Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 94-94)

Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ومعنى " يعتذر " أي : يبدي عذراً عن شيء يُخرجه من اللوم أو التوبيخ ، ويقال : " اعتذر فلان " أي : فعل شيئاً مظنة أنه ذم ، فيريد أن يعتذر عنه . والحق هنا يقول : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } وفي آية سابقة يقول مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم : { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ … } [ التوبة : 83 ] . وهكذا نلاحظ أنه سبحانه حين نسب الرجوع إلى الصحابة والمجاهدين قال : { رَجَعْتُمْ } ، وعندما نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ } مما يدلنا على أن زمام محمد صلى الله عليه وسلم بيد ربه وحده ، ولكن زمام أتباعه يكون باختيارهم . وهنا يقول الحق : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } ويأتي بعدها ذلك الرد الواضح على محاولة المنافقين في الاعتذار : { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ } ، وفي هذا رد حاسم ، فأنت حين يعتذر إليك إنسان فقد تستمع لعذره ولكنك لا تقبله ، ومجرد استماعك للعذر معناه أن هناك احتمالاً في أن يكون هذا العذر مقبولاً أو مرفوضاً ، ولكن حين ترفض مجرد سماع العذر ، فمعنى ذلك ألاَّ وجه للمعذرة . والحق سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } فكأنما ساعة أقبل المنافقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتهيأوا للاعتذار وقبل أن ينطقوا بالعذر أوضح لهم الرسول عليه الصلاة والسلام : لا تعتذروا ، ورفض مجرد إبدائهم للعذر . ثم فاجأهم بالحكم في قوله تعالى : { لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } ومادة " آمن " تدور حول عدة معان ، نقول " آمن " أي : اعتقد وصدق مثل قولنا : " آمن بالله " ، ويقال : " آمن بالشيء " أي : صدَّقه ، و " آمن بكذا " أي : صدَّق ما قيل . والحق هو القائل : { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ … } [ يونس : 83 ] . وقال إخوة يوسف لأبيهم : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [ يوسف : 17 ] . أي : لن تصدقنا . وآمن إذا تعدَّت بالباء فمعناها الاعتقاد ، وإن تعدَّتْ باللام فمعناها التصديق ، وإن تعدت بغير الباء وغير اللام فمعناها إعطاء الأمان ، مثل قوله تعالى : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ * ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 - 4 ] . وتجيء أيضاً " آمن " و " أمن " بمعنى الائتمان ، مثل قول الحق سبحانه وتعالى على لسان يعقوب : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰ أَخِيهِ مِن قَبْلُ … } [ يوسف : 64 ] . إذن : فـ " آمن " إن تعدت بالباء فيكون معناها الاعتقاد الإيماني ، وإنْ تعدَّتْ باللام فمعناها التصديق ، وإن تعدَّتْ بنفسها إلى الفعل فهي إعطاء الأمان والسلام والاطمئنان ، وإن تعدت بالمفعول أيضاً فمعناها القدرة على أداء الأمانات ، مصداقاً لقوله الحق : { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً … } [ آل عمران : 75 ] . وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق سبحانه وتعالى : { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } أي : لن نصدقكم . فقد جاء المنافقون ليعتذروا بأعذار كاذبة ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفض مجرد سماع الاعتذار ، وأعلن لهم : لن نصدقكم . ولو امتلك المنافقون ذرة من ذكاء لفهموا أن رب محمد عليه الصلاة والسلام قد أخبره بكل شيء حتى بما في قلوبهم قبل أن ينطقوه ، ولو امتلكوا ذرة من فطنة لرجعوا عن نفاقهم ، ولدخلوا في الإيمان ، ولكنهم لم يستوعبوا الدرس ، فجاء الحق سبحانه وتعالى بالأمر واضحاً في قوله سبحانه : { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } فكأن المسألة ليست فراسة استنتاج ، ولكنها وحي من الله . ثم يقول الحق تبارك وتعالى : { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } . ما هو العمل الذي سيراه الله سبحانه وتعالى ورسوله ، بعد أن رفض رسول الله عذرهم ، وأخبرهم بأن الله قد أخبره بما يُخْفونه من كذب في صدورهم ؟ فسبحانه العالم بالسرائر كلها ، لقد شاء سبحانه ألا يغلق أمامهم باب المرجع إليه ، وكان يجب من بعد ذلك أن يرتدعوا وأن يتيقنوا أن رب محمد صلى الله عليه وسلم لا تخفى عليه حتى نواياهم . وما دُمْتم قد علمتم صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أبلغكم به ، أصبح عليكم - إذن - أن ترجعوا وتخرجوا من دائرة النفاق لتدخلوا حظيرة الإيمان وتراكم الدنيا من بعد ذلك وقد اختلفت أعمالكم من النفاق إلى الإيمان ، أما إنْ أصررتم على ما أنتم فيه فمعنى ذلك أنكم لم تستفيدوا من العملية الإعجازية التي أنبأ الله فيها رسوله بكذبكم . إذن : فقد فتح الله باب التوبة أمامكم رحمة منه سبحانه ، فانتهزوا هذه الفرصة لأنه سبحانه سيرى أعمالكم في المستقبل ، وعلى أساس هذه الرؤية يرتب لكم الجزاء على ما يكون منكم . ولذلك يقول الحق سبحانه : { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ التوبة : 94 ] . وما دام سبحانه عالم الغيب ، فمن باب أوْلى أنه عليم بعالم الشهادة . والغيب - كما نعرف - هو ما غاب عنك ، فلم تعرف عنه شيئاً . ولكن إنْ غاب عنك ولم يَغِبْ عن غيرك فهو غّيْبٌ نسبي لأن هناك حجباً منعت عنك العلم ، والمثَال : إن سُرق منك شيء فأنت لا تعرف السارق ولكن السارق نفسه يعرف ، ومن شاركه يعرف . والذي أخفى السارق عنده المسروقات يعرف . والذي ابتاع المسروقات يعرف . إذن : فهو غيب عنك وليس غيباً على غيرك . أما الغيب المطلق فهو ما غاب عنك وعن غيرك ، وهناك من يلجأ إلى الدجالين ممن يدّعون قراءة الأفكار ، ويسمونهم المنوِّمين المغناطيسيين ، ويطلب المنوّم من أي واحد أن يُخرج ما في جيبه من نقود وأن يقوم بعدّها ، ثم يخبره بعددها ، وإن أردت أن تكشف ألاعيبه ضع يدك في جيبك وأخرج كمية من النقود لا تعرف أنت مقدارها ، واسأله عن هذا المقدار فلن يعرف ، لماذا ؟ لأنك نقلت المسألة من غيب قد يعرفه غيرك إلى غيب مطلق . إذن : فالغيب المطلق هو ما غاب عنك عن غيرك ، وهو أيضاً ما لا تكون له مقدمات توصلك إليه ، فأنت إذا أعطيت ابنك تمريناً هندسيّاً ليحله فالحل غيب عنه ساعة يقرأ المسألة ، ثم يستخدم المقدمات والنظريات حتى يصل إلى الحل ، فكأن هناك أشياء لها مقدمات توصل إلى النتائج ، وهذه ليست غيباً لذلك لا يقال لمن اكتشف الكهرباء والذي اكتشف تفتيت الذرة أنهما علما الغيب . فقد كانت هناك مقدمات في الكون أوصلتهما إلى كشف بعض القوانين الموجودة بالفعل ، لكنّنا لم نكُنْ نعرفها . وفي بعض التدريبات ، نجد من يضع المسألة المطلوب حلّها ، ويضع النتيجة الأخيرة بجانبها لأنه لا يهدف إلى معرفة النتيجة ، ولكنه يهدف لتعليم التلميذ كيف يصل إلى أسلوب الحل الصحيح . ولذلك إذا أردت أن تحلّ شيئاً في الهندسة مثلاً ، فلا بد لك من معطيات توصلك إلى الحل كأن يُطلب منك - مثلاً - إثبات أن الخطين متوازيان ، وفي هذه الحالة يجب أن تكون كل زاويتين متناظرتين متساويتين ، وكل زاويتين متبادلتين متساويتين . إذن : فانت قد أخذت مقدمات أو معطيات أوصلتك إلى النتيجة ، وكذلك في تساوي ضلعي المثلث أو أضلاعه يكون إثباته بتساوي الزوايا . فهل في هذه الحالة يقال : إنك اهتديت إلى الغيب ؟ أم أنك استخدمت مقدمات أوصلتك إلى نتائج ؟ وأنت حين تبرهن على صحة النظرية المباشرة ، تقول : إن هذا يساوي هذا حسب النظرية رقم تسعة مثلاً ، وإن هذا مقابل لهذا حسب النظرية الجديدة ، وإذا وصلت في براهينك إلى نظرية رقم واحد فهي النظرية التي لا مقدمات لها ، ولا بد أن تكون بديهية . وهكذا نجد أن كل علم في هذا الكون بُني على نظريات أو مقدمات بديهية ، ثم تطورت بعد ذلك إلى اكتشاف ما أودعه الله في كونه من أسرار . أما الحق سبحانه وتعالى فهو يقول عن نفسه : { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي أنه سبحانه عالم بالغيب المطلق ، الذي لا توجد له مقدمات توصلنا إليه ولذلك لا نستطيع أن نعرف الغيب المطلق لأنه ليس معروفاً عند البعض ، ومجهولاً عند غيرهم ، وليس له مقدمات توصلنا إليه لأنه الغيب الذي ينفرد به الحق عزّ وجلّ . ونجد الحق سبحانه يقول : { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ … } [ الجن : 26 - 27 ] . فسبحانه عالم الغيب المطلق ، وهو يختلف عن الغيب المستور عن البعض ، ويقول الحق عن مواعيد الكشف عن أسرار الغيب المستور : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ … } [ البقرة : 255 ] . وحين يشاء الله أن يكشف عن بعض أسرار الغيب فهو يحدد الوقت الذي يشاؤه لذلك ، وكل شيء في الكون له ميعاد ميلاد مثل : الكهرباء ، والذرة ، والوصول إلى القمر ، وغزو الفضاء ، وهذه كلها أشياء لها مواعيد ميلاد . ويبحث العلماء عنها باستخدام المقدمات . ولكنهم لا يصلون إلى سر ميلاد أي اكتشاف إلا بإذن الله حين يلفتهم إلى هذا السرّ إما بالبحث العلمي ، وإما أن يتم معرفته صدفة . وهكذا نجد أن البشر يُحَاطون عِلْماً بهذه الأسرار بعد مقدمات وبإذن من الله . وما دام الحق سبحانه هو عالم الغيب فيكون سبحانه عالماً بالشهادة من باب أولى ، وقد يظن ظان أنه إن جلس في مكان معزول مستور ويفعل ما يريد ، فلن يشهده الله لأنه قد يفعل ما يريد دون أن يراه أحد ، لكن ذلك غير حقيقي لأن الحق سبحانه عالم الغيب والشهادة ، فلا يوجد مستور عنه في هذا الكون ، فلا الغيب يغيب عن علمه ، ولا العالم المشهود يغيب عن علمه . وما دام قد جاء الحق هنا بقوله : { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } فلا بد أن يأتي من بعدها { يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : يخبركم مقدماً بجزاء ما ستفعلونه من خير أو شر حتى لا يقول أحد : إنه لم يكن يعرف ، أو أنه لو علم أن فعله يؤدي إلى الشر لما فعل وحتى يكون كل إنسان شهيداً على نفسه لأن الله أبلغه بالجزاء ، فيكون الجزاء عدلاً لا ظلماً . ولذلك يقول الحق سبحانه : { كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] . فأنت الذي تحكم على نفسك . ويقول الحق بعد ذلك : { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ … } .