Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 66-66)

Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { نُّسْقِيكُمْ } : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مفسرةً للعِبْرة ، كأنه قيل : كيف العِبْرة ؟ فقيل : نُسْقيكم من بينِ فَرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً . ويجوز أن تكونَ خبراً لمبتدأ مضمر ، والجملةُ جوابٌ لذلك السؤالِ ، أي : هي ، أي : العِبْرَةُ نُسْقيكم ، ويكون كقولهم : تَسْمَعُ بالمُعْيدِيَّ خيرٌ من أَنْ تَراه " . وقرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر " نَسْقيكم " بفتح النون هنا وفي المؤمنين . والباقون بضمَّها فيهما . واختلف الناس : هل سَقَى وأَسْقى لغتان ، بمعنىً واحدٍ أم بينهما فرقٌ ؟ خلافٌ مشهور . فقيل : هما بمعنىً ، وأنشد جمعاً بين اللغتين : @ 2290 - سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى نُمَيْراً والقبائلَ من هلالِ @@ دعا للجميع بالسَّقْيِ والخِصْب . و " نُمَيْراً " هو المفعول الثاني : أي : ماءٌ نُمَيْراً . وقال أبو عبيد : " مَنْ سَقَى الشِّفَةِ : سَقَى فقط ، ومَنْ سقى الشجرَ والأرضَ . أَسْقَى ، وللداعي بالسُّقْيَا وغيرها : أَسْقَى فقط " . وقال الأزهري : " العربُ تقول ما كان من بطونِ الأنعام ، ومن السماء ، أو نهرٍ يجري ، أَسْقَيْتُ ، أي : جَعَلْتُ شِرْباً له وجَعَلْتُ له منه سُقْيَا ؟ ، فإذا كان للشَّفَة قالوا : سَقَى ، ولم يقولوا : أسقى " . وقال الفارسي : " سَقَيْتُه ختى رَوِيَ ، وأَسْقَيْتُه نهراً ، أي : جَعَلْتُه له شِرْباً " . وقيل " سَقاه إذا ناوله الإِناءَ ليشربَ منه ، ولا يُقال مِنْ هذا : أَسْقاه . وقرأ أبو رجاء " يُسْقِيْكم " بضمِّ الياء من أسفلَ وفي فاعلِه وجهان ، أحدُهما : هو الله تعالى ، الثاني : أنه ضميرُ النَّعَمِ المدلولُ عليه بالأنعامِ ، أي : نَعَماً يُجْعَلُ لكم سُقْيا . وقُرئ " تًسْقيكم " بفتح التاء من فوق . قال ابن عطية : " وهي ضعيفةٌ " . قال الشيخ : " وضَعْفُها عنده - والله أعلمُ - أنه أنَّثَ في " تِسْقِيْكم " ، وذَكَّر في قوله { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين " . قلت " وضَعْفُها عنده من حيث المعنى : وهو أنَّ المقصودَ الامتنانُ على الخَلْقِ فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام . قوله : { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } يجوز أن تكونَ " مِنْ " للتبعيض ، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية . وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً . قال الزمخشري : " ذكر سيبويه الأنعامَ في باب " ما لا ينصرف " في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم : ثوبٌ أَكْياش ، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً ، وأمَّا " في بطونها " في سورة المؤمنين فلانَّ معناه جمع . ويجوز أن يُقال في " الأنعام " وجهان ، أحدهما : أن يكون تكسير " نَعَم " كأَجْبال في جَبَل ، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [ كَنَعم ] ، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ " نَعَم " في قوله : @ 2991 - في كل عام نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ يَلْقِحُه قومٌ وتَنْتِجُونَهْ @@ وإذا أُنِّثَ ففيه وجهان : أنه تكسير " نَعَم " ، وأنَّه في معنى الجمع " . قال الشيخ : أمَّا ما ذَكَره عن سيبويه ففي كتابه في : " هذا بابُ ما كان مِثال مَفاعِل ومفاعِيل ما نصُّه : " وأمَّا أَجْمال وفُلُوس فإنها تَنْصَرِفُ وما أشبهها ؛ لأنها ضارَعَتْ الواحد / ألا ترى أنك تقول : أَقْوال وأقاويل ، وأعراب وأعاريب وأَيْدٍ وأيادٍ ، فهذه الأحرفُ تَخْرُج إلى مثال مفاعِل ومفاعيل ، كما يَخْرُج إليه الواحد إذا كُسِّر للجمع . وأمَّا مَفاعِل ومَفاعيل فلا يُكسَّرُ ، فلا يَخْرُجُ الجمعُ إلى بناءٍ غيرِ هذا ؛ لأن هذا البناءَ هو الغايةُ ، فلمَّا ضارَعَتِ الواحدَ صُرِفَتْ " . ثم قال : " وكذلك الفُعُوْل لو كَسَّرْتَ مثل الفُلوس لأَنْ تُجْمَعَ جميعاً لأَخْرَجَتْه إلى فَعَائِل ، كما تقول : جَدُود وجَدائد ورَكوب وركائب ، ولو فَعَلْتَ ذلك بِمَفاعِل ومَفاعيل لم تجاوِزْ هذا البناءَ ، ويُقَوِّي ذلك أنَّ بعضَ العربِ يقول : أُتِيَّ فَيَضُمُّ الألفَ . وأمَّا أفْعَال فقد يقع للواحد ، مِنَ العرب مَنْ يقول : هو الأنعام : قال الله عز وجل { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } . وقال أبو الخطاب : " سَمِعْت مِنَ العرب مَنْ يقول : هذا ثوبٌ أكياش " . قال : " والذي ذكر سيبويهِ هو الفرق بين مَفاعِل ومفاعِيل وبين أفعال وفُعول ، وإن كان الجميعُ أبنيةً للجمع من حيث إنَّ مفاعِل ومفاعِيل لا يُجْمعان وأَفْعالاً وفُعولاً قد يَخْرُجان إلى بناءٍ يُشبِه مَفَاعِل أو مفاعيل ، فلمّا كانا قد يَخْرُجان إلى ذلك انصرفا ، ولم يَنصَرِفْ مَفَاعِل ومفاعيل لشِبْه ذَيْنك بالمفردِ ؛ من حيث إنه يمكن جمعُها وامتناعُ هذين من الجمع ، ثم قَوِيَ شَبَهُهما بالمفرد بأنَّ بعض العرب يقول في أُتِيّ : " أُتِيّ " بضمِّ الهمزة ، يعني أنه قد جاءَ نادراً فُعول من غير المصدرِ للمفرد ، وبأنَّ بعضَ العربِ قد يُوْقعُ أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضميرَ فيقول : " هو الأنعامُ " ، وإنما يعني أنَّ ذلك على سبيل المجاز ؛ لأن الأنعامَ في معنى النَّعَم ، والنَّعَمُ مفردٌ كما قال : @ 2992 - تَرَكْنا الخيلَ والنَّعَمَ المُفَدَّى وقلنا للنساءِ بها أَقيمي @@ ولذلك قال سيبويه : " وأمَّا أَفْعال فقد يقع للواحد " فقوله " قد يقع للواحد " دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضْعِ ، فقولُ الزمخشري : " أنه ذكره في الأسماء المفردة على أَفْعال " تحريفٌ في اللفظ ، وفَهِمَ عن سيبويه ما لم يُرِدْه . ويَدُلُّ على ما قلناه أنَّ سيبويه حيث ذَكَرَ أبنيةَ الأسماء المفردةِ نَصَّ على أنَّ أَفْعالاً ليس من أبنيتها . قال سيبويه في باب ما لحقته الزيادةُ من بنات الثلاثة : " وليس في الكلام أُفْعِيل ولا أَفْعَوْل ولا أُفْعال ولا أَفْعِيْل ولا أَفْعال ، إلا أن تُكَسَّرَ عليه اسماً للجمع " . قال : " فهذا نصُّ منه على أنَّ أَفْعالاً لا يكون في الأسماء المفردة " . قلتُ : الذي ذكره الزمخشريُّ هو ظاهرُ عبارةِ سيبويه وهو كافٍ في تسويغ عَوْد الضمير مفرداً ، وإن كان أَفْعال قد يقع موقعَ الواحد مجازاً فإنَّ ذلك ليس بضائرٍ فيما نحن بصددِه ، ولم يُحَرِّفْ لفظَه ، ولم يَفْهَمْ عنه غيرَ مرادِه ، لِما ذكرْتُه من هذا المعنى الذي قَصَدَه . وقيل : إنما ذَكَّر الضميرَ لأنه يعودُ على البعض وهو الإِناث ؛ لأنَّ الذكورَ لا أَلْبانَ لها ، فكأنَّ العِبْرَة هي بعض الأنعام . وقال الكسائي : " أي في بطونِ ما ذَكَرَ " . قال المبرد : " وهذا شائعٌ في القرآن ، قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ عبس : 11ـ12 ] ، أي : ذَكَر هذا الشيءَ . وقال تعالى : { فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي } [ الأنعام : 78 ] ، أي : هذا الشيءُ الطالعُ ، ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازيِّ ، لا يجوز : جاريتُك ذهب " . قلت : وعلى ذلك خُرِّج قوله : @ 2993 - فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ كأنه في الجِلدِ تَوْليْعُ البَهَقْ @@ أي : كأنَّ المذكورَ . وقيل : جمعُ التكسير فيما لا يُعْقَل يُعامَل معاملةَ الجماعةِ ومعاملةَ الجمع ، ففي هذه السورةِ اعتُبِر معنى الجمع ، وفي سورة المؤمنين اعتُبر معنى الجماعة ، ومن الأولِ قولُ الشاعر : / @ 2994 - مثل الفراخِ نُتِفَتْ حواصِلُهْ @@ وقيل : أنه يَسُدُّ مَسَدَّه واحدٌ يُفْهِم الجمعَ ، فإنه يَسُد مَسَدَّه " نَعَم " ، و " نَعَم " يُفْهِم الجمعَ ومثلُه قولُه : @ 2995 - وطابَ أَلْبانُ الِّلقاحِ وبَرَدْ @@ لأنه يَسُدُّ مَسَدَّها لَبَن ، ومثلُه قولهم " هو أحسنُ الفتيان وأجملُه " ، أي : أحسنُ فتىً ، إلا أن هذا لا ينقاس عند سييويه وأتباعِه . وذكر أبو البقاء ستةَ أوجهٍ ، تقدَّم منها في غضون ما ذكرْتُه خمسةٌ . والسادس : أنه يعود على الفحل ؛ لأن اللبن يكون مِنْ طَرْقِ الفحلِ الناقةَ ، فأصلُ اللبنِ [ ماءُ ] الفحلِ قال : " وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ اللبن وإن نُسِب إلى الفحلِ فقد جَمَعَ البطون ، وليس فحلُ الأنعام واحداً ولا للواحد بطونٌ . فإن قال : أراد الجنسَ فقد ذُكِر " . يعني أنه قد تقدَّم أن التذكيرَ باعتبارِ جنسِ الأنعام فلا حاجة إلى تقدير عَوْدِه على " فَحْل " المرادِ به الجنسُ . قلت : وهذا القولُ نقله مكي عن إسماعيل القاضي ولم يُعْقِبْه بنكير . قوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ } يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه متعلقٌ بالسَّقْي ، على أنها لابتداءِ الغاية ، فإن جَعَلْنا ما قبلها كذلك تَعَيَّن أن يكونَ مجرورُها بدلاً مِنْ مجرور " مِنْ " الأولى ؛ لئلا يتعلَّقَ عاملان متحدان لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحد وهو ممتنعٌ . وهو مِنْ بدلِ الاشتمالِ ؛ لأن المكانَ مشتمِلٌ على ما حَلَّ فيه . وإن جعلْتَها للتبعيض هان الأمرُ . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ " لَبَناً " ؛ إذْ لو تأخَّرَتْ لكانَتْ مع مجرورِها نعتاً له . قال الزمخشري : " وإنما تقدَّم لأنه موضعُ العِبْرة ، فهو قَمِنٌ بالتقديم " . الثالث : أنَّها مع مجرورِها حالٌ من الموصولِ قبلها . والفَرْث : فُضالةُ ما يَبْقى مِنَ العَلَفِ في الكِرْش ، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في المَعِيّ . ويقال : فَرَثَ كّبِدَه ، أي : فتَّتها ، وأَفْرث فلانٌ فلاناً : أوقعه في بَليَّةٍ تجري مجرى الفَرْث . قوله : " لَبَنا " هو المفعولُ الثاني لنُسْقي . وقرئ " سَيِّغاً " بتشديد الياء بزِنة " سَيِّد " ، وتصريفُه كتصريفِه . وخَفَّفه عيسى بن عمر نحو : مَيْت وهَيْن . ولا يجوز أن يكون فَعْلاً ؛ إذ كان يجب أن يكونَ " سَوْغاً " كقَوْل .