Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 95-95)
Tafsir: Ḫawāṭir Muḥammad Mutawallī aš-Šaʿrawī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وكلمة { سَيَحْلِفُونَ } فيها سرّ إعجازي من الله لأن حرف " السين " هنا تدلنا على أنهم لم يحلفوا بعد ، أي أن الآية نزلت وقُرئت وسمعها المؤمنون والمنافقون قبل أن يحلف المنافقون ، وآيات القرآن تُتْلى وتُقرأ في الصلاة ، ولا تتغير ولا تتبدل إلى يوم القيامة . ولو كان للمنافقين قدرة على التدبر لما جاءوا وحلفوا . ولقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قرآن يوحى إليه : إننا سنأتي ونحلف ، ونحن لن نأتي ولن نحلف ولكن لأن الله هو القائل وهو الخالق وهو الفاعل ، فقد شاء أن تغيب الفطنة عن أذهانهم ، مثلما قال سبحانه من قبل : { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ … } [ البقرة : 142 ] . وهم قد قالوا ذلك بعد نزول الآية . والحق سبحانه وتعالى يقول هنا : { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ } والانقلاب معناه التحول من حال إلى حال . ومعنى الانقلاب في هذه الآية مقصود به العودة إلى المدينة مقر السلام والأمن بعد الحرب ، فكأن الاعتدال في القتال والانقلاب في العودة إلى المدينة . ولكن لماذا سيحلف المنافقون بالله للمؤمنين ؟ يقول الحق سبحانه : { لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } أي : لتعرضوا عن توبيخهم ولومهم وتعنيفهم لأنهم لم يجاهدوا معكم . فقال الحق : { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } أي أعطوهم مطلوبهم من الإعراض ولكنه لون آخر من الإعراض ، فلا تلوموهم ولا توبخوهم ولا تؤثموهم ، بل أعرضوا عنهم إعراض احتقار وإهانة ، لا إعراض صفح ومغفرة جزاءً لهم على ما فعلوا لأن التأنيب والتوبيخ هما من ألوان الجزاء على المخالفة ، ولكنه قد يحمل الأمل في المخالف ليعود إلى الصواب . فأنت إن لم يذهب ابنك إلى المدرسة مثلاً تُوبِّخه وتُعنِّفه ، وأنت تفعل ذلك لأنك تأمل في أن ينصلح حاله ، ولكن إذا استمر على مثل هذه الحال فأنت تهمله ، والإهمال دليل على أنك فقدت الأمل في إصلاحه . كذلك كان الأمر بالنسبة للمنافقين ، لو أن التوبيخ والإهانة كانت ستجعلهم يفيقون ويعودون إلى حظيرة الإيمان ، فهذا دليل على أن هناك أملاً في الإصلاح ، وهم لن ينصلح حالهم ، وهم في ذلك يختلفون عن المؤمنين ، فالمؤمن إن ارتكب إثماً فهو يستحق العتاب والتوبيخ من إخوته في الإيمان ، وفي هذا إيلام له . والمؤمن عرضة أن تصيبه غفلة فيرتكب إثماً ، فإذا حدث بعد هذا الإثم إيلام له من نفسه ، أو بواسطة إخوانه المؤمنين ، فهو يفيق ويشعر بالذنب ، وشعوره بالذنب وصول به إلى التوبة . أما هؤلاء المنافقون فلا ينفع معهم التوبيخ أو الإيلام النفسي لأنهم لن يعودوا أبداً إلى حظيرة الإيمان ، ولذلك جاء الأمر : فأعرضوا عنهم لأنهم لا يستحقون - حتى - اللوم ، فالتوبيخ جزاء على ذنب قد يُقلع عنه من ارتكبه . ولكن هؤلاء لا أمل فيهم ، والعلة يأتي بها القرآن : { إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } والرجس يطلق على معان متعددة ، وقوله : { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } أي : هم الخباثة بذاتها ، ويقول العلماء : أي أن فيهم خبثاً وقذارة . وأقول : إن الرجس هو القذارة نفسها ، فلا نقول : إنهم قذرون لأننا إن قلنا ذلك فالمعنى يفيد أنهم طُهُرٌ أصابهم قذر ، وهم ليسوا كذلك ، إنهم " قذر " في حد ذواتهم ، ولا يطهرهم شيء لأن الذي يخرج من القذارة يكون مثلها فهم خباثة لا يطهرها لَوْم أو توبيخ . وأطلق الرجس هنا مثلما قال الحق : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ … } [ التوبة : 28 ] . ولم يقل : " نجسون " بل هم أنفسهم نجس . والرجس يطلق أيضاً على الشيء القذر حسيّاً مثل الميتة ، والحق سبحانه يقول : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ … } [ الأنعام : 145 ] . إذن : فالميتة قذارة حسّية ، كذلك الخمر التي يقول فيها الحق : { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ … } [ المائدة : 90 ] . فالخمر نفسها رجس ، أي : قذارة حسّية ، وعطف عليها الحق - سبحانه - الميسر والأنصاب ، والأزلام وأخذوا حكم الخمر ، وهكذا نفهم أن الخمر رجس حسّي ، بينما الأنصاب والأزلام والميسر رجس معنوي . وهناك أيضا الرجز ، ويطلق على وسوسة الشيطان ، فالحق يقول : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ … } [ الأنفال : 11 ] . إذن : فالرجس له متعلقات معناه هنا الكفر ، والكافر هو قذارة في حَدِّ ذاته لا أنه إنسان أصابته قذارة . ويقول الحق : { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } والمأوى : هو المكان الذي يؤويك من شر يلحقك ، ويقال : " آوى إلى كذا " أي : هرب من شر يُراد به ، فإذا كان المأوى الذي يفزعون إليه هو جهنم ، فمعنى ذلك أنهم بحثوا عن منفذ فلم يجدوا منفذاً إلا أن يدخلوا جهنم ، وهي بطبيعة الحال بئس المصير . وهل ذلك افتئات عليهم أم جزاء ؟ يقول الحق : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ونعرف أن الحسنة يقال عنها : " كسب " ، والسيئة يقال عنها " اكتسب " ، والحق هو القائل : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ … } [ البقرة : 286 ] . وذلك لأن عمل الحرام المخالف لمنهج الله لا بد أن يشوبه الافتعال ، أما عمل الحلال فهو أمر فطري لا يكلف النفس مشقة ، ولا تتنازع فيه مَلَكَات ، لكن بعض الناس الذين يعملون السيئات يألفونها إلْفَاً بحيث تصبح سهلة فلا تكلفهم شيئاً ، ويعتبر الواحد منهم السيئة كسباً ، كأن تأتي لإنسان ، فيحدثك بمغامراته في الخارج ، ويروي عن رحلاته في باريس ولندن ، وما فعل فيهما من منكرات . هو يظن أنه يحكي عن مكاسب ، ولا يعلم أنه يحكي عن مصائب وقع فيها باختياره . مثل هذا الإنسان يفعل السيئة ، وهو معتاد عليها فتصير كَسْباً . وهو عكس إنسان آخر وقعت عليه المعصية فيظل يبكي ويبكي ويبكي ، ويندم ، وقد يضرب نفسه كلما تذكر المعصية ، ويندم عليها . فالأول فرح بخطاياه ومعاصيه واعتبرها كسباً وصارت له دُرْبة وله رياضة وله إلْفٌ بتلك المعاصي . وهنا يقول الحق سبحانه : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ … } .