Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 74-99)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لا تزال الآيات تتحدث عن قصة ضيوف إِبراهيم ، وهم الملائكة الذين مروا عليه وهم بطريقهم لإِهلاك قوم لوط ، وبشروه بالبشارة السارة بولادة غلام له ، وقد ذكرت الآيات مرورهم على لوط وما حلَّ بقومه من النكال والدمار ، وهي القصة الخامسة ، ثم ذكرت قصة شعيب مع أهل مدين ، وقصة موسى مع فرعون ، وفي جميع هذه القصص عبرٌ وعظات . اللغَة : { ٱلرَّوْعُ } الخوف والفزع { مُّنِيبٌ } الإِنابة : الرجوع والتوبة { عَصِيبٌ } شديد في الشر قال الشاعر : @ وإِنك إِلاّ تُرض بكرَ بن وائلٍ يكنْ لك يومٌ بالعراق عصيب @@ { يُهْرَعُونَ } يسرعون قال الفراء : الإِهراع الإِسراع مع رِعدة يقال أُهرع الرجل إهراعاً أي أسرع في رعدة من برد أو غضب { تُخْزُونِ } أخزاه : أهانه وأذله قال حسان : @ فأخزاكَ ربي يا عُتَيْبَ بن مالكٍ ولقَّاك قبل الموتِ إِحدى الصَّواعق @@ { سِجِّيلٍ } السّجيل والسّجين : الشديد من الحجر قاله أبو عبيدة ، وقال الفراء : طينٌ طبخ حتى صار كالآجر { مَّنْضُودٍ } متتابع بعضه فوق بعض في النزول { مُّسَوَّمَةً } معلَّمة من السيما وهي العلامة { شِقَاقِيۤ } الشقاق : العداوة قال الشاعر : @ ألاَ من مبلغٌ عني رسولاً فكيف وجدتم طعم الشقاق @@ { رَهْطُكَ } رهط الرجل : عشيرته التي يتقوى بهم { ٱلْوِرْدُ } المدخل { ٱلرِّفْدُ } العطاء والإِعانة . التفِسير : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ٱلرَّوْعُ } أي فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه ، واطمأن قلبُه لضيوفه حين علم أنهم ملائكة { وَجَآءَتْهُ ٱلْبُشْرَىٰ } أي جاءته البشارة بالولد { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } أي أخذ يجادل ملائكتنا في شأن إهلاك قوم لوط ، وغرضُه تأخير العذاب عنهم لعلهم يؤمنون قال المفسرون : لما قالت الملائكة : { إِنَّا مُهْلِكُوۤ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ } [ العنكبوت : 31 ] قال لهم : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون ؟ قالوا : لا فما زال يتنزّل معهم حتى قال لهم : أرأستم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونهم ؟ قالوا لا فقال لهم { إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرِينَ } [ العنكبوت : 32 ] { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ } أي غير عجولٍ في الانتقام من المسيء إِليه { أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } أي كثير التأوه والتأسف على الناس لرقة قلبه ، منيب رجّاعٌ إِلى طاعة الله { يَٰإِبْرَٰهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ } أي قالت الملائكة : يا إِبراهيم دع عنك الجدال في قوم لوط فقد نفذ القضاء بعذابهم { إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ } أي جاء أمر الله بإِهلاكهم { وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } أي نازلٌ بهم عذابٌ غير مصروفٍ عنهم ولا مدفوع { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيۤءَ بِهِمْ } أي ولما جاءت الملائكة لوطاً أصابه سوء وضجر ، لأنه ظهر أنهم من البشر فخاف عليهم من قومه { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } أي ضاق صدره بمجيئهم خشيةً عليهم من قومه الأشرار { وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } أي شديد في الشر { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي جاء قومه يسرعون إِليه لطلب الفاحشة بالضيوف كأنهم يدفعون إِلى ذلك دفعاً { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } أي ومن قبل ذلك الحين كانت عادتهم إِتيان الرجال وعمل الفاحشة فلذلك لم يستحيوا حين جاءوا يهرعون لها مجاهرين قال القرطبي : وكان سبب إِسراعهم أن امرأة لوط الكافرة لما رأت الأضياف وجمالهم ، خرجت حتى أتت مجلس قومها فقالت لهم : إِن لوطاً قد أضاف الليلة فتيةً ما رأيت مثلهم جمالاً فحينئذٍ جاءوا يُهرعون إِليه { قَالَ يٰقَوْمِ هَـٰؤُلاۤءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } أي قال لهم لوط : هؤلاء نساء البلدة أُزوِّجكم بهن فذلك أطهر لكم وأفضل ، وإِنما قال بناتي لأن كل نبيٍّ أبٌ لأمته في الشفقة والتربية { فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } أي اخشوا عذاب الله ولا تفضحوني وتهينوني في ضيوفي { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } أي استفهام توبيخ أي أليس فيكم رجل عاقل يمنع عن القبيح ؟ { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } أي قال له قومه : لقد علمت يا لوط ما لنا في النساء من أرب . وليس لنا رغبة فيهن { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } أي وأنت تعلم غرضنا وهو إِتيان الذكور ، صرّحوا له بغرضهم الخبيث قبّحهم الله { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً } أي لو كان لي قوة أستطيع أن أدفع أذاكم بها { أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } أي ألجأ إِلى عشيرة وأنصار تنصرني عليكم ، وجواب " لو " محذوف تقديره لبطشتُ بكم وفي الحديث " رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركنٍ شديد " يريد صلى الله عليه وسلم أن الله كان ناصره ومؤيده ، فهو ركنه الشديد وسنده القوي قال قتادة : وذُكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبياً بعد لوط إِلا في منعة من عشيرته ، وحين سمع رسل الله تعالى تحسر لوط على ضعفه وانقطاعه من الأنصار { قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوۤاْ إِلَيْكَ } أي قالت الملائكة للوط : إِنا رسلُ ربك أُرسلنا لإِهلاكهم وإِنهم لن يصلوا إِليك بضرر ولا مكروه { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلْلَّيْلِ } أي اخرج بهم بطائفةٍ من الليل قال الطبري : أي اخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } أي لا ينظر أحدٌ منكم وراءه إِلا امرأتَك فإِنها ستهلك كما هلكوا ، نُهوا عن الالتفات لئلا تتفطر أكبادهم على قريتهم قال القرطبي : إِن امرأة لوط لمّا سمعت هدَّة العذاب التفتت وقالت : واقوماه ! فأدركها حجر فقتلها { إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ } أي إِنه يصيب امرأتك من العذاب ما أصاب قومك { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ } أي موعد عذابهم وهلاكهم الصبحُ { أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه فقالوا له : أليس وقت الصبح قريباً ؟ قال المفسرون : إِن قوم لوط لما سمعوا بالضيوف هرعوا نحوه ، فأغلق بابه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب ، فتسوروا الجدار ، فلما رأت الملائكة ما بلوطٍ من الكرب قالوا يا لوط : افتح الباب ودعنا وإِيّاهم ، ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم وعموا ، وانصرفوا على أعقابهم يقولون : النجاءَ ، النجاء كما قال تعالى { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ } [ القمر : 37 ] ثم إِن لوطاً سرى بمن معه قبل الفجر ، ولما حان وقت عذابهم أمر الله جبريل فاقتلع مَدائن قوم لوط - وهي خمسٌ - من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء بما فيها ، حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة ، ونباح الكلاب ، ثم أرسلها مقلوبة وأتبعهم الله بالحجارة ولهذا قال تعالى { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } أي فلما جاء وقت العذاب قلبنا بهم القرى فجعلنا العالي سافلاً { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } أي أرسلنا على أهل تلك المدن حجارة صلبة شديدة من نارٍ وطين ، شبّهها بالمطر لكثرتها وشدتها { مَّنْضُودٍ } أي متتابعة ، بعضُها في إِثر بعض { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ } أي معلَّمة بعلامة قال الربيع : قد كتب على كل حجر اسم من يُرمى به قال القرطبي : وقوله { عِندَ رَبِّكَ } دليلٌ على أنها ليست من حجارة الأرض { وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } أي ما هذه القرى المهلكة ببعيدة عن قومك " كفار قريش " فإِنهم يمرون عليها في أسفارهم أفلا يعتبرون ؟ قال المفسرون : وقد صار موضع تلك المدن بحراً أُجاجاً يعرف بـ " البحر الميت " لأن مياهه لا تغذي شيئاً من الحيوان وقد اشتهر باسم " بحيرة لوط " والأرض التي تليها قاحلة لا تنبتُ شيئاً { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } هذه هي القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة أي وأرسلنا إِلى قبيلة مدين أخاهم شعيباً ، وقد كان شعيب من نفس القبيلة ولهذا قال " أخاهم " { قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } أي اعبدوا الله وحده فليس لكم ربٌ سواه { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } أي لا تنقصوا الناس حقوقهم في المكيال والميزان ، وقد اشتهروا بتطفيف الكيل والوزن { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } أي إِني أراكم في سعةٍ تغنيكم عن نقص الكيل والميزان قال القرطبي : أي في سعة من الرزق ، وكثرةٍ من النعم { وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } أي إِني أخاف عليكم إِن لم تؤمنوا عذاب يومٍ مهلك ، لا يفلت منه أحد ، والمراد به عذاب يوم القيامة { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } أي أتموا الكيل والوزن للناس بالعدل { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } أي لا تُنْقصوهم من حقوقهم شيئاً { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } أي ولا تسعوا بالفساد في الأرض ، والعثيُّ أشد الفساد { بَقِيَّةُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي ما أبقاه الله لكم من الحلال خيرٌ مما تجمعونه من الحرام ، إِن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده وقال مجاهد : أي طاعة الله خير لكم { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي ولستُ برقيب أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإِنما أنا ناصح مبلّغ ، وقد أعذر من أنذر { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } لما أمرهم شعيب عليه السلام بعبادة الله تعالى وترك عبادة الأوثان ، وبإِيفاء الكيل والميزان ، ردّوا عليه على سبيل السخرية والاستهزاء فقالوا : أصلاتك تدعوك لأن تأمرنا بترك عبادة الأصنام التي عبدها آباؤنا ؟ إِن هذا لا يصدر عن عاقل { أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } أي وتأمرك بأن نترك تطفيف الكيل والميزان . قال الإِمام الفخر : إِن شعيباً أمرهم بشيئين : بالتوحيد ، وترك البخس ، فأنكروا عليه أمره بهذين النوعين فقوله { مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } إِشارة إِلى التوحيد ، { نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا } إِشارة إِلى ترك البخس ، وقد يراد بالصلاة الدينُ والمعنى : دينُك يأمرك بذلك ؟ وأطلق عليه الصلاة لأنها أظهر شعار الدين ، وروي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إِذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا ، فقصدوا بقولهم { أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ } السخرية والهزء ، كما إِذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فتقول : هذا من مطالعة تلك الكتب ؟ { إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } أي إِنك لأنت العاقل المتصف بالحلم والرشد ؟ قال الطبري : يستهزئون به فإِنهم أعداء الله قالوا له ذلك استهزاءً ، وإِنما سفّهوه وجهّلوه بهذا الكلام { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي قال لهم شعيب : أخبروني إِن كنت على برهان من ربي وهو الهداية والنبوة { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } أي أعطاني المال الحلال ، فقد كان عليه السلام كثير المال قال الزمخشري : والجواب محذوف دل عليه المعنى أي أخبروني إِن كنت على حجة واضحة ، ويقينٍ من ربي ، وكنتُ نبياً على الحقيقة أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان ، والكف عن المعاصي ؟ والأنبياء لا يُبعثون إِلا لذلك { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } أي لست أنهاكم عن شيء وأرتكبه وإِنما آمركم بما آمر به نفسي { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ } أي لا أُريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إِلا إِصلاحكم وإِصلاح أمركم بقدر استطاعتي { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي ليس التوفيق إِلى الخير إِلا بتأييده سبحانه ومعونته { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي على الله سبحانه اعتمدت في جميع أموري ، وإِليه تعالى أرجع بالتوبة والإِنابة { وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ } أي لا يكسبنكم عداوتي { أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } أي يصيبكم العذابُ كما أصاب قوم نوح بالغرق ، وقوم هود بالريح ، وقوم صالح بالرجفة وقال الحسن المعنى : لا يحملنكم معاداتي على ترك الإِيمان فيصيبكم ما أصاب الكفار { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } أي وما ديار الظالمين من قوم لوطٍ بمكان بعيد ، أفلا تتعظون وتعتبرون ! ؟ { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } أي استغفروا ربكم من جميع الذنوب ، ثم توبوا إِليه توبةً نصوحاً { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } أي إِنه جل وعلا عظيم الرحمة ، كثير الود والمحبة لمن تاب وأناب { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } أي قالوا لنبيّهم شعيب على وجه الاستهانة : ما نفهم كثيراً مما تحدثنا به قال الألوسي : جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحِكَم والمواعظ ، وأنواع العلوم والمعارف ، من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يُفهم معناه ، ولا يدرك فحواه مع أنه كما ورد في الحديث الشريف ( خطيب الأنبياء ) { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } أي لا قوة لك ولا عزَّ فيما بيننا { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } أي ولولا جماعتك لقتلناك رمياً بالأحجار { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي لستَ عندنا بمكرَّم ولا محترم حتى نمتنع من رجمك { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ } ؟ هذا توبيخ لهم أي أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى ؟ فهل عشيرتي أعزّ عندكم من الله وأكرم ؟ قال ابن عباس : إِن قوم شعيب ورهطه كانوا أعزَّ عليهم من الله وصغُر شأنُ الله عندهم ، عزَّ ربنا وجلَّ ثناؤه { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أي جعلتم الله خلف ظهوركم لا تطيعونه ولا تعظمونه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يُعبأ به ، وهذا مثلٌ قال الطبري : يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل : نبذ حاجته وراء ظهره أي تركها ولم يلتفت إليها { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي إنه جل وعلا قد أحاط علماً بأعمالكم السيئة وسيجازيكم عليها { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ } تهديدٌ شديد أي اعملوا على طريقتكم إني عاملٌ على طريقتي كأنه يقول : اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة ، فأنا ثابت على الإِسلام والمصابرة { سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي سوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يذله ويهينه { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } أي وتعلمون من هو الكاذب { وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي انتظروا عاقبة أمركم إنني منتظر معكم { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } أي ولما جاء أمرنا بإِهلاكهم نجينا شعيباً والمؤمنين معه بسبب رحمة عظيمة منا لهم { وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } أي وأخذ أولئك الظالمين صيحةُ العذاب قال القرطبي : صاح بهم جبريل صيحةً فخرجت أرواحهم من أجسادهم { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي موتى هامدين لا حراك بهم قال ابن كثير : وذكر هٰهنا أنه أتتهم صيحة ، وفي الأعراف رجفة ، وفي الشعراء عذاب يوم الظلة ، وهم أمةٌ واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلّها ، وإِنما ذكر في كل سياقٍ ما يناسبه { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } أي كأن لم يعيشوا ويقيموا في ديارهم قبل ذلك { أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } قال الطبري : أي ألا أبعد الله مدين من رحمته بإِحلال نقمته ، كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته بإِنزال سخطه بهم { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } هذه هي القصة السابعة وهي آخر القصص في هذه السورة والمعنى : لقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف إِلهية ، وأيدناه بمعجزاتٍ قاهرة ، وبينات باهرة ، كالعصا واليد { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي إِلى فرعون وأشراف قومه { فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ } أي فأطاعوا أمر فرعون وعصوا أمر الله { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي وما أمر فرعون بسديد لأنه ليس فيه رشد ولا هدى ، وإنما هو جهل وضلال { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي يتقدم أمامهم إِلى النار يوم القيامة كما كان يتقدمهم في الدنيا { فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ } أي أدخلهم نار جهنم { وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } أي بئس المدخل المدخول هي . { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً } أي أُلحقوا فوق العذاب الذي عجله الله لهم لعنةً في الدنيا { وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } أي وأُردفوا بلعنةٍ أخرى يوم القيامة { بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ } أي بئس العونُ الُمعان والعطاء المُعْطى لهم ، وهي اللعنة في الدارين . البَلاَغَة : 1 - { ذَهَبَ الرَّوْعُ … وَجَآءَتْهُ } بينهما طباقٌ وهو من المحسنات البديعية . 2 - { جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ } كناية عن العذاب الذي قضاه الله لهم . 3 - { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } الاستفهام للتعجب والتوبيخ . 4 - { أَوْ آوِيۤ إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ } قال الشريف الرضي : وهذه استعارة والمراد بها قومه وعشيرته ، جعلهم ركناً له لأن الإِنسان يلجأ إِلى قبيلته ، ويستند إِلى أعوانه كما يستند إِلى ركن البناء الرصين ، وجاء جواب " لو " محذوفاً تقديره : لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد ، والحذف هٰهنا أبلغ لأنه يوهم بعظيم الجزاء وغليظ النكال . 5 - { عَالِيَهَا سَافِلَهَا } بينهما طباقٌ . 6 - { عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } فيه مجاز عقلي أسند الإِحاطة لليوم مع أن اليوم ليس بجسم باعتبار أن العذاب يكون فيه ، فهو إِسنادٌ للزمان . 7 - { وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } فيه استعارة تمثيلية كالشيء الذي يلقى وراء الظهر ولا يكترث به . 8 - { فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ } فيه استعارة مكنية لأن الورود في الأصل يقال للمرور على الماء للاستسقاء منه ، فشبّه النار بماءٍ يورد وحذف ذكر المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو الورود ، وشبّه فرعون في تقدمه على قومه بمنزلة من يتقدم على الواردين إِلى الماء ليكسر العطش وقوله { وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ } تأكيد له لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد وفي النار إلهابٌ للعطش وتقطيع للأكباد ، نعوذ بالله من نار جهنم .