Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 8-8)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى لم يقل كيف يكون للمشركين عهد ، بل اكتفى بـ " كيف " ، لأن غدرهم صار معروفاً ، وكانت " كيف " الأولى استفهاماً عن أمر مضى . والتساؤل هنا يوضح لنا أنهم سيخونون العهد دائماً ، كما فعلوا في الماضي ، فكأن الذي يخبر في الماضي يخبر أيضاً عن المستقبل ويعلم ما يكون منهم . ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله : { وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ … } [ التوبة : 8 ] . ومعنى " يظهروا " ، أي يتمكنوا منكم ، وهم إن تمكنوا من المؤمنين لا يرقبون فيهم إلاّ ولا ذمّة ، و " يرقب " من الرقيب الذي يراقب الأشياء . إذن فهم لا يراقبون بمعنى لا يراعون ، أي أنهم لو تمكنوا من المؤمنين لا يراعون ذمة ولا عهداً ولا ميثاقاً ، بل يستبيحون كل شيء . وهذا إخبار من الحق سبحانه وتعالى عما في نفوس هؤلاء الكفار من حقد على المؤمنين . ونلاحظ أن كلمة " يرقبون " غير " ينظرون " ، وغير " يبصرون " ، وهي أيضاً غير " يلمحون " وغير " يرمقون " ، مع أنها كلها تؤدي معنى الرؤية بالعين ، ولكن يرقب تعني يتأمل ويتفحص باهتمام حتى لا تفوته حركة ، لذلك إذا قلنا : إن فلاناً يراقب فلاناً ، أي لا تفوته حركة من حركاته وهو ينظر لكل حركة تصدر منه . أما كلمة " نظر " فتعني رأى بجميع عينيه ، وكلمة " لمح " تعني رأى بمؤخر عينيه ، و " رمق " أي رأى من أعلى . وقوله سبحانه وتعالى { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } يعني لا يراعون فيكم عهداً ، ولا يمنع الواحد منهم وازع من أن يفعل أي شيء مهما كان قبيحاً والمثال : أن يرفع الرجل القوي يده ليضرب طفلاً صغيراً لا يتحمل ضربته ، هنا يمسك أحدهم بيده ويطلب منه أن يراعي أن الطفل صغير لا يتحمل ضربته ، وأنه ابن فلان قريبه ، وأنهم جيران فلا يراعي هذا كله ، وإنما ينهال على الطفل ضرباً . وقوله سبحانه وتعالى : " إِلاًّ " هي في الأصل اللمعان أي البريق ، و " إِلاّ " أيضاً هي الصوت العالي ، واللمعان والصوت العالي لافتان لوسائل الإعلام الحسّية ، وهي الأذن والعين ، والإنسان إذا عاهد عهداً فهذا العهد يصبح أمراً واضحاً أمامه يلفت عيونه كما يلفتها الشيء اللامع ، ويلفت أذنه كما يلفتها الصوت العالي ، وسُمي العهد والكلام " إلاّ " لأنه معلوم بالعين والأذن . هذا هو المعنى اللغوي ، لكن المعنى الاصطلاحي لكلمة " إلاّ " هو الغصب ، بأن تشد شيئاً كأنك تغصبه على عدم الالتصاق بشيء آخر ، ولذلك سُمِّي سلخ جلد الشاة غصباً لأن اللحم ملتصق بالجلد ، وسُمي أخذ المال غصباً لأن صاحب المال متمسك بماله تمسك الشاة الحية بجلدها . وإذا أُطلق الغصب في الفقه لا ينصرف إلى المعنى اللغوي وهو اللمعان والصوت العالي ، وللعلماء في هذا المعنى أكثر من رؤية ، وكل واحد منهم أخذ لقطة من الـ " إل " وأصله اللمعان ، أَلَّ … يؤلّ … إِلاًّ ، بمعنى لمع … يلمع … لمعاً . والـ " إل " أيضاً هو الصوت العالي ، وقال ابن عباس والضحاك رضي الله عنهما : إن " إلاّ " هي القرابة لأن القرابة سبب للتراحم ، فأنت يعز عليك أن تخون قريباً لك لأن القرابة لا تحتاج إلى عهد ، وقيل إن " إلاّ " هي العهد . وقال سيدنا الحسن : إن " إلاّ " هي الجوار وما يوجبه من حقوقه . وقال قتادة : إن " إلاّ " هي الحلف والتحالف . وقال أبو عميرة : إن " إِلاّ " هو اليمين أو القسم . والمعاني كلها تلفتنا إلى وجود نوع من التراحم ، بحيث لا تتملك الإنسان القسوة أو انفلات الانفعال ، وليجعل الإنسان لنفسه من يقول له : " اهدأ إنه جارك أو من قوم بينهم وبين من تعاهدون صلة قرابة " لأن الذي يجعل الإنسان لا يميل إلى الشر ولا يشتري فيه ساعة يحفزه الأمر هو مراعاة الملابسات كلها ، وهكذا يتدخل الحوار ، ولكن قد توجد قرابة أو عهد أو قسم أو جوار ليمنع البطش بقسوة ، أي إن " إِلاّ " هو الأمر الذي يمنع الرد بقسوة على شيء قد يكون وقع خطأ . والمعنى أيضاً هو عدم احترام لكل القيم عدم احترام للقرابة أو الجوار أو العهد أو القسم ، فإذا تمكن رجل قوي من طفل صغير لم يراع فيه أياً من هذه الأشياء . ويريد الحق أن نعلم أن المشركين إذا تمكنوا من المؤمنين فهم لا يراعون فيهم قرابة ولا عهداً ولا حلفاً ولا جواراً ولا قسماً ولا أي شيء . إذن فكيف يكون للمشركين عهد ؟ وهم إن تمكنوا من المؤمنين لا يراعون فيهم شيئاً أبداً . ثم يضيف الحق سبحانه وتعالى قوله : { وَلاَ ذِمَّةً … } [ التوبة : 8 ] . والذمة هي الوفاء بالأمانة التي ليس عليها إيصال ولا شهود ، فإذا اقترض واحد مبلغاً من شخص آخر إيصالاً عليه بذلك المبلغ ، فهذا الإيصال هو الضامن للسداد ، وكذلك إن كان هناك شهود فشهادتهم تضمن الحق لصاحبه . ولكن إن لم يكن هناك إيصال ولا شهود ، يصبح الأمر موكولاً إلى ذمة المقترض إن شاء هذا المدين اعترف بالقرض ، وإن شاء أنكره ، وهناك ذمة أخرى هي التي بينك وبين نفسك ، والمثال على ذلك قد تعاهد نفسك بأن تعطي فلاناً كل شهر مبلغاً من المال ، وهذا أمر ليس فيه عهد مكتوب أو شهود لكنه متروك لذمتك ، إن شئت فعلته ، وإن شئت لم تفعله . وما في الذمة - إذن - هو شيء إنْ لم تفعله تُفضَح ، مثال ذلك : أن تقرر بينك وبين نفسك أن تساعد أسرة ما ، وهذا أمر خاضع لإرادتك ، فلا عهد يجبرك على ذلك ولا قرابة ولا جوار ، لا شيء إلا ذمتك ، ولذلك فأنت تراعي الوفاء بما وعدت نفسك به لتحافظ على سمعتك ورؤية الغير لك . وكذلك أيضاً حين تأخذ ديناً بلا إيصال منك أو شهود عليك ، ولكنك تحرص على أن ترده لأنه في ذمتك . { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } [ التوبة : 8 ] . وهكذا نعرف أن " كيف " هنا تعجب من أن يكون للمشركين الآن أو في المستقبل عهد لأنهم يحترفون نقض العهود ولو تمكنوا من المؤمنين فهم ينكلون بهم أبشع تنكيل دون مراعاة لأي اعتبار ، وقد يقول قائل : إنهم معنا على أحسن ما يكون بشاشة وجه وحسن استقبال إلى آخره ، فكيف إذا تمكنوا منا انقلبوا إلى وحوش لا ترحم ؟ . ونقول : إن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يظهر وما يخفى ، وقد علم ما يدور في خواطر المؤمنين فرد عليهم حتى لا يترك هذه الأشياء معلقة داخل نفوسهم ، ولذلك يريد سبحانه وتعالى على هذا الخاطر : { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } [ التوبة : 8 ] . أي أن الله عز وجل ينبه المؤمنين ويحضهم ألا يصدقوا الصورة التي يرونها أمامهم من المشركين لأنها ليست الحقيقة ، بل هو خداع ونفاق فهم يقولون القول الحسن ، ويقابلونك بوجه بشوش وألفاظ ناعمة ، لكن قلوبهم مليئة بالحقد عليكم أيها المسلمون بحيث إذا تمكنوا منكم تظهر مشاعرهم الحقيقية من البغض الشديد والعداوة ، ولا يرقبون فيكم إلاّ ولا ذمّة . فإذا قال الله سبحانه وتعالى : { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ … } [ التوبة : 8 ] . فعلى المؤمنين أن يصدقوا ما جاء من الحق ، ويكتشفوا أن اللسان الحلو وحسن الاستقبال ليس إلا خداع ، من هؤلاء الأعداء ، وهو سبحانه بهذا الكشف إنما يعطينا مناعة بألاَّ ننخدع بما نراه على وجوههم فهذا مجرد أمر استقبالي ، لا يمثل ماضياً أو حاضراً ، وحين يبرم سبحانه وتعالى أمراً استقبالياً فهو يخبر به عباده المؤمنين ، ولذلك نجده سبحانه وتعالى يرد بنفس الأسلوب على هذه الخواطر والمثال : في قوله سبحانه وتعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا … } [ التوبة : 28 ] . والبلاغ هنا نهي عن دخول المشركين المسجد الحرام أو اقترابهم منه ، ومن الطبيعي أن تدور الخواطر هنا في نفوس عدد من المؤمنين الذين يستفيدون من المشركين في مواسم الحج ، لأنهم أمة تعيش على اقتصاد الحج ، حيث يبيعون السلع لهؤلاء القوم ليكسبوا قوت العام ، فإذا ما تم منع المشركين من الحج أو الاقتراب من المسجد الحرام ، فمن أين يأتي الرزق الذي يحصلون عليه من البيع لهم ؟ ولا بد أن يفكر المؤمنون : من أين سنأكل ؟ . نحن نحضر بضاعتنا وننتظر طوال الموسم حتى الحج فإذا نقص عدد الحجاج فلمن نبيع ؟ . فيرد الله سبحانه وتعالى على هذه الخواطر بقوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ … } [ التوبة : 28 ] . أي لا تخافوا الفقر ، لأن الله يعلم ما سوف يحدث ، والله هو الغني وعنده مفاتيح كل شيء وسوف يغنيكم من فضله ويفتح لكم باب الرزق مما يعوضكم وزيادة . وهكذا يرد الله سبحانه وتعالى على الخواطر التي تدور في نفس المؤمن ساعة نزول القرآن حتى تطمئن قلوب ونفوس المؤمنين فيقول عز وجل : { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } [ التوبة : 8 ] . وفي هذا القول رد على الخواطر التي دارت في نفوس المؤمنين وهم يرون المشركين يستقبلونهم بألفاظ ناعمة ووجوه تملؤها البشاشة ، فأوضح لهم الحق سبحانه وتعالى : لا تنخدعوا فما في القلوب عكس ما هو على الوجوه . وقوله تعالى : { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } [ التوبة : 8 ] . يبين أنهم بعيدون عن المنهج ، فالفسق هو الخروج عن الطاعة ، وهل الكافر والمنافق له طاعة ؟ . نقول : إنك إن نظرت لهؤلاء تجدهم خارجين حتى عن المنهج الذي اتخذوه لأنفسهم فهم لا يلتزمون بمنهج الباطل الذي يعتنقونه ، إذن فهم فاسقون حتى في المنهج الذي ينتسبون إليه ، فإذا كانوا كذلك مع منهج الباطل ، فكيف بهم مع منهج الحق ؟ . وقوله تعالى : { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } يوضح بأنه قد تكون هناك قلة ملتزمة ، وهذا احتياط قرآني جميل ، كما أنها ردت على السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن أن هؤلاء كافرون - وليس بعد الكفر ذنب - فكيف يقال إنَّهم فاسقون أي عاصون أو خارجون عن الطاعة وهم غير مؤمنين أصلاً ؟ . نقول : إنهم خارجون حتى عن مناهج الكفر التي اختاروها لأنفسهم ، ولذلك يبين الله سبحانه وتعالى وضعهم حين يقول : { ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً … } .