Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 40-70)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما حكى تعالى عن الكافرين طعنهم في أمر النبوة والوحي ، ذكر هنا أنَّ منهم من يصدِّق بأن القرآن كلام الرحمن ، ولكنه يكابر ويعاند ، ومنهم من لا يصدّق به أصلاً لفرط غباوته ، وسخافة عقله ، واختلال تمييزه … ثم ذكر تعالى أن القرآن شفاء لما في الصدور ، وأعقبه بذكر مآل المشركين في الآخرة . اللغَة : { ٱلصُّمَّ } جمع أصمّ وهو الذي لا يسمع { بَيَاتاً } ليلاً { تُفِيضُونَ } يقال أفاض فلانٌ في الحديث إذا اندفع فيه { يَعْزُبُ } يخْفى ويغيب { مِّثْقَالِ } وزن { سُلْطَانٍ } حجة وبرهان { سُبْحَانَهُ } تنزيهٌ لله جل وعلا عن النقائص . التفسِير : { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } أي ومن هؤلاء الذين بعثتَ إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أُرسلتَ به { وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ } بل يموت على ذلك ويُبعث عليه { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِٱلْمُفْسِدِينَ } أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه ، ومن يستحق الضلالة فيضله { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } أي وإن كذَّبك هؤلاء المشركون فقل لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً { أَنتُمْ بَرِيۤئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } أي لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } أي يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وقلوبهم لا تعي شيئاً مما تقرؤه وتتلوه { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ } ؟ أي أنت يا محمد لا تقدر أن تسمع من سلبه الله السمع { وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } أي ولو كانوا من الصمم لا يعقلون ولا يتدبرون ؟ قال ابن كثير : المعنى ومن هؤلاء من يسمعون كلامك الحسن ، والقرآن النافع ، ولكنْ ليس أمر هدايتهم إليك ، فكما لا تقدر على إسماع الأصم فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي ٱلْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } أي ومن هؤلاء من ينظر إليك ويعاين دلائل نبوتك الواضحة ، ولكنّهم عميٌ لا ينتفعون بما رأوا ، أفأنت يا محمد تقدر على هدايتهم ولو كانوا عُمي القلوب ؟ شبّههم بالعُمْي لتعاميهم عن الحق ، قال القرطبي : والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم أي كما لا تقدر أن تخلق للأعمى بصراً يهتدي به ، فكذلك لا تقدر أن توفّق هؤلاء للإِيمان { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً } أي لا يعاقب أحداً بدون ذنب ، ولا يفعل بخلقه ما لا يستحقون { وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي ولكنَّهم يظلمون أنفسهم بالكفر والمعاصي ومخالفة أمر الله قال الطبري : وهذا إعلامٌ من الله تعالى بأنه لم يسلب هؤلاء الإِيمان ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم ، وإنما سلبهم ذلك لذنوب اكتسبوها ، فحقَّ عليهم أن يطبع الله على قلوبهم { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ ٱلنَّهَارِ } أي اذكر يوم نجمع هؤلاء المشركين للحساب كأنهم ما أقاموا في الدنيا إلاّ ساعة من النهار ، لهول ما يرون من الأهوال { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } أي يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا في الدنيا ، وهو تعارف توبيخ وافتضاح ، يقول الواحد للآخر : أنتَ أغويتني وأضللتني ، وليس تعارف محبة ومودّة { قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي لقد خسر حقاً هؤلاء الظالمون الذين كذبوا بالبعث والنشور ، وما كانوا موفَّقين للخير في هذه الحياة { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي إن أريناك يا محمد بعض عذابهم في الدنيا لتقرَّ عينك منهم فذاك ، وإن توفيناك قبل ذلك فمرجعهم إلينا في الآخرة ، ولا بدَّ من الجزاء إن عاجلاً أو آجلاً { ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ } أي هو سبحانه شاهدٌ على أفعالهم وإجرامهم ومعاقبهم على ما اقترفوا { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } أي ولكل أمة من الأمم رسولٌ أُرسل لهدايتهم { فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ } قال مجاهد : يعني يوم القيامة قُضِي بينهم بالعدل قال ابن كثير : فكلُّ أمة تُعرض على الله بحضرة رسولها ، وكتابُ أعمالها من خير وشر شاهدٌ عليها ، وحفظتُهم من الملائكة شهود أيضاً { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا يُعذبون بغير ذنب { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي ويقول كفار مكة متى هذا العذاب الذي تعدنا به إن كنت صادقاً ؟ وهذا القول منهم على سبيل السخرية والاستهزاء { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } أي لا استطيع أن أدفع عن نفسي ضراً ، ولا أجلب إليها نفعاً ، وليس ذلك لي ولا لغيري { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } أي إلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه ، فكيف أقدر أن أملك ما استعجلتم به من العذاب ! { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } أي لكل أمة وقتٌ معلوم لهلاكهم وعذابهم { إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } أي فإِذا جاء أجل هلاكهم فلا يمكنهم أن يستأخروا عنه ساعة فيمهلون ويؤخرون ، ولا يستقدمون قبل ذلك لأن قضاء الله واقع في حينه { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً } أي قل لأولئك المكذبين أخبروني إن جاءكم عذاب الله ليلاً أو نهاراً فما نفعكم فيه ؟ { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ ٱلْمُجْرِمُونَ } استفهام معناه التهويل والتعظيم أي ما أعظم ما يستعجلون به ؟ كما يقال لمن يطلب أمراً وخيماً : ماذا تجني على نفسك { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ } في الكلام حذفٌ تقديره : أتؤخرون إلى أن تؤمنوا بها وإذا وقع العذاب وعاينتموه فما فائدة الإِيمان وما نفعكم فيه ، إذا كان الإِيمان لا ينفع حينذاك ؟ قال الطبري : المعنى أهنالك إذا وقع عذاب الله بكم أيها المشركون صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيه التصديق { آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } أي يقال لكم أيها المجرمون : الآن تؤمنون وقد كنتم قبله تهزءون وتسخرون وتستعجلون نزول العذاب ؟ { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْخُلْدِ } أي ذوقوا العذاب الدائم الذي لا زوال له ولا فناء { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي هل تُجزون إلا جزاء كفركم وتكذيبكم ؟ { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ } أي ويستخبرونك يا محمد فيقولون : أحقٌ ما وعدتنا به من العذاب والبعث ؟ { قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ } أي قل نعم والله إنه كائن لا شك فيه { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي لستم بمعجزين الله بهربٍ أو امتناع من العذاب بل أنتم في قبضته وسلطانه { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي ٱلأَرْضِ } أي لو أن لكل نفسٍ كافرةٍ ما في الدنيا جميعاً من خزائنها وأموالها ، ومنافعها قاطبة { لاَفْتَدَتْ بِهِ } أي لدفعته فدية لها من عذاب الله ولكنْ هيهات أن يُقبل كما قال تعالى { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ ٱلأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ } [ آل عمران : 91 ] ثم قال تعالى مخبراً عن أسفهم وندمهم { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } أي أخفى هؤلاء الظلمة الندم لما عاينوا العذاب قال الإِمام الجلال : أي أخفاها رؤساؤهم عن الضعفاء الذين أضلوهم مخافة التعيير { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ } أي قُضي بين الخلائق بالعدل { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً ، ولا يُعاقبون إلا بجريرتهم { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } " أَلاَ " كلمة تنبيه للسامع تزاد في أول الكلام أي انتبهوا لما أقول لكم فكل ما في السماوات والأرض ملكٌ لله ، لا شيء فيها لأحدٍ سواه ، هو الخالق وهو المالك { أَلاَ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي إن وعده بالبعث والجزاء حقٌ كائن لا محالة { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ولكنَّ أكثر الناس لقصور عقولهم ، واستيلاء الغفلة عليهم ، لا يعلمون ذلك فيقولون ما يقولون { هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي هو سبحانه المحيي والمميتُ ، وإِليه مرجعكم في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } خطابٌ لجميع البشر أي قد جاءكم هذا القرآن العظيم الذي هو موعظةٌ لكم من خالقكم { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ } أي يشفي ما فيها من الشك والجهل { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي وهداية من الضلال ورحمة لأهل الإِيمان قال صاحب الكشاف : المعنى قد جاءكم كتابٌ جامعٌ لهذه الفوائد العظيمة من الموعظة ، والتنبيه على التوحيد ، ودواء الصدور من العقائد الفاسدة ، ودعاء إلى الحق ، ورحمة لمن آمن به منكم { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } قال ابن عباس : فضل الله القرآن ، ورحمته الإِسلام والمعنى : ليفرحوا بهذا الذي جاءهم من الله ، من القرآن والإِسلام ، فإِنه أولى ما يفرحون به { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي هو خيرٌ مما يجمعون من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية ، والنعيم الزائل ، فإِن الدنيا بما فيها لا تساوي جناح بعوضة كما ورد به الحديث الشريف { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ } خطابٌ لكفار العرب والمعنى : أخبروني أيها المشركون عما خلقه الله لكم من الرزق الحلال { فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } أي فحرَّمتم بعضه وحلَّلتم بعضه كالبحيرة ، والسائبة ، والميتة قال ابن عباس : نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب ، والحرث والأنعام { قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ } أي قل لهم يا محمد أخبروني : أحصل إذنٌ من الله لكم بالتحليل والتحريم ، فأنتم فيه ممتثلون لأمره ، أم هو مجرد افتراء وبهتان على ذي العزة والجلال ؟ { وَمَا ظَنُّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي وما ظنُّ هؤلاء الذين يتخرصون على الله الكذب فيحلون ويحرمون من تلقاء أنفسهم ، أيحسبون أن الله يصفح عنهم ويغفر يوم القيامة ؟ كلاَّ بل سيصليهم سعيراً ، وهو وعيدٌ شديد للمفترين { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } أي لذو إنعام عظيم على العباد حيث رحمهم بترك معاجلة العذاب ، وبالإِنعام عليهم ببعثة الرسل وإنزال الكتب { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يشكرون النعم بل يجحدون ويكفرون { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أي ما تكون يا محمد في أمر من الأمور ، ولا عملٍ من الأعمال { وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ } أي وما تقرأ من كتاب الله شيئاً من القرآن { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } أي ولا تعملون أيها الناس من خير أو شر { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي إلا كنا شاهدين رقباء ، نحصي عليكم أعمالكم حين تندفعون وتخوضون فيها { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ } أي ما يغيب ولا يخفى على الله { مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } أي من وزن هباءة أو نملة صغيرة في سائر الكائنات أو الموجودات { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذٰلِكَ وَلاۤ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها إِلا وهو معلوم لدينا ومسجَّل في اللوح المحفوظ قال الطبري : والآية خبرٌ منه تعالى أنه لا يخفى عليه أصغر الأشياء وإن خفَّ في الوزن ، ولا أكبرها وإن عظم في الوزن ، فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربكم ، فإنّا محصوها عليكم ومجازوكم بها { أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي انتبهوا أيها الناس واعلموا أن أحباب الله وأولياءه لا خوف عليهم في الآخرة من عذاب الله ، ولا هم يحزنون على ما فاتهم في الدنيا ، ثم بيّن تعالى هؤلاء الأولياء فقال { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } أي الذين صدّقوا الله ورسوله ، وكانوا يتقون ربِّهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، فالوليُّ هو المؤمن التقيُّ وفي الحديث " إن لله عباداً ما هم بأنبياءَ ولا شهداءَ ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله ، قالوا أخبرنا من هم ؟ وما أعمالهم ؟ فلعلَّنا نحبُّهم ، قال : هم قومٌ تحابّوا في الله ، على غير أرحامٍ بيْنهم ، ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنورٌ ، وإنهم لعلى منابرَ من نور ، لا يخافون إذا خاف الناسُ ، ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ { أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ … } الآية " { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } أي لهم ما يسرهم في الدارين ، حيث تبشرهم الملائكة عند الاحتضار برضوان الله ورحمته ، وفي الآخرة بجنان النعيم والفوز العظيم كقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ } أي لا إخلاف لوعده { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي هو الفوز الذي لا فوز وراءه ، والظفر بالمقصود الذي لا يُضاهى { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } أي لا يحزنك ولا يؤلمك يا محمد تكذيبهم لك وقولهم : لستَ نبياً مرسلاً ، ثم ابتدأ تعالى فقال { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } أي القوة الكاملة ، والغلبة الشاملة ، لله وحده ، فهو ناصرك ومانعك ومعينك ، وهو المنفرد بالعزّة يمنحها أولياءه ، ويمنعها أعداءه { هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } أي السميع لأقوالهم ، العليم بأعمالهم { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰت وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ } أي الجميع له سبحانه عبيداً وملكاً وخلقاً { وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُرَكَآءَ } أي وما يتبع هؤلاء المشركون الذين يعبدون غير الله آلهة على الحقيقة ، بل يظنون أنها تشفع أو تنفع ، وهي لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ } أي ما يتبعون إلا ظناً باطلاً { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أي يَحْدسون ويكذبون ، يظنون الأوهام حقائق { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } تنبيهٌ على القدرة الكاملة والمعنى من دلائل قدرته الدالة على وحدانيته ، أن جعل لكم أيها الناس الليل راحةً لأبدانكم تستريحون فيه من التعب والنصب في طلب المعاش { وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } أي وجعل النهار مضيئاً تبصرون فيه الأشياء لتهتدوا إلى حوائجكم ومكاسبكم { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي لعلامات ودلالات على وحدانيَّة الله ، لقوم يسمعون سمع اعتبار ، ثم نبّه تعالى على ضلال اليهود والنصارى والمشركين فقال { قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } أي نسب اليهود والنصارى لله ولداً فقالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، كما قال كفار مكة : الملائكة بناتُ الله { سُبْحَانَهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ } أي تنزَّه الله وتقدّس عما نسبوا إليه فإنه المستغني عن جميع الخلق ، فإن اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه ، والله تعالى غير محتاج إلى شيء ، فالولد منتفٍ عنه { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰت وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أي الجميع خلقه وملكه { إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـٰذَآ } أي ما عندكم من حجة بهذا القول { أَتقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أتفترون على الله وتكذبون بنسبه الشريك والولد ؟ وهو توبيخ وتقريع على جهلهم . { قُلْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } أي كل من كذب على الله لا يفوز ولا ينجح { مَتَاعٌ فِي ٱلدُّنْيَا } أي متاعٌ قليل في الدنيا يتمتعون به مدة حياتهم { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي ثم معادهم ورجوعهم إلينا للجزاء والحساب { ثُمَّ نُذِيقُهُمُ ٱلْعَذَابَ ٱلشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } أي ثم في الآخرة نذيقهم العذاب الموجع الأليم بسبب كفرهم وكذبهم على الله . البَلاَغَة : 1 - { مَّن يُؤْمِنُ بِهِ … ومَّن لاَّ يُؤْمِنُ } بينهما طباقٌ السلب . 2 - { تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ … تَهْدِي ٱلْعُمْيَ } الصُّمُ والعميُ مجازٌ عن الكافرين شبههم بالصُّم والعمي لتعاميهم عن الحق . 3 - { ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } بينهما طباقٌ وكذلك بين { بَيَاتاً ونَهَاراً } وبين { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } وبين { يَسْتَقْدِمُونَ … ويَسْتَأْخِرُونَ } . 4 - { شِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ } مجاز مرسل أطلق المحلَّ وأراد الحالَّ أي شفاءٌ للقلوب لأن الصدور محلُّ القلوب . 5 - { حَرَاماً وَحَلاَلاً } بينهما طباق . 6 - { وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً } قال في تلخيص البيان : هذه استعارة عجيبة ، سمّى النهار مبصراً لأن الناس يبصرون فيه ، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له على طريق المبالغة كما قالوا : ليلٌ أعمى وليلةٌ عمياء إذا لم يبصر الناس فيها شيئاً لشدة إظلامها . 7 - { أَتقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } استفهام توبيخ وتقريع . فَائِدَة : أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم في هذه السورة { قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ } وفي سورة سبأ { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ الآية : 3 ] وفي سورة التغابن { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } [ الآية : 7 ] ذكره ابن كثير . تنبيه : كلمة " أرأيتَ " تستعمل بمعنى الاستفهام عن الرؤية البصرية ، أو العلمية ، وهذا أصل وضعها ثم استعملت بمعنى " أخبرني " فيقولون : أرأيت ذلك الأمر أي أخبرني عنه ، والرؤية إما بصرية أو علمية والتقدير : أأبصرت حالته العجيبة ، أو أعرفت أمره العجيب ؟ فأخبرني عنها ، ولذا لم تستعمل في غير الأمر العجيب ، { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ } [ الماعون : 1 ] ؟ { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ } [ العلق : 9 - 10 ] ؟ وهكذا .