Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 183-184)
Tafsir: ad-Durr al-maṣūn fī ʿulūm al-kitāb al-maknūn
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } : " الصيامُ " مفعولُ لم يُسَمَّ فاعلُه وقُدِّم عليه هذه الفَضْلَةُ وإنْ كان الأصلُ تأخيرها عنه لأنَّ البداءة بذكرِ المكتوبِ عليه آكدُ مِنْ ذِكْر المكتوبِ لتعلُّق الكتب بِمَنْ يؤدِّي . والصيام : مصدرُ صام يصوم صوماً ، والأصلُ : صِواماً ، فَأُبْدِلَتْ الواوُ ياءٌ والصومُ مصدرٌ أيضاً ، وهذان البناءانِ - أعني فَعْل وفِعال - كثيران في كلِّ فعلٍ واويِّ العينِ صحيحِ اللامِ ، وقد جاء منه شيءٌ قليل على فُعول قالوا : غار غُووراً ، وإنما استكرهوه لاجتماعِ الواوَيْنِ / ، ولذلك هَمَزه بعضُهم فقال : الغُؤُور . والصيام لغةً الإِمساكُ عن الشيء مطلقاً ، ومنه : صامَتِ الريحُ : أمسكَتْ عن الهبوبِ ، والفرسُ : أَمْسَكَتْ عن العَدْوِ ، [ وقال ] : @ 835 خيلٌ صِيامُ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ تحتَ العَجاجِ وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجُما @@ وقال تعالى : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً } [ مريم : 26 ] أي : سكوتاً لقوله : { فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } . وصامَ النهارُ أي : اشتدَّ حَرَّه ، قال : @ 836 - حتى إذا صامَ النهارُ واعتَدَلْ ومالَ للشمسِ لُعابٌ فَنَزَلْ @@ كأنهم تَوَهَّموا ذلك الوقتَ إمساكَ الشمسِ عن المَسِيرِ . ومَصَامُ النجومِ : إمساكُها عن السيرِ ، قال امرؤ القيس : @ 837 كأنَّ الثُّرِيَّا عُلِّقَتْ في مَصامِها بأمراسِ كُتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ @@ قوله : { كَمَا كُتِبَ } فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّ محلَّها النصْب على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أي : كُتِبَ كَتْباً مثلَ ما كُتِبَ . الثاني : أنه في محلِّ حالٍ من المصدرِ المعرفةِ أي : كُتِبَ عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبِهاً ما كُتِبَ . و " ما " على هذين الوجهينِ مصدريةٌ . الثالث : أن يكون نعتاً لمصدرٍ من لفظِ الصيام ، أي : صوماً مثلَ ما كُتِبَ . فـ " ما " على هذا الوجه بمعنى الذي ، أي : صوماً مماثلاً للصومِ المكتوبِ على مَنْ قبلكم . و " صوماً " هنا مصدر مؤكِّد في المعنى ، لأنَّ الصيامَ بمعنى : أنْ تصُومُوا صوماً ، قاله أبو البقاء ، وفيه أنَّ المصدرَ المؤكِّد يُوصَفُ ، وقد تقدَّم مَنْعُه عندَ قولِهِ تعالى { بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 180 ] . وقال الشيخ - بعد أَنْ حكى هذا عن ابن عطية - " وهذا فيه بُعْدٌ ؛ لأنَّ تشبيهَ الصوم بالكتابةِ لا يصحُّ ، هذا إن كانت " ما " مصدريةً ، وأمّا إن كانت موصولةً ففيه أيضاً بُعْدٌ ؛ لأنَّ تشبيه الصومِ بالصومِ لا يَصِحُّ إلاَّ على تأويلٍ بعيدٍ " . الرابع : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " الصيام " ، وتكونُ " ما " موصولةً ، أي : مُشْبهاً الذي كُتِبَ . والعاملُ فيها " كُتِبَ " لأنه عاملٌ في صاحبِها . الخامس : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ لأنَّه صفةٌ للصيامِ ، وهذا مردودٌ بأنَّ الجارَّ والمجرورَ من قبيلَ النكرات والصيامُ معرفةٌ ، فكيف تُوصَفُ المعرفةُ بالنكرةِ ؟ وأجابَ أبو البقاء عن ذلك " بأنَّ الصيامَ غيرُ مُعَيَّنٍ " كأنه يعني أنَّ " أل " فيه للجنسِ والمعرَّفُ بأل الجنسيةِ عندهم قريبٌ من النكرةِ ، ولذلك جازَ أن تَعْتَبِرَ لفظة مرةً ومعناه أخرى ، قالوا : " أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدِرْهَمُ البيض " ومنه : @ 838 - ولقد أَمُرُّ على اللئيمَ يَسُبُّنِي فَمَضَيْتُ ثمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني @@ [ وقولُه تعالى : ] { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } [ يس : 37 ] وقد تقدَّم الكلامُ على مثلِ قولِه : { ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } كيف وُصِلَ الموصول بهذا ، والجوابُ عنه في قولِه : { خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] . قوله { أَيَّاماً } في نصبِه أربعةُ أوجه ، أظهرُها : أنه منصوبٌ بعاملٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه سياقُ الكلامِ تقديرُه : صوموا أياماً ، ويَحْتَمِلُ هذا النصبُ وجهين : إمَّا الظرفيةَ وإمَّا المفعولَ به اتساعاً . الثاني : أنه منصوبٌ بالصيام ، ولم يَذْكُرِ الزمخشري غيرَه ، ونَظَّرهُ بقولِكَ : " نَوَيْتُ الخروجَ يوم الجمعةِ " ، وهذا ليس بشيءٍ ، لأنَّه يلزُم الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِهِ بأجنبي ، وهو قولُه : " كما كُتِبَ " لأنه ليس معمولاً للمصدرِ على أيَّ تقديرٍ قَدَّرْتَه . فإنْ قِيل : يُجْعَل " كما كُتِبَ " صفةً للصيام ، وذلك على رأي مَنْ يُجِيزِ وَصْفَ المعرَّفِ بأل الجنسيةِ بما يَجْرِي مَجْرى النكرةِ فلا يكونُ أجنبياً . قيل : يَلْزُمُ مِنْ ذَلك وصفُ المصدرِ قبل ذِكْرِ معمولِهِ ، وهو ممتنعٌ . الثالث : أنه منصوبٌ بالصيام على أَنْ تقدِّر الكافَ نعتاً لمصدرٍ من الصيام ، كما قد قال به بعضُهم ، وإنْ كان ضعيفاً ، فيكونُ التقديرُ : " الصيام صوماً كما كُتِبَ " فجاز أن يَعْمل في " أياماً " " الصيامُ " لأنه إذ ذاك عاملٌ في " صوماً " الذي هو موصوفٌ بـ " كما كُتِبَ " فلا يقعُ الفصلُ بينهما بأجنبي بل بمعمولِ المصدرِ . الرابع : أن ينتصِبَ بكُتب : إمَّا على الظرف وإمَّا على المفعولِ به توسُّعاً ، وإليه نحا الفَراء وتَبِعَهُ أبو البقاء . قال الشيخ : " وكِلا القولينِ خطأٌ : أمَّا النصبُ على الظرفِ فإنه محلٌّ للفعل ، والكتابةُ ليست واقعةً في الأيامِ ، لكنْ متعلَّقُها هو الواقعُ في الأيام . وأمَّا النصبُ على المفعولِ اتِّساعاً فإنَّ ذلك مبنيٌّ على كونِهِ ظرفاً لكُتِبَ ، وقد تقدَّم أنه خطأ . و " معدوداتٍ " صفةٌ ، وجَمْعُ صفةِ ما لا يَعْقِل بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ نحو هذا ، وقولِه " جبال راسيات - وأيام معلوماتٌ " . قوله : { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان . و " أو " هنا للتنويع ، وعَدَلَ عن اسمِ الفاعلِ ، فلم يَقُلْ : " أو مسافراً " إشعاراً بالاستعلاءِ على السفرِ لما فيه من الاختيارِ بخلافِ المرضِ فإنه قَهْرِيٌّ . قوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } الجمهورُ على رفعِ " فَعِدَّةٌ " ، وفيه وجوهٌ أحدُها ، أنه مبتدأ والخبرُ محذوفٌ : إمَّا قبلَه تقديرُهُ : فعليه عِدَّةٌ ، أو بعدَه أي : فَعِدَّةٌ أمثلُ به . الثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : فالواجبُ عِدَّةٌ . الثالث : أن يرتفَع بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فتجزيه عِدَّةٌ . وقرىء : " فَعِدَّةً " نصباً بفعلٍ محذوف ، تقديره : فَلْيَصُمْ عِدَّةً . وكأن أبا البقاء لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة فإنه قال : " ولو قُرِىء بالنصبِ لكان مستقيماً " . ولا بدَّ من حذفِ مضافٍ تقديرُه : " فَصَوْمُ عدَّة " ومِنْ حَذْفِ جملةٍ بين الفعلينِ ليصحَّ الكلامُ تقديره : فأفْطَرَ فعدةٌ ، ونظيرُه : { أَنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ } [ الشعراء : 63 ] أي : فَضَرَبَ فانفلقَ . و " عدةٌ " بمعنى معدودةٌ كالطِّحْن والذِّبْح . ونَكَّر قوله " فَعِدَّةٌ " ولم يَقُل " فَعِدَّتُها " اتِّكالاً على المعنى . و " من أيامٍ " في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ القراءتين صفةُ لِعِدَّة . قوله : { أُخَرَ } صفةٌ لأيَّامٍ . و " أُخَرُ " على ضَرْبَيْن ، ضربٍ : جَمْعُ " أخرى " تأنيثِ " آخَر " الذي هو أَفْعَلُ تفضيلٍ . وضَرْبٍ جمعُ أُخْرى بمعنى آخِرة ، تأنيث : " آخِر " المقابِل لأوَّل ، ومنه قولُه تعالى : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } [ الأعراف : 49 ] . فالضربُ الأولُ لا يَنْصَرِفُ ، والعلةُ المانعةُ له من الصرفِ : الوصفُ والعَدْلُ . واختلف النحويون في كيفيةِ العَدْلِ ، فقال الجمهورُ : إنه عَدْلٌ عن الألفِ واللامِ ، وذلك أن " أُخَر " جمع أُخْرى ، وأُخْرَى تأنيث " آخَر " وآخَرُ أَفعَلُ تفضيلٍ ، وأفعلُ التفضيل لا يخلو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالات : إمَّا مع أل وإمَّا مع " مِنْ " وإمَّا مع الإِضافة . لكنَّ " مِنْ ممتنعةٌ لأنَّها معها يَلْزَمُ الإِفرادُ والتذكير ، ولا إضافة / في اللفظِ ، فَقَدَّرْنَا عَدْلَه عن الألفِ واللامِ ، وهذا كما قالوا في " سَحَر " إنه عَدْلٌ عن الألفِ واللامِ إلاَّ أنَّ هذا مع العَلَمِيَّةِ . ومذهبُ سيبويه أنه عَدْلٌ من صيغةً إلى صيغة لأنه كان حقُّ الكلام في قولك : " مررت بنسوة أُخَرَ " على وزن فُعَل أن يكونَ " بنسوة آخَرَ " على وزن أَفْعَل لأنَّ المعنى على تقديرِ مِنْ ، فَعُدِلَ عن المفردِ إلى الجمع . ولتحقيقِ المذهبين موضعٌ هو أليقُ به من هذا . وأما الضَّرْب الثاني فهو مُنْصَرِفٌ لِفُقْدَانِ العلةِ المذكورةِ . والفرقُ بين " أُخْرَى " التي للتفضيل و " أُخرى " التي بمعنى متأخرة أنَّ معنى التي للتفضيلِ معنى " غير " ومعنى تَيْكَ معنى متأخرة ، ولكونِ الأولى بمعنى " غير " لا يجوزُ أن يكونَ ما اتصل بها إلا مِنْ جنسِ ما قبلَها نحو : " مررتُ بك وبرجلٍ آخرَ " ولا يجوزُ : اشتريت هذا الجَمَل وفرساً آخرَ لأنه من غيرِ الجنس . وأمَّا قوله : @ 839 صَلَّى على عَزَّةَ الرحمانُ وابنتِها ليلى وصَلَّى على جاراتِها الأُخَرِ @@ فإنه جعل ابنتَها جارةً لها ، ولولا ذلك لم يَجُزْ . ومعنا التفضيل في آخَر وأوَّل وما تصرَّف منهما قلقٌ ، وتحقيقُ ذلك في كتبِ النحوِ ، وقد بَيَّنْتُ ذلك في " شرح التسهيل " فَلْيُلتفت إليه . وإنَّما وُصِفَت الأيام بـ " أُخَر " من حيث إنها جَمْعُ ما لا يَعْقِلُ ، وجَمْعُ ما لا يَعْقِلُ يجوزُ أن يعامَلَ معاملَةَ الواحدَةِ المؤنثةِ ومعاملةَ جَمْعِ الإِناث ، فَمِن الأولِ : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [ طه : 18 ] ، ومِنْ الثاني هذه الآيةُ ونظائرها ، وإنما أُوثِرَ هنا معاملتُه معاملَةَ الجَمْعِ لأنه لو جِيءَ به مُفْرَداً فقيل : عِدَّةٌ من أيامٍ أخرى لأوْهَمَ أنه وصفٌ لعِدَّة فيفوتُ المقصودُ . قوله : { يُطِيقُونَهُ } الجمهورُ على " يُطِيقُونه " من أطاق يُطِيق ، مثل أَقامَ يُقيم . وقَرَأَ حُميد : " يُطْوِقُونه " من أَطْوقَ ، كقولهم : أَطْوَلَ في أَطال ، وأَغْوَلَ في أَغال ، وهذا تصحيحٌ شاذ ، ومثله في الشذوذ من ذواتِ الواو : أَجْوَدَ بمعنى أجاد ، ومِنْ ذوات الياء : أَغْيَمتِ السماءُ وأَجْيَلَت ، وأَغْيَلَتِ المرأة ، وأَطْيَبَت ، وقد جاء الإِعلال في الكلِ وهو القياسُ ، ولم يَقُلْ بقياسِ نحو : " أَغْيَمَت " و " أطْوَل " إلا أبو زيد . وقرأ ابن عباس وابن مسعود : " يُطَوَّقونه " مبنياً للمفعول من طَوَّق مضعفاً على وزنِ قَطَّع . وقرأت عائشة وابن دينار : " يَطَّوَّقُونَه " بتشديد الطاء والواو من أَطْوَقَ ، وأصلُه تَطَوَّق ، فَلَمَّا أُريد إدغامُ التاءِ في الطاء قُلِبَتْ طاءً ، واجْتُلِبَتِ همزةُ الوصل لتمكُّنِ الابتداءِ بالساكن ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في قولِه : { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] . وقرأ عكرمة وطائفةٌ : " يَطَّيَّقونُه " بفتحِ الياء وتَشْدِيد الطاء والياء ، وتُرْوى عن مجاهدٍ أيضاً . وقُرىء أيضاً هكذا لكن ببناءِ الفعل للمفعول . وقد رَدَّ بعضُ الناسِ هذه القراءةَ . وقال ابن عطية : " تشديدُ الياء في هذه اللفظةِ ضعيفٌ " وإنما قالوا بِبُطْلاَنِ هذه القراءةِ لأنها عندهم من ذوات الواوِ وهو الطَّوْق ، فمن أين تَجِيءُ الياءُ ؟ وهذه القراءةُ ليست باطلةً ولا ضعيفةً ، ولها تخريجٌ حسنٌ : وهو أنَّ هذه القراءةَ ليست مِنْ تَفَعَّل حتى يلزمَ ما قالوه من الإشكال ، وإنما هي من تَفَيْعَل ، والأصلُ : تَطَيْوَق من الطَّوْقِ ، كتَدَيَّر وتَحَيَّر من الدَّوَران ، والحَوْر ، والأصلُ : تَدَيْوَر وتَحَيْوَرَ ، فاجتمعت الياءُ والواوُ ، وسبقت إحداهما بالسكونِ فقُلِبَت الواوُ ياءً ، وأُدْغِمَت الياءُ في الياءِ ، فكان الأصلُ : يَتَطَيْوَقُونه ، ثم أُدْغِمَ بعد القلبِ ، فَمَنْ قَرَأَه " يَطَّيَّقونه " بفتح الياءِ بناه للفاعل ، ومَنْ ضَمَّها بَناه للمفعول . وتَحْتَمِل قراءةُ التشديد في الواوِ أو الياءِ أن تكونَ للتكلفِ ، أي : يتكلَّفون إطاقَتَه ، وذلك مجازٌ من الطَّوْقِ الذي هو القِلاَدَةُ ، كأنه بمنزلةِ القِلادَةِ في أَعْنَاقِهِم . وأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أنَّ " لا " محذوفةٌ قبلَ " يُطِيقُونَه " وأنَّ التقديرَ : " لا يُطيقونه " ونَظَّره بقولِهِ : @ 840 فحالِفْ فلا واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً من الأرضِ إلا أنت للذلِّ عارِفُ @@ وقوله : @ 841 آليتُ أمدحُ مُغْرَما أبداً يَبْقى المديحُ وَيذْهَبُ الرِّفْدُ @@ وقوله : @ 842 فقلتُ يمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قاعِداً ولو قَطَعوا رأسي لديك وأَوْصَالي @@ المعنى : لا تهبط ولا أمدح ولا أبرحُ . وهذا ليس بشيء ، لأنَّ حَذْفَهَا مُلْبِسٌ ، وأمَّا الأبيات المذكورةٌ فلدلالةِ القَسَمِ على النفي . والهاءُ في " يُطِيقُونَه " للصومِ ، وقيل : للفِداءِ ، قاله الفراء . و " فِدْيَةٌ " مبتدأٌ ، خبرُهُ في الجارِّ قبلَه . والجماعةُ على تنوينِ " فِدْيَة " ورفع " طعام " وتوحيدِ " مسكين " وهشامٌ كذلك إلاَّ أنه قرأ : " مساكين " جمعاً ، ونافع وابنُ ذكوان بإضافة " فدية " إلى " طعام مساكين " جمعاً . فالقراءةُ الأولى يكونُ " طعام " بدلاً من " فِدْية " بَيَّن بهذا البدلِ المرادَ بالفدية ، وأجازَ أبو البقاء أن يكونَ خبرَ مبتدأٍ محذوف ، أي : هي طعام . وأما إضافة الفِدْية للطعامِ فمِنْ باب إضافة الشيء إلى جنسه ، والمقصودُ به البيانُ كقولِك . خاتَمُ حديدٍ وثوبُ خَزٍّ وبابُ ساجٍ ، لأنَّ الفِدْيَةَ تكونُ طعاماً وغيرَه . وقال بعضهم : " يجوزُ أن تكونَ هذه الإِضافة من بابِ إضافة الموصوفِ إلى الصفةِ ، قال : " لأنَّ الفديةَ لها ذاتٌ وصفتُها أنَّها طعامٌ " وهذا فاسدٌ ، لأنَّه : إمَّا أنَّ يريدَ بطعام المصدر بمعنى الإِطعام كالعَطاءِ بمعنى الإِعطاء ، أو يريدَ به المفعولَ ، وعلى كِلا التقديرين فلا يُوصف به ؛ لأن المصدرَ لا يُوصَفُ به إلا عند المبالغةِ ، وليسَتْ مُرادةً هنا ، والذي بمعنى المفعولِ ليس جارياً على فِعْلٍ ولا ينقاسُ ، لا تقولُ : ضِراب بمعنى مَضْروب ، ولا قِتال بمعنى مَقْتُول ، ولكونِها غيرَ جاريةً على فِعْلٍ لم تعملْ عَمَله ، لا تقول : " مررت برجلٍ طعامٍ خبزُه " وإذا كانَ غيرَ صفةٍ فكيفَ يقال : أُضيف الموصوفُ لصفتِه ؟ وإنَّما أُفْرِدَت " فِدْية " لوجهين ، أحدُهما : أنَّها مصدرٌ والمصدرُ يُفْرَدُ ، والتاء فيها ليست للمَرَّة ، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث . والثاني : أنه لَمَّا أضافها إلى مضافٍ إلى الجمع أَفْهَمَتِ الجَمْعَ / ، وهذا في قراءةِ " مساكين " بالجمع . ومَنْ جمع " مساكين " فلمقابلةِ الجمع بالجمعِ ، ومَنْ أَفْرَدَ فعلى مراعاةِ إفرادِ العمومِ ، أي : وعلى كلِّ واحدٍ مِمَّن يُطيق الصومَ لكلِّ يوم يُفْطِرُه إطعامُ مسكين . ونظيرهُ : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] . وتَبَيَّن مِنْ إفراد " المسكين " أنَّ الحكم لِكلِّ يومٍ يُفْطِرُ فيه مسكينٌ ، ولا يُفْهَم ذلك من الجَمْعِ . والطعامُ : المرادُ به الإِطعامُ ، فهو مصدرٌ ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ ، قال أبو البقاء : " لأنه أضافه إلى المسكين ، وليس الطعامُ للمسكين قبل تمليكِه إياه ، فلو حُمِلَ على ذلك لكان مجازاً ، لأنه يصير تقديرُه : فعليه إخراجُ طعامٍ يصيرُ للمساكين ، فهو من باب تسميةِ الشيءِ ، بما يَؤُول إليه ، وهو وإنْ كان جائزاً إلا أنه مجازٌ والحقيقةُ أولى منه " . قوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } قد تقدَّم نظيرُه والكلامُ مستوفىً عليه عند قولِه : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] فَلْيُلْتفت إليه . والضميرُ في قولِهِ : " فهو " ضميرُ المصدرِ المدلولِ عليه بقولِهِ : " فَمَنْ تَطَوَّع " أي : فالتطوعُ خيرٌ له و " له " في مَحَلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لخيرٍ ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : خيرٌ كائنٌ له . قوله : { وَأَن تَصُومُواْ } في تأويل مصدرٍ مرفوعٌ بالابتداء تقديرُه : " صومكم " و " خَيْرٌ " خبرُه . ومثلُه : { وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 237 ] وقوله : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } شرطٌ حُذِفَ جوابُهُ ، تقديرُه : فالصومُ خيرٌ لكم . وحُذِفَ مفعولُ العلم : إمَّا اقتصاراً ، أي : إن كنتمْ من ذوي العلم والتمييز ، أو اختصاراً أي : تعلمونَ ما شرعيتُه وتبيينُه ، أو فَضْلَ ما عِلِمْتُم .