Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 100-123)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لمّا ذكر تعالى بعض قصص المرسلين ، وما حلَّ بأممهم من النكال والدمار ، ذكر هنا العبرة من سرد هذه القصص ، وهي أن تكون شاهداً على تعجيل العقوبة للمكذبين والانتقام العاجل منهم وبرهاناً على تأييد الله ونصرته لأوليائه وأنبيائه ، وقد ذكرت الآيات يوم القيامة وانقسام الناس فيه إِلى فريقين : سعداء ، وأشقياء ، وختمت السورة الكريمة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى ، والتوكل على الحي القيوم . اللغَة : { حَصِيدٌ } مستأصل كالزرع المحصود { تَتْبِيبٍ } التباب : الهلاك والخسران قال لبيد : @ فلقد بَلِيتُ وكلُّ صاحب جِدَّةٍ لبِلىً يعودُ وذاكُمُ التَّتْبيبُ @@ { زَفِيرٌ } الزفير : إِخراج النَّفَس من شدة الجري { وَشَهِيقٌ } الشهيقُ : ردُّ النَّفَس وقال الليث : الزفير أن يملأ الرجل صدره من النَّفَس في حال الغمّ الشديد ويخرجه ، والشهيقُ أن يخرج ذلك النَّفَس بشدة وقال بعض أهل اللغة : الزفير مثلُ أول نهيق الحمار ، والشهيق مثل آخره { مَجْذُوذٍ } مقطوع من جذَّه يجذه إِذا قطعه { تَرْكَنُوۤاْ } الركون : الميلُ إِلى الشيء والرضا به { زُلَفاً } الزُّلف : جمع زُلفة وهي الطائفة من أول الليل قال ثعلب : هي أول ساعات الليل ، وأصلها من الزلفى وهي القربة { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ } [ الشعراء : 90 ] قُرِّبت { أُتْرِفُواْ } التَّرف : البطر يقال فلان مترف أي أبطرته النعمة وسعة العيش { مِرْيَةٍ } شك وريب . سَبَبُ النّزول : عن ابن مسعود أن رجلاً جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إِني عالجتُ امرأةً في أقصى المدينة ، وإِني أصبتُ منها من دون أن أمسَّها ، وأنا هذا فاقض فيَّ ما شئتَ ! فقال له عمر : لقد سترك الله لو سترت على نفسك ، فلم يردَّ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ، فانطلق الرجل ونزلت هذه الآية { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فدعاه فتلاها عليه . التفسِير : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } أي ذلك القصص من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم وتكذيبهم الرسل ، نقصه عليك يا محمد ونخبرك عنه بطريق الوحي { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } أي من هذه القرى ما هو عامر قد هلك أهلُه وبقي بنيانُه ، ومنها ما هو خراب قد اندثر بأهله فلم يبق له أثر كالزرع المحصود { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } أي وما ظلمناهم بإِهلاكهم بغير ذنب ، ولكنْ ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فاستحقوا عذاب الله ونقمته { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } أي ما نفعتهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله ، ولا دفعت عنهم شيئاً من عقاب الله وعذابه { لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } أي حين جاء قضاء الله بعذابهم { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } أي وما زادتهم تلك الآلهة غير تخسير وتدمير { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ } أي مثل ذلك الأخذ والإِهلاك الذي أخذ الله به أهل القرى الظالمين المكذبين ، يأخذ تعالى بعذابه الفجرة الظلمة قال الألوسي : وفي الآية من إِنذار الظالم ما لا يخفى كما قال عليه السلام " إن الله ليُملي للظالم حتى إِذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ الأية { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } أي إِن عذابه موجع شديد ، وهذا مبالغة في التهديد والوعيد { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ } أي إِن في هذه القصص والأخبار لعظة وعبرة لمن خاف عذاب الله وعقابه في الآخرة { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ } أي يجتمع فيه الخلائق للحساب والثواب والعقاب { وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } أي يشهده أهل السماء والأرض ، والأولون والآخرون قال ابن عباس : يشهده البر والفاجر { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي ما نؤخر ذلك اليوم - يوم القيامة - إِلا لزمنٍ معيَّن سبق به قضاء الله ، لا يتقدم ولا يتأخر { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي يوم يأتي ذلك اليوم الرهيب لا يتكلم أحدٌ إِلا بإِذن الله تعالى { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } أي فمن أهل الموقف شقيٌّ ، ومنهم سعيد كقوله { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } [ الشورى : 7 ] { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } أي فأما الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة فإِنهم مستقرون في نار جهنم ، لهم من شدة كربهم { زَفِيرٌ } وهو إِخراج النَّفَس بشدة { وَشَهِيقٌ } وهو ردُّ النَّفَس بشدة ، وقال بعض المفسرين : شبِّه صراخهم في جهنم بأصوات الحمير قال الطبري : في روايته عن قتادة : صوتُ الكافر في النار صوت الحمار ، أوله زفير وآخره شهيق { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } أي ماكثين في جهنم أبداً على الدوام ما دامت السماوات والأرض قال الطبري : إِن العرب إِذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت : هذا دائمٌ دوام السماوات والأرض بمعنى أنه دائمٌ أبداً ، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم قال ابن زيد : ما دامت السماء سماءً ، والأرض أرضاً والمعنى خالدين فيها أبداً وقال الزمخشري : فيه وجهان : أحدهما أن تراد سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد ، والثاني أن يكون عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } الاستثناء في أهل التوحيد ، لأن لفظة { شَقُواْ } تعم الكفار والمذنبين ، فاستثنى الله من خلود أهل الشقاوة العصاة من المؤمنين ، فإِنهم يطهرون في نار جهنم ثم يخرجون منها بشفاعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ويدخلهم الله الجنة ويقال لهم : { طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } أي يفعل ما يريد يرحمْ ويعذب كما يشاء ويختار ، لا معقّب لحكمه ، ولا رادّ لقضائه { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } هذا بيانٌ لحال الفريق الثاني " أهل السعادة " اللهم اجعلنا منهم أي وأما السعداء الأبرار فإِنهم مستقرون في الجنة ، لا يُخْرجون منها أبداً ، دائمون فيها دوام السماوات والأرض ، أو ما دامت سماواتُ الجنة وأرض الجنة حسب مشيئته تعالى ، وقد شاء تعالى لهم الخلود والدوام { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أي عطاءً غير مقطوع عنهم ، بل هو ممتد إِلى غير نهاية { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ } أي لا تكن في شكٍ من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال بمعنى لا تشك في فساد دينهم { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ } أي هم متبعون لآبائهم تقليداً من غير حجة ولا برهان ، وهذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعدٌ له بالانتقام منهم ، إِذ حالُهم حالُ من سبقهم من الضالين المكذبين ، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم فسينزل بهم مثله { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } أي وسنعطيهم جزاءهم من العذاب كاملاً غير منقوص وقال ابن عباس : ما قُدِّر لهم من الخير والشر { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ } قال الطبري : يقول تعالى مسلياً نبيه في تكذيب مشركي قومه له : لا يحزنك يا محمد تكذيب هؤلاء لك ، فلقد آتينا موسى التوراة كما آتيناك الفرقان ، فاختلف في ذلك الكتاب ، فكذَّب به بعضُهم ، وصدَّق به بعضُهم ، كما فعل قومك { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي ولولا حكم الله السابق بتأخير الحساب والجزاء إِلى يوم القيامة لقُضي بينهم في الدنيا فجوزي المحسن بإِحسانه ، والمسيء بإِساءته ، ولكن سبق القدر بتأخير الجزاء إِلى يوم الحساب { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي وإن الكفار قومك لفي شك من هذا القرآن مُريب لهم ، إِذ لا يدرون أحقٌ هو أم باطل ؟ { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } أي وإنَّ كلا من المؤمنين والكافرين لمَّا ينالوا جزاء أعمالهم وسيوفيهم ربُّك جزاءها في الآخرة { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي عليمٌ بأعمالهم جميعاً ، صغيرها وكبيرها ، وسيجازيهم عليها { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } أي استقم يا محمد على أمر الله واثبُت وداوم على الاستقامة كما أمركَ ربُّك { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أي ومن تاب من الشرك والكفر وآمن معك { وَلاَ تَطْغَوْاْ } أي لا تجاوزوا حدود الله بارتكاب المحارم { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي إِنه تعالى مطلّع على أعمالكم ويجازي عليها { وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ } أي لا تميلوا إِلى الظلمة من الولاة وغيرهم من الفسقة الفجرة فتمسكم نار جهنم قال البيضاوي : الركونُ هو الميل اليسير أي لا تميلوا إِليهم أدنى ميل فتمسكم النار بركونكم إِليهم ، وإِذا كان الركونُ اليسير إِلى من وجد منه ما يسمى ظلماً كذلك ، فما ظنك بالركون إِلى الظالمين الموسومين بالظلم ، والميل إِليهم كلَّ الميل ؟ ! { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } أي ليس لكم من يمنعكم من عذابه ثم لا تجدون من ينصركم من ذلك البلاء قال القرطبي : والآية دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي فإِن صحبتهم كفرٌ أو معصية إِذ الصحبةُ لا تكون إِلا عن مودَّة ، وأما صحبة الظالم على التقيَّة فمستثناةٌ من النهي بحال الاضطرار { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ } أي أقم الصلاة المكتوبة على تمامها وكمالها أول النهار وآخره ، والمراد صلاة الصبح والعصر لأنهما طرفا النهار { وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } أي ساعاتٍ منه قريبةً من النهار ، والمراد بهما المغرب والعشاء { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } أي إن الأعمال الصالحة ومنها الصلوات الخمس تكفّر الذنوب الصغائر ، لحديث " الصلواتُ الخمسُ كفارةٌ لما بينهما ما اجتُنبت الكبائرُ " قال المفسرون : المراد بالحسنات الصلواتُ الخمسُ واستدلوا على ذلك بسبب النزول ، وهذا قول الجمهور ، والأظهر أن المراد بها العموم وهو اختيار ابن كثير حيث قال : المعنى إِن فعل الخيرات يكفّر الذنوب السالفة كما جاء في الحديث " ما من مسلم يُذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غُفر له " { ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ } أي ذلك المذكور من الاستقامة والمحافظة على الصلاة ، عظةٌ للمتعظين وإِرشادٌ للمسترشدين { وَٱصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي اصبر يا محمد على ما تلقى من المكاره ومن أذى المشركين ، فإنَّ الله معك وهو لا يضيع ثواب المحسنين { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْفَسَادِ فِي ٱلأَرْضِ } أي فهلاَّ كان من الأمم الماضية قبلكم أُولُو عقل وفضل ، وجماعةٌ أخيارٌ ينهون الأشرار عن الإِفساد في الأرض { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } استثناء منقطع أي لكنْ قليلاً منهم ، نهَوْا عن الفساد فَنَجَوْا قال في البحر : " لولا " في الآية للتحضيض صحبها معنى التأسف والتفجع مثل قوله { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } [ يس : 30 ] والغرضُ التأسف على تلك الأمم التي لم تهتد كقوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره { وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ } أي واتَّبع أولئك الظلمة شهواتهم ، وما نُعّموا به من الاشتغال بالمال واللذات وآثروها على الآخرة { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } أي وكانوا قوماً مصرِّين على الإِجرام { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } أي ما جرت عادة الله تعالى أن يهلك القرى ظلماً وأهلُها مصلحون في أعمالهم ، لأنه تعالى منزّه عن الظلم ، وإِنما يهلكهم بكفرهم ومعاصيهم { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي لو شاء الله لجعل الناس كلَّهم مؤمنين مهتدين على ملة الإِسلام ، ولكنَّه لم يفعل ذلك للحكمة { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } أي ولا يزالون مختلفين على أديان شتى ، وملل متعددة ما بين يهودي ، ونصراني ، ومجوسي ، إِلا ناساً هداهم الله من فضله وهم أهل الحق { وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ } اللام لامُ العاقبة أي خلقهم لتكون العاقبة اختلافهم ما بين شقي وسعيد قال الطبري : المعنى وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم ، فريق في الجنة ، وفريقٌ في السعير { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي تمَّ أمر الله ونفذ قضاؤه بأن يملأ جهنم من الجنّ والإِنس من الكفرة الفجرة جميعاً قال الألوسي : والجملة متضمنة معنى القسم ولذا جيء باللام في { لأَمْلأَنَّ } وكأنه قال : واللهِ لأملأن جهنم من أتباع إِبليس من الإِنس والجن أجمعين { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } أي كل هذه الأخبار التي قصصناها عليك يا محمد من أخبار الرسل السابقين ، إِنما هي بقصد تثبيتك على أداء الرسالة ، وتطمين قلبك ، ليكون لك بمن مضى من إِخوانك المرسلين أسوة فتصبر كما صبروا { وَجَآءَكَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَقُّ } أي جاءك في هذه الأنباء التي قصها الله عليك النبأ اليقيني الصادق { وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي وجاءك في هذه الأخبار أيضاً ما فيه عظة وعبرة للمعتبرين ، وخصَّ المؤمنين بالذكر لانتفاعهم بمواعظ القرآن { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ } أي اعملوا على طريقتكم ومنهجكم إِنا عاملون على طريقتنا ومنهجنا ، وهو أمرٌ ومعناه التهديد والوعيد { وَٱنْتَظِرُوۤاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ } تهديدٌ آخر أي انتظروا ما يحلُّ بنا إِنا منتظرون ما يحل بكم من عذاب الله { وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي علمُ ما غاب وخفي فيهما ، كلُّ ذلك بيده وبعلمه { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ } أي إِليه يردُّ أمر كل شيء ، فينتقم ممن عصى ، ويثيب من أطاع وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفار بالانتقام منهم { فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } أي اعبد ربَّك وحده ، وفوّضْ إِليه أمرك ، ولا تعتمدْ على أحدٍ سواه ، فإِنه كافي من توكُّل عليه { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ، ويجازي كلاً بعمله . البَلاَغَة : 1 - { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } شبَّه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه ، وشبَّه ما هلك مع أهله ولم يبق له أثر بالزرع المحصود بالمناجل على طريق الاستعارة المكنية . 2 - { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } فيه طباق السلب . 3 - { إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ } مجازٌ عن الأهل أي أخذ أهل القرى . 4 - { شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } بينهما طباقٌ وهو من المحسنات البديعية . 5 - { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ … وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ } فيه لفٌ ونشر مرتب . 6 - { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } الكلمة هنا كناية عن القضاء والقدر . 7 - { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } بينهما طباقٌ . 8 - { ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ } بينهما جناس الاشتقاق . تنبيه : خلود أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، ثابتٌ مقطوعٌ به بالنصوص العديدة ، وأما الاستثناء بالمشيئة في هذه السورة فقد استعمل في أسلوب القرآن للدلالة على الثبوت والاستمرار ، والنكتة في ذكره بيان أنَّ هذه الأمور إِنما كانت بمشيئته تعالى ولو شاء لغيَّرها ، وليس شيء خارج عن مشيئته ، فالإِيمان والكفر ، والسعادة والشقاوة ، والخلود والخروج كلها بمشيئته تعالى . فَائِدَةَ : أشار الشهاب إِلى لطيفةٍ من البلاغة القرآنية ، وهي أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم وإِن كانت عامة في المعنى { فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ ، وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ ، وَٱصْبِرْ } وفي المنهيات جمعت للأمة { وَلاَ تَطْغَوْاْ ، وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } كذا في العناية .