلِهِ } لأن الله لا يُثنَّى مع أحد ، ولو كان محمد بن عبد الله . ولذلك عندما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً يخطب ويقول : من أطاع الله ورسوله فقد نجا ، ومن عصاهما فقد هلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بئس خطيب القوم أنت لأن الخطيب جمع جَمْعَ تثنية بين الله ورسوله . وهنا توقف الخطيب وقال : فماذا أقول يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل ومَنْ يعْص الله ورسوله فقد هلك ، ولا تقل : عصاهما ، لا تجمع مع الله أحداً ولا تُثنِّ مع الله أحداً ولذلك نجد القرآن الكريم لم يَقُلْ " أغناهم الله ورسوله من فضلهما " ، ولكنه قال : { مِن فَضْلِهِ } لأن الفضل واحد . فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضل فهو من فضل الله . وعلى أية حال فالله لا يُثنَّى معه أحد ولذلك نجد في القرآن الكريم : { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 62 ] . وهنا نرى أيضاً أن الحق سبحانه قد استخدم صيغة المفرد في الرضا لأن رضا الله سبحانه وتعالى ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم يتحدان ، ولأنه إذا جاء اسم الله فلا يُثنَّى معه أحد . وبعد أن فضح الحق سبحانه وتعالى المنافقين وبيّن ما في قلوبهم لم تتخلَّ رحمته عنهم لأنه سبحانه وتعالى رحيم بعباده ، ولذلك فتح لهم باب التوبة فقال : { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ } ، وفَتْحُ باب التوبة رحمة لحركة الحياة كلها فلو أغلق الله باب التوبة لأصبح كل من ارتكب ذنباً مصيره للنار . وإذا علم الإنسان أن مصيره للعذاب مهما فعل ، فلا بد أن يستشري في الذنب ، ويزداد في الإثم ، ما دام لا فرق بين ذنب واحد وذنوب متعددة . ولكن حين يعلم أي إنسان يخطئ أن باب التوبة مفتوح فهو لا يستشري في الإثم ، ثم إن الذي يعاني من الشرور والآثام حقيقة هو المجتمع ككل ، فإذا وُجد لص خطير مثلاً فالذي يعاني من سرقاته هو المجتمع . وإذا وُجد قاتل محترف فالذي يعاني من جرائمه هم الذين سيقتلهم من أفراد المجتمع . إذن : ففتح باب التوبة رحمة للمجتمع لأنها لا تدفع المجرم إلى الاستشراء في إجرامه . وإذا نظرت إلى الآية الكريمة ، فالله سبحانه وتعالى بعد أن أظهر الحق ، وبيّن للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أشياء كان المنافقون يخفونها فتح للمنافقين باب التوبة ، وحينئذ قال الجلاس بن سويد زعيم المنافقين : يا رسول الله . لقد عرض الله عليّ التوبة . والله قد قلت ما قاله عامر ، وإن عامراً لَصَادقٌ فيما قاله عني . وتاب الجلاس وحسُن إسلامه . أما الذين تُعرَض عليهم التوبة ولا يتوبون إلى الله ، فقد قال سبحانه : { وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } . إذن : فجزاء من يرفض التوبة ولا يعترف بخطئه هو العذاب الأليم ، لا في الآخرة فقط ، ولكن في الدنيا والآخرة . وعذاب الدنيا إما بالقتل وإما بالفضيحة ، وعذاب الآخرة في الدرك الأسفل من النار . ولكن قول الحق سبحانه وتعالى : { وَمَا لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } قد يفهمه بعض الناس فهماً خاطئاً ، بأن العذاب في الدنيا فقط ، ولكن هناك أرض في الدنيا وأرض في الآخرة هي أرض المعاد مصداقاً لقوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَاتُ … } [ إبراهيم : 48 ] . إذن : فكلمة { ٱلأَرْضِ } تعطينا صورتين في الدنيا وفي الآخرة . وقوله تعالى : { وَمَا لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } يوضح لنا أن الوليّ هو القريب منك الذي تفزع إليه عند الشدائد ، ولا تفزع عند الشدائد إلا لمن تطمع أن ينصرك ، أو لمن هو أقوى منك ، أما النصير فهو من تطلب منه النصرة . وقد يكون من البعيدين عنك ولا ترتبط به ولاية ، إذن : فلا الوليّ القريب منك ، ولا الغريب الذي قد تفزع إليه لينصرك يستطيعان أن يفعلا لك شيئاً ، فلا نجاة من عذاب الله لمن كفر أو نافق . ثم يعرض الحق سبحانه وتعالى صورة أخرى من صور المنافقين فيقول : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ … } .