Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 30-31)

Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ } النسوةُ فيها أقوالُ ، المشهور أنها جمعُ تكسير للقلة على فِعْله كالصِّبْيَة والغِلْمَة . ونصَّ بعضُهم على عَدَمِ اطِّرادها وليس لها واحدٌ مِنْ لفظها . والثاني : أنها اسمٌ مفردٌ لجمع المرأة ، قاله الزمخشري . والثالث : أنها اسمُ جمعٍ / قاله أبو بكر بن السراج وكذلك أخواتها كالصِّيْبَة والفِتْية . وعلى كل قولٍ فتأنيثها غير حقيقي باعتبار الجماعة ، ولذلك لم يلحق فعلَها تاءُ التأنيث ، والمشهورُ كسرُ نونها ، ويجوز ضمُّها في لغةٍ ، ونقلها أبو البقاء قراءةً ولم أَحْفَظْه ، وإذا ضُمَّتْ نونُه كان اسمَ جمع بلا خلاف ، ويُكسَّر في الكثرة على نِسْوان ، والنساء جمع كثرة أيضاً ولا واحدَ له من لفظه ، كذا قال الشيخ ، ومقتضى ذلك أن لا يكونَ النساءُ جمعاً لنسوة لقوله : " لا واحد له من لفظه " . و " في المدينة " يجوز تعلُّقه بمحذوفٍ صفةً لنسوة وهو الظاهر ، و بـ " قال " وليس بظاهر . قوله : { تُرَاوِدُ } خبر " امرأة العزيز " ، وجيء بالمضارع تنبيهاً على أن المراوَدَةَ صارَتْ سَجِيَّةً لها ودَيْدَناً ، دون الماضي ، فلم يَقُلن " راوَدَتْ " . ولام " الفتىٰ " ياء لقولهم الفتيان وفُتَيّ ، وعلى هذا فقولُهم " الفتوَّة " في المصدر شاذ . قوله : { قَدْ شَغَفَهَا } هذه الجملةُ يجوز أن [ تكون ] خبراً ثانياً ، وأن تكونَ مستأنفة ، وأن تكونَ حالاً : إمَّا من فاعل " تُراوِدُ " وإمَّا مِنْ مفعوله . و " حبَّاً " تمييزٌ ، وهو منقولٌ من الفاعلية ، والأصل : قد شَغَفها حبُّه . والعامَّة على " شَغَفها " بالغين المعجمة مفتوحةً بمعنى خَرَقَ شِغاف قلبها ، وهو مأخوذ من الشَّغاف والشَّغاف : حجاب القلب جُليْدَة رقيقة . وقيل : سويداء القلب . وقيل : داءٌ يَصل إلى القلب من أجل الحب وقيل : جُلَيْدَةٌ رقيقة يقال لها لسان القلب ليسَتْ محيطةً به ، ومعنى شَغَفَ قلبَه ، أي : خرق حجابَه أو أصابه فأحرقه بحرارة الحبِّ ، وهو مِنْ شَغَفَ البعيرَ بالهِناء إذا طَلاَه بالقَطِران فأحرقه . والمَشْغوف : مَنْ وصل الحبُّ لقلبه ، قال الأعشىٰ : @ 2768 تَعْصِي الوُشاةَ وكان الحُبُّ آوِنَةً مِمَّا يُزَيِّنُ للمَشْغوف ما صنعا @@ وقال النابغة الذبياني : @ 2769 وقد حالَ هَمٌّ دونَ ذلك والِجٌ مكانَ الشَّغافِ تَبْتَغيه الأصابعُ @@ وقرأ ثابت البناني بكسر الغين . قيل : وهي لغة تميم . وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر والشعبي وقتادة بفتح العين المهملة ، وروي عن ثابت البناني وأبي رجاء كَسْرُ المهملة أيضاً . واختلف الناس في ذلك فقيل : هو مِنْ شَعَفَ البعيرَ إذا هَنَأَ فأحرقه بالقَطِران ، قاله الزمخشري ، وأنشد : @ 2770 ـ … كما شَعَفَ المَهْنُؤْءَةَ الرجلُ الطالي @@ والناسُ إنما يَرْوونه بالمعجمة ويُفَسِّرونه بأنه أصاب حبي شَغَافَ قلبها أي أحرق حجابَه ، وهي جُلَيْدَة رقيقة دونه ، " كما شَغَفَ " ، أي : كما أَحْرق وبالغ المهنوءة ، أي : المَطْلِيَّة بالهِناء وهو القَطِران ، ولا ينشدونه بالمهملة . وقال أبو البقاء لمَّا حكى هذه القراءة : " مِنْ قولك : فلان مَشْعوفٌ بكذا ، أي : مُغْرىٰ به ، وعلى هذه الأقوال فمعناها متقارب . وفرَّق بعضُهم بينهما فقال ابن زيد : " الشَّغَف يعني بالمعجمة في الحب ، والشَّعَفُ في البغض " . وقال الشعبي : " الشَّغَف والمَشْغوف بالغين منقوطةً في الحُبِّ ، والشَّعَفُ الجنون ، والمَشْعوف : المجنون " . قوله : { مُتَّكَئاً } العامَّةُ على ضم الميم وتشديدِ التاءِ وفَتْحِ الكاف والهمز ، وهو مفعولٌ به بأَعْتَدَتْ ، أي : هَيَّأَتْ وأَحْضَرَتْ . والمتَّكأ الشيءُ الذي يُتَّكَأُ عليه من وسادةٍ ونحوها . وقيل : المتكأ : مكان الاتِّكاء . وقيل : طعام يُحَزُّ حَزَّاً وهو قول مجاهد . قال القتبيُّ : " يُقال : اتَّكَأْنا عند فلانٍ ، أي : أَكَلْنا " . قال الزمخشري : " مِنْ قولك : اتَّكَأْنا عند فلان : طَعِمنا ، على سبيل الكناية ؛ لأنه مِنْ " دَعَوْتَه ليَطْعَمَ عندك " : اتخذتَ له تُكَأَة يتكِىء عليها . قال جميل : @ 2771 فَظَلِلْنا بنعمةٍ واتَّكَأْنا وشَرِبْنا الحَلالَ مِنْ قُلَلِهْ " @@ انتهىٰ . قلت : فقوله : " وشَرِبْنا " مُرَشِّح لمعنى اتَّكَأْنا بأكلنا . وقرأ أبو جعفر والزهري " مُتَّكَا " مشدد التاء دون همزٍ وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكونَ أصلُه مُتَّكأ كقراءة العامَّة وإنما خُفِّفَ همزُه كقولهم تَوَضَّيْتُ في تَوَضَّأْتُ ، فصار بزنة مُتَّقَى . والثاني : أن يكونَ مُفْتَعَلاً مِنْ أَوْكَيْتُ القِرْبة إذا شَدَدْتَ فاها بالوِكاء ، فالمعنى : أَعْتَدَتْ شيئاً يَشْتَدِدْن عليه : إمَّا بالاتِّكاء وإمَّا بالقطع بالسكين ، وهذا الثاني تخريج أبي الفتح . وقرأ الحسن وابن هرمز " مُتَّكاءً " بالتشديد والمدِّ ، وهي كقراءةِ العامَّة إلا أنه أشبع الفتحة فتولَّد منها ألفٌ كقوله : @ 2772 ـ … ومِنْ ذَمِّ الرجالِ بمنتزاحِ @@ وقوله : @ 2773 يَنْباع مِنْ ذِفْرَىٰ غَضُوبٍ جَسْرَةٍ … @@ وقوله : @ 2774 أَعوذُ باللَّه مِنَ العَقْرابِ الشَّائِلاتِ عُقَدَ الأَذْنابِ @@ أي : بمنتزح ويَنْبَع والعقرب الشائلة . وقرأ ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة / والضحاك والجحدري وأبان بن تغلب " مُتْكَاً " بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف ، وكذلك قرأ ابن هرمز وعبد اللَّه ومعاذ ، إلا أنهما فتحا الميم . والمُتْكُ بالضم والفتح الأُتْرُجُّ ، ويقال الأُتْرُنْجُ لغتان ، وأنشدوا : @ 2775 فَأَهْدَتْ مُتْكَةً لبني أبيها تَخُبُّ بها العَثَمْثَمَةُ الوَقاحُ @@ وقيل : بل هو اسم لجميع ما يُقطع بالسكين كالأُتْرُجِّ وغيره من الفواكه ، ونشدوا : @ 2776 نَشْرَبُ الإِثمَ بالصُّواعِ جِهاراً وترىٰ المُتْكَ بيننا مُسْتعارا @@ قيل : وهو مِنْ مَتَك بمعنىٰ بَتَك الشيءَ ، أي : قطعه ، فعلى هذا يحتمل أن تكونَ الميم بدلاً من الباء وهو بدل مُطَّرد في لغة قومٍ ، واحتُمِل أن يكونَ من مادةٍ أخرىٰ وافَقَتْ هذه . وقيل : بالضم العسلُ الخالص عند الخليل ، والأُتْرُجُّ عند الأصمعي . ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث ، أعني ضمَّ الميمِ وفتحَها وكسرَها قال : وهو الشرابُ الخالص . وقال المفضل : هو بالضم المائدة ، أو الخمر في لغة كِنْدة . وقوله : { لَهُنَّ مُتَّكَئاً } : إمَّا أَنْ يريدَ كل واحدةٍ مُتَّكَأً ، ويَدُلُّ له قوله : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ، وإمَّا أن يريدَ الجنس . والسِّكِّين يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ ، قاله الكسائي والفراء ، وأنكر الأصمعي تأنيثه . والسَّكِينة فَعِيلة من السكون . وقال الراغب : " سُمِّي به لإِزالتهِ حركةَ المذبوح " . قوله : { أَكْبَرْنَهُ } الظاهر أن الهاء ضمير يوسف . ومعنى أَكْبَرْنَه عَظَّمْنه ودُهِشْن مِنْ حُسْنه . وقيل : هي هاء السكت . قال الزمخشري : " وقيل : أَكْبَرْنَ بمعنى " حِضْنَ " والهاء للسكت ، يقال : أَكْبَرَتِ المرأةُ إذا حاضَتْ ، وحقيقتُه : دَخَلَتْ في الكِبَر ؛ لأنها بالحيض تخرُجُ مِنْ حَدِّ الصِّغَرِ إلى الكِبَرِ ، وكأنَّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قولَه : @ 2777 خَفِ اللَّهَ واسْتُرْ ذا الجمالَ ببُرْقُعٍ فإنْ لُحْتَ حاضَتْ في الخُدورِ العواتِقُ @@ انتهىٰ . وكونُ الهاء للسكتِ يَرُدُّه ضمُّ الهاءِ ، ولو كانت للسكت لَسَكَنَتْ وقد يقال : إنه أَجْراها مُجْرى هاء الضمير ، وأَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقف في إثباتها . قال الشيخ : " وإجماعُ القَّراء على ضمِّ الهاء في الوصل دليلٌ على أنها ليسَتْ هاءَ السكت ؛ إذ لو كانت هاءَ السكت وكان من إجراء الوصلِ مُجْرى الوقفِ لم يضمَّ الهاء " . قلت : وهاء السكت تُحَرَّك بحركةِ هاءِ الضمير إجراءً لها مُجْراها ، وقد حَقَّقْتُ هذا في الأنعام ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبي أيضاً : @ 2778 واحَرَّ قلباه مِمِّنْ قَلْبُه شَبِمُ … @@ فإنه رُوِي بضمِّ الهاء في " قلبها " وجعلوها هاءَ سكتٍ . ويمكن أن يكون " أَكْبَرْنَ " بمعنىٰ حِضْنَ ولا تكون الهاءُ للسَّكْت ، بل تُجْعل ضميرَ المصدرِ المدلولِ عليه بفعله أي : أَكْبَرْنَ الإِكبار ، وأنشدوا على أن الإِكبارَ بمعنى الحيض قولَه : @ 2779 يأتي النساءَ على أَطْهارِهِنَّ ولا يأتي النساءَ إذا أَكْبَرْن إكبارا @@ قال الطبري : " البيت مصنوعٌ " . قوله : { حَاشَ للَّهِ } " حاشىٰ " عَدَّها النحويون من الأدوات المترددةِ بين الحرفية والفعلية فإنْ جَرَّتْ فهي حرفٌ ، وإنْ نَصَبَتْ فهي فعلٌ ، وهي من أدواتِ الاستثناء ولم يَعْرف سيبويه فعليَّتها وعَرَفَها غيرُه ، وحَكَوا عن العرب " غَفَر اللَّه لي ولِمنْ سمع دعائي حاشىٰ الشيطانَ وابنَ الأصبغ " بالنصب ، وأنشدوا : @ 2780 حَشَىٰ رَهْطَ النبيِّ فإنَّ منهمْ بُحوراً لا تكدِّرُها الدِّلاءُ @@ بنصب " رَهْط " . و " حَشَىٰ " لغةٌ في حاشىٰ كما سيأتي . وقال الزمخشري : " حاشَىٰ كلمةٌ تفيد التنزيه في باب الاستثناء تقول : أساءَ القومُ حاشى زيدٍ قال : @ 2781 حاشىٰ أبي ثوبانَ إنَّ بهِ ضِنَّاً عنِ المَلْحاة والشَّتْم @@ وهي حرفٌ من حروف الجر فوُضِعَتْ موضعَ التنزيه والبراءة ، فمعنى حاشَىٰ اللَّهِ : براءة اللَّهِ وتنزيه اللَّه ، وهي قراءة ابن مسعود " . قال الشيخ : " وما ذكر أنها تفيد التنزيهَ في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين ، لا فرقَ بين قولك : " قام القومُ إلا زيداً " و " قام القوم حاشى زيدٍ " ، ولَمَّا مَثَّل بقوله : " أساء القومُ حاشى زيدٍ " وفَهِم هو من هذا التمثيلِ براءةَ زيدٍ من الإِساءة جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ ، وأمَّا ما أنشده مِنْ قوله : حاشا أبي ثوبان ، فهكذا ينشده ابن عطية وأكثرُ النحاة ، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدرَ بيتٍ على عجز آخَرَ وَهْماً من بيتين ، وهما : / @ 2782 حاشىٰ أبي ثَوْبان إنَّ أبا ثَوْبانَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمِ عمرَو بنَ عبدِ اللَّه إنَّ به ضِنَّاً عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ @@ قلت : قوله " إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشري لا يعرفه النحاة لم ينكروه وإنما لم يذكروه في كتبهم ؛ لأنهم غالبُ فنهم في صناعة الألفاظ دون المعاني ، ولمَّا ذكروا مع أدواتِ الاستثناء " ليس " و " لا يكون " و " غير " لم يذكروا معانيهَا ، إذ مرادُهم مساواتُها لـ " إلا " في الإِخراج وذلك لا يمنعُ من زيادةِ معنىٰ في تلك الأدوات . وزعم المبرد وغيره كابن عطية أنها تتعيَّنُ فعليَّتُها إذا وقع بعدها حرفُ جر كالآية الكريمة ، قالوا لأن حرفَ الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً كقوله : @ 2783 ـ … ولا لِلِما بهم أبداً دواءُ @@ وقول الآخر : @ 2784 فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به … @@ فتعيَّن أن تكونَ فعلاً ، فاعلُه ضمير يوسف أي : حاشى يوسف ، و " للَّه " جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بالفعل قبله ، واللامُ تفيد العلةَ أي : حاشىٰ يوسفَ أن يقارِفَ ما رَمَتْه به لطاعة اللَّه ولمكانه منه أو لترفيع اللَّه أن يُرمَىٰ بما رَمَتْه به ، أي : جانَبَ المعصيةَ لأجل اللَّه . وأجاب الناسُ عن ذلك بأنَّ حاشى في الآية الكريمة ليست حرفاً ولا فعلاً ، وإنما هي اسمُ مصدرٍ بدلٌ من اللفظة بفعله كأنه قيل : تنزيهاً للَّه وبراءةً له ، وإنما لم يُنَوَّنْ مراعاةً لأصله الذي نُقِل منه وهو الحرف ، ألا تراهم قالوا : مِنْ عن يمينه فجعلوا " عن " اسماً ولم يُعْربوه ، وقالوا " مِنْ عليه " فلم يُثْبتوا ألفه مع المضمر ، بل أَبْقَوا " عن " على بنائه ، وقلبوا ألف " على " مع المضمر ، مراعاةً لأصلها ، كذا أجاب الزمخشري ، وتابعه الشيخُ ولم يَعْزُ له الجواب . وفيه نظر . أمَّا قوله : " مراعاة لأصله " فيقتضي أنه نُقِل من الحرفية إلى الاسمية ، وليس ذلك إلا في جانب الأعلام ، يعني أنهم يُسَمُّون الشخصَ بالحرف ، ولهم في ذلك مذهبان : الإِعرابُ والحكاية ، أمَّا أنَّهم ينقلون الحرف إلى الاسم ، أي : يجعلونه اسماً فهذا غيرُ معروفٍ . وأمَّا استشهادُه بـ " عن " و " على " فلا يفيده ذلك ؛ لأنَّ " عن " حالَ كونِها اسماً إنما بُنيت لشبهها بالحرفِ في الوضع على حرفين لا أنها باقيةٌ على بنائها . وأمَّا قَلْبُ ألفِ " علىٰ " مع الضمير فلا دلالة فيه لأنَّا عَهدنا ذلك فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق كـ " لدىٰ " . والأَوْلى أن يقال : الذي يظهر في الجواب عن قراءةِ العامة أنها اسمُ منصوبٌ كما تقدَّم تقريره ، ويدلُّ عليه قراءة أبي السمَّال " حاشاً للَّه " منصوباً ، ولكنهم أَبْدلوا التنوين ألفاً كما يبدلونه في الوقف ، ثم إنهم أَجْروا الوصل مجرى الوقف كما فعلوا ذلك في مواضعَ كثيرةٍ تقدَّم منها جملةٌ وسيمر بك مثلها . وقيل في الجواب عن ذلك : بل بُنيت " حاشا " في حال اسميتها لشبهها بـ " حاشا " في حال حرفيَّتها لفظاً ومعنىٰ ، كما بُنِيَتْ " عن " و " على " لما ذكرنا . وقال بعضُهم : إنَّ اللامَ زائدةٌ . وهذا ضعيفٌ جداً بابُه الشعرُ . واسْتَدَلَّ المبرد وأتباعُه على فعليتها بمجيء المضارعِ منها . قال النابغة الذبياني : @ 2785 ولا أَرىٰ فاعِلاً في الناسِ يُشْبِهُهُ ولا أُحاشي من الأقوامِ مِنْ أَحَدِ @@ قالوا : وتَصَرُّفُ الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل دليلُ فعليَّتها لا محالةَ . وقد أجاب الجمهور عن ذلك : بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظِ الحرفِ كما قالوا : " سَوَّفْتُ بزيد " و " لَوْلَيْت له " ، أي : قلت له : سوف أفعلُ . وقلت له : لو كان ولو كان ، وهذا من ذلك ، وهو محتمل . وممَّن رَجَّح جانبَ الفعلية أبو علي الفارسي قال : " لا تَخْلو " حاش " في قوله : " حاش للَّه " من أن تكونَ الحرفَ الجارَّ في الاستثناء ، أو تكون فعلاً على فاعَل ، ولا يجوز أن تكونَ الحرفَ الجارَّ لأنه لا يدخل على مثله ، ولأن الحروفَ لا يُحْذَفُ منها إذ لم يكن فيها تضعيف ، فثبت أنه فاعَل مِن الحشا الذي يُراد به الناحية ، والمعنى : أنه صار في حَشَاً ، أي في ناحية ، وفاعل " حاش " " يوسف " والتقدير : بَعُدَ من هذا الأمرِ للَّه ، أي : لخوفِه " . قوله : " حرفُ الجر لا يدخل على مثله " مُسَلَّم ، ولكن ليس هو هنا حرفَ جر كما تقدَّم تقريرُه . وقوله : " لا يُحْذف من الحرفِ إلا إذا كان مضعفاً " ممنوع ، ويدلُّ له قولهم " مُنْ " في " منذ " إذا جُرَّ بها ، فحذفوا عينها ولا تضعيفَ . قالوا : ويدلُّ على أنَّ أصلَها " منذ " بالنون تصغيرُها على " مُنَيْذ " وهذا مقرَّر في بابه . وقرأ أبو عمرو وحده " حاشىٰ " بألفين : ألفٍ بعد الحاء ، وألف بعد الشين في كلمتي هذه السورة وصلاً ، وبحذفها وقفاً إتباعاً للرسم كما سننبِّه عليه . والباقون بحذف الألفِ الأخيرةِ وصلاً ووقفاً . فأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فإنه جاء فيها بالكلمة على أصلها . وأمَّا الباقون فإنهم اتَّبعوا في ذلك الرسمَ ولمَّا طال اللفظ حَسُن تخفيفُه بالحذف ولا سيما على قول مَنْ يَدَّعي فعليَّتَها ، كالفارسي . قال الفارسي : " وأمَّا حذفُ الألف فعلى " لم يَكُ " و " لا أَدْرِ " و " أصاب الناسَ جُهْدٌ ، ولَوْ تَرَ أهلَ مكة " ، و [ قوله ] : @ 2786 وصَّانيَ العجَّاجُ فيما وَصَّني / @@ في شعر رؤبة ، يريد : لم يكن ، ولا أدري ، ولو ترىٰ ، ووصَّاني . وقال أبو عبيد : " رأيتُها في الذي يقال : إنه الإِمام مصحف عثمان رضي اللَّه عنه : " حاش للَّه " بغير ألف ، والأخرى " مثلُها " . وحكى الكسائي أنها رآها في مصحف عبد اللَّه كذلك ، قالوا : فعلى ما قال أبو عبيد والكسائي تُرَجَّح هذه القراءةُ ، ولأنَّ عليها ستةً من السبعة ، ونقل الفراء أن الإِتمامَ لغةُ بعض العرب ، والحذفُ لغة أهل الحجاز قال : " ومِنْ العرب من يقول : " حَشَىٰ زيد " أراد حشىٰ لزيد " . فقد نقل الفراءُ أن اللغاتِ الثلاثَ مسموعةٌ ، ولكنَّ لغةَ الحجازِ مُرَجَّحَةٌ عندهم . وقرأ الأعمش في طائفة " حَشَىٰ للَّه " بحذف الألفين وقد تقدَّم أن الفراء حكاها لغةً عن بعض العرب ، وعليه قوله : @ 2787 حَشَىٰ رَهْطِ النبيِّ … … @@ البيت . وقرأ أُبَي وعبد اللَّه " حاشىٰ اللَّهِ " بجرِّ الجلالة ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن تكونَ اسماً مضافاً للجلالة [ نحو : " سبحان اللَّه " وهو اختيارُ الزمخشري . الثاني : أنه حرفُ استثناء جُرَّ به ما بعده ، وإليه ذهب الفارسي ، ] وفي جَعْلِهِ " حاشى " حرفَ جرٍّ مُراداً به الاستثناءُ نظرٌ ، إذ لم يتقدَّم في الكلام شيءٌ يُستثنىٰ منه الاسمُ المعظَّم بخلافِ " قام القومُ حاشىٰ زيد " . واعلمْ أنَّ النحويين لمَّا ذكروا هذا الحرفَ جعلوه من المتردد بين الفعلية والحرفية ، عند مَنْ أثبتَ فعليَّتَه ، وجعله في ذلك كخلا وعدا ، عند مَنْ أثبت حرفيَّة " عدا " ، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسميةِ والفعلية والحرفية ، كما فعلوا ذلك في " على " فقالوا : يكون حرف جر في " عليك " ، واسماً في قوله : " مِنْ عليه " ، وفعلاً في قوله : @ 2788 عَلاَ زيدُنا يومَ النَّقا … … @@ وإن كان فيه نظرٌ ذكرتُه مستوفىً في غير هذا المكان ، ملخصُه أن " على " حالَ كونها فعلاً غير " على " حال كونها غيرَ فعل ، بدليل أنَّ ألف الفعلية منقلبة عن واو ، ويدخلها التصريف والاشتقاق دون ذَيْنَكَ . وقد يتعلَّق مَنْ ينتصر للفارسي بهذا فيقول : لو كانت " حاشىٰ " في قراءة العامَّة اسماً لذكر ذلك النحويون عند تردُّدِها بين الحرفية والفعلية ، فلمَّا لم يذكروه دَلَّ على عدمِ اسميتها . وقرأ الحسن " حاشْ " بسكون الشين وصلاً ووقفاً كأنه أجرىٰ الوصلَ مُجْرَىٰ الوقف . ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ : " حاشىٰ الإِله " قال : " محذوفاً مِنْ حاشىٰ " يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرة ، ويدلُّ على ذلك ما صرَّح به صاحب " اللوامح " فإنه قال : " بحذف الألف " ثم قال : وهذا يدلُّ على أنه حرفُ جرٍ يَجُرُّ ما بعده ، فأما " الإِله " فإنه فكَّه عن الإِدغامِ ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام المفعول ، ومعناه المعبود ، وحُذِفت الألف من " حاشىٰ " للتخفيف " قال الشيخ : " وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحبُ " اللوامح " من أنَّ الألف في " حاشىٰ " في قراءة الحسن محذوفةُ الألف لا يتعيَّنُ ، إلا إنْ نَقَل عنه أنه يقف في هذه القراءةِ بسكون الشين ، فإن لم يُنْقَلْ عنه في ذلك شيءٌ فاحتمل أن تكونَ الألفُ حُذِفت لالتقاء الساكنين ؛ إذا الأصلُ : " حاشى الإِله " ثم نَقَل فحذف الهمزة وحَرَّك اللام بحركتها ، ولم يَعْتَدَّ بهذا التحريك لأنه عارض ، كما تنحذف في " يَخْشى الإِله " ، ولو اعتدَّ بالحركة لم تُحْذف الألف " . قلت : الظاهر أن الحسنَ يقف في هذه القراءة بسكون الشين ، ويُسْتأنس له بأنه سكَّن الشين في الرواية الأخرىٰ عنه ، فلمَّا جِيءَ بشيءٍ يُحْتَمَلُ ينبغي أن يُحْمَلَ على ما صُرِّح به . وقول صاحب " اللوامح " : " وهذا يدلُّ على أنه حرف جر يُجَرُّ به ما بعده " لا يصحُّ لِما تقدم مِنْ أنه لو كان حرف جر لكان مستثنىٰ به ولم يتقدَّمْ ما يستثنىٰ منه بمجروره . واعلمْ أنَّ اللامَ الداخلةَ على الجلالة متعلقة بمحذوف على سبيل البيان ، كهي في " سقياً لك ورعياً لزيد " عند الجمهور ، وأمَّا عند المبرد والفارسي فإنها متعلقة بنفس " حاشى " لأنها فعلٌ صريحٌ عندهما ، وقد تقدم أن بعضَهم ادَّعىٰ زيادتَها . قوله : { مَا هَـٰذَا بَشَراً } العامَّة على إعمال " ما " على اللغة الحجازية ، وهي اللغة الفصحى ، ولغةُ تميم الإِهمالُ ، وقد تقدَّم تحقيق هذا أول البقرة وما أنشدتُه عليه من قوله : @ 2789 وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ … @@ البيتين . ونقل ابن عطية أنه لم يَقْرأ أحد إلا بلغة الحجاز . وقال الزمخشري : " ومَنْ قرأ على سليقته من بني تميم قرأ " بشرٌ " بالرفع وهي قراءةُ ابن مسعود " . قلت : فادِّعاء ابن عطية أنه لم يُقرأ به غير مُسَلَّم . وقرأ العامَّة " بَشَراً " بفتح الباء على أنها كلمة واحدة . وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي " بِشِرىٰ " بكسر الباء ، وهي باء الجر دخلت على " شِرى " فهما كلمتان جار ومجرور ، وفيها تأويلات ، أحدُهما : ما هذا بمشترى ، فوضع المصدرَ موضع المفعول به كضَرْب الأمير . الثاني : ما هذا بمُباعٍ ، فهو أيضاً مصدر واقع موقع المفعول به إلا أن المعنى يختلف . الثالث : ما هذا بثمن ، يَعْنِين أنه أَرْفَعُ مِنْ أنْ يُجْرىٰ عليه شيءٌ من هذه الأشياء . وروى عبد الوارث عن أبي عمرو كقراءة الحسن وأبي الحويرث إلا أنه قرأ عنه " إلا مَلِك " بكسر اللام واحد الملوك ، نَفَوا عنه ذُلَّ المماليك / وأثبتوا له عِزَّ الملوك . وذكر ابن عطية كسرَ اللام عن الحسن وأبي الحويرث . وقال أبو البقاء : " وعلى هذا قُرىء " مَلِك " بكسر اللام " كأنه فهم أنَّ مَنْ قرأ بكسر الياء قرأ بكسر اللام أيضاً للمناسبة بين المعنيين ، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءةَ مع كسر الباء البتة ، بل يُفهم من كلامِه أنه لم يَطَّلع عليها فإنه قال : " وقرىء ، ما هذا بشرىٰ أي ما هو بعبدٍ مملوكٍ لئيم ، إنْ هذا إلا مَلَك كريم ، تقول : " هذا بشرىٰ " أي : حاصلٌ بشِرىٰ بمعنى يُشْتَرَىٰ ، وتقول : هذا لك بِشِرىٰ أم بِكِرا ؟ والقراءةُ هي الأَوْلى لموافقتها المصحف ومطابقة " بشر " لـ " ملك " . قوله : " لموافقتها المصحفَ " يعني أنَّ الرسم " بشراً " بالألف لا بالياء ، ولو كان المعنى على " بِشِرىٰ " لَرُسِمَ بالياء . وقوله : " ومطابقة " دليلُ على أنه لم يَطَّلِعْ على كسر اللام عن مَنْ قرأ بكسر الباء .