Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 14, Ayat: 35-52)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبة : لمّا ذكر تعالى بالدلائل الحسية والسمعية انفراده بالألوهية وأن لا معبود إِلا الله ، ذكر هنا أبا الأنبياء " إِبراهيم " عليه السلام حصن التوحيد ، ومبالغته في هدم الشرك والأوثان ، ثم ذكر موقف الظالمين يوم الدين ، وما يعتريهم من الذل والهوان في يوم الحشر الأكبر . اللغَة : { وَٱجْنُبْنِي } أبعدني ونحّني يقال : جَنب وجنَّب وأصله جعل الشيء في جانب آخر { تَشْخَصُ } شخَص البصر : إِذا بقيت العين مفتوحة لا تغمض من هول ما ترى { مُهْطِعِينَ } مسرعين يقال أهطع إِهطاعاً إِذا أسرع قال الشاعر : @ بدجلةَ دارهُم ولقد أَراهم بدجلةَ مُهْطعينَ إِلى السَّماع @@ { مُقْنِعِي } المقنعُ : الرافع رأسه المقبل ببصره على ما بين يديه { هَوَآءٌ } خالية { مُّقَرَّنِينَ } مشدودين { ٱلأَصْفَادِ } الأغلال والقيود واحدها صفد { سَرَابِيلُهُم } جمع سربال وهو القميص والثوب { تَغْشَىٰ } تجلّل وتغطّي . التفسِير : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِناً } أي اجعل مكة بلد أمنٍ يأمن أهله وساكنوه { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } أي احمني يا رب وجنبني وأولادي عبادة الأصنام ، والغرضُ تثبيتُه على ملة التوحيد والإِسلام { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } أي يا ربّ إِنَّ هذه الأصنام أضلَّت كثيراً من الخلق عن الهداية والإِيمان { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } أي فمن أطاعني وتبعني على التوحيد فإِنه من أهل ديني { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي ومن خالف أمري فإِنك يا رب غفار الذنوب رحيمٌ بالعباد { رَّبَّنَآ إِنَّيۤ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } كرّر النداء رغبةً في الإِجابة وإِظهاراً للتذلل والإِلتجاء إلى الله تعالى أي يا ربنا إني أسكنت من أهلي - ولدي إسماعيل وزوجي هاجر - { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ } أي بوادٍ ليس فيه زرع في جوار بيتك المحرم ، وهو وادي مكة شرفها الله تعالى { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ } أي ربنا لكي يعبدوك ويقيموا الصلاة أسكنتهم بهذا الوادي فاجعل قلوبَ الناسِ تحنُّ وتسرع إِليهم شوقاً قال ابن عباس : لو قال : ( أفئدة الناس ) لازدحمت عليه فارس والروم والناسُ كلهم ، ولكنْ قال { مِّنَ ٱلنَّاسِ } فهم المسلمون { وَٱرْزُقْهُمْ مِّنَ ٱلثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } أي وارزقهم في ذلك الوادي القفر من أنواع الثمار ليشكروك على جزيل نِعمك ، وقد استجاب الله دعاءه فجعل مكة حرماً آمناً يجبى إليها ثمرات كل شيء رزقاً من عند الله { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } أي يا ربنا إِنك العالم لما في القلوب تعلم ما نسرُّ وما نظهر { وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ فَي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } أي لا يغيب عليه تعالى شيء في الكائنات ، سواء منها ما كان في الأرض أو في السماء ، فكيف تخفى عليه وهو خالقها وموجدها ؟ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } أي الحمد لله الذي رزقني على كبر سني وشيخوختي إِسماعيل وإِسحاق قال ابن عباس : ولد له إِسماعيل وهو ابن تسعٍ وتسعين ، وولد له إِسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } أي مجيبٌ لدعاء من دعاه { رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَتِي } هذه هي الدعوة السادسة من دعوات الخليل عليه السلام أي يا رب اجعلني ممن حافظ على الصلاة واجعل من ذريتي من يقيمها أيضاً ، وهذه خير دعوةٍ يدعوها المؤمن لأولاده فلا أحبَّ له من أن يكون مقيماً للصلاة هو وذريته لأنهما عماد الدين { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } أي تقبَّلْ واستجبْ دعائي فيما دعوتك به { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ } هذه هي الدعوة السابعة وبها ختم إِبراهيم دعاءه الضارع الخاشع بالاستغفار له ولوالديه ولجميع المؤمنين ، يوم يقوم الناس لرب العالمين قال المفسرون : استغفر لوالديه قبل أن يتبيَّن له أنَّ أباه عدوٌ لله قال القشيري : ولا يبعد أن تكون أمه مسلمة لأن الله ذكر عذره في استغفاره لأبيه دون أمه . . وينتقل السياق إِلى مشاهد القيامة وما فيها من الأهوال حين تتزلزل القلوب والأقدام { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ } أي لا تظننَّ يا محمد أنَّ الله ساهٍ عن أفعال الظلمة ، فإِن سنة الله إِمهال العصاة ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، قال ميمون بن مِهْران : هذا وعيدٌ للظالم ، وتعزيةٌ للمظلوم { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } أي إِنما يؤخرهم ليومٍ رهيب عصيب ، تَشْخص فيه الأبصار من الفزع والهَلع ، فتظلُّ مفتوحة مبهوتة لا تطرف ولا تتحرك قال أبو السعود : تبقى أبصارهم مفتوحة لا تتحرك أجفانهم من هول ما يرونه { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } أي مسرعين لا يلتفتون إِلى شيء رافعين رءوسهم مع إِدامة النظر قال الحسن : وجوه الناس يومئذٍ إِلى السماء لا ينظر أحدٌ إِلى أحد { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي لا يطرفون بعيونهم من الخوف والجزع { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } أي قلوبهم خالية من العقل لشدة الفزع { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ } أي خوّف يا محمد الكفار من هول يوم القيامة حين يأتيهم العذاب الشديد { فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي فيتوجه الظالمون يومئذٍ إِلى الله بالرجاء يقولون يا ربنا أمهلنا إِلى زمنٍ قريب لنستدرك ما فات { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ } أي نجب دعوتك لنا إِلى الإِيمان ونتّبع رسلك فيما جاءونا به { أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } أي يقال لهم توبيخاً وتبكيتاً : ألم تحلفوا أنكم باقون في الدنيا لا تنتقلون إِلى دار أخرى ؟ والمراد إِنكارهم للبعث والنشور { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ } أي سكنتم في ديار الظالمين بعد أن أهلكناهم ، فهلاَّ اعتبرتم بمساكنهم ؟ { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } أي تبيَّن لكم بالإِخبار والمشاهدة كيف أهلكناهم ، وانتقمنا منهم { وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ } أي بينا لكم الأمثال في الدنيا فلم تعتبروا { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } أي مكر المشركون بالرسول وبالمؤمنين حين أرادوا قتله { وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ } أي وعند الله جزاء هذا المكر فإنه محيط بهم وبمكرهم { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ } أي وإِن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إِلى زوال الجبال ولكنَّ الله عصَم ووقى منه { فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } أي لا تظننَّ أيها المخاطب أن الله يخلف رسله ما وعدهم به من النصر وأخذ الظالمين المكذبين { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } أي إِنه تعالى غالبٌ لا يعجزه شيء منتقم ممن عصاه { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ } أي ينتقم من أعدائه يوم الجزاء ، يوم تتبدل هذه الأرض أرضاً أخرى ، وتتبدل السماوات سماوات أخرى قال ابن مسعود : تُبدَّل الأرضُ بأرضٍ كالفضة نقية ، لم يسفك فيها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة { وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم ، ومثلوا أمام أحكم الحاكمين ، لا يسترهم ساتر ، ولا يقيهم واقٍ ، ليسوا في دورهم ولا في قبورهم ، وإِنما هم في أرض المحشر أمام الواحد القهار { وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } أي وفي ذلك اليوم الرهيب تبصر المجرمين مشدودين مع شياطينهم بالقيود والأغلال قال الطبري : أي مقرَّنة أيديهم وأرجُلهم إِلى رقابهم بالأصفاد وهي الأغلال والسلاسل { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران وهي مادة يسرع فيها اشتعال النار ، تُطلى بها الإِبل الجربى فيحرق الجربَ بحرّه وحدته ، وهو أسود اللون منتنُ الريح { وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ } أي تعلوها وتحيط بها النار ، جزاء المكر والاستكبار { لِيَجْزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي برزوا يوم القيامة لأحكم الحاكمين ليجازيهم الله على أعمالهم ، المحسنَ بإِحسانه ، والمسيءَ بإِساءته { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } أي لا يشغله شأن عن شأن ، يحاسب جميع الخلق في أعجل ما يكون من الزمان ، في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا كما ورد به الأثر { هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ } أي هذا القرآن بلاغٌ لجميع الخلق من إِنس وجان ، أنزل لتبليغهم بما فيه من فنون العبر والعظات { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } أي لكي يُنصحوا به ويخوّفوا من عقاب الله { وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أي ولكي يتحققوا بما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة ، على أنه تعالى واحد أحدٌ ، فردٌ صمد { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة ، وهم السعداء أهل النهى والصلاح . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي : 1 - التشبيه البليغ { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } حذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه أي قلوبهم كالهواء لفراغها من جميع الأشياء فأصبح التشبيه بليغاً . 2 - الإِيجاز بالحذف { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ } حذف منه والسماوات تبدل غير السماوات لدلالة ما سبق . 3 - الطباق في { تَبِعَنِي … عَصَانِي } وفي { نُخْفِي … نُعْلِنُ } وفي { ٱلأَرْضِ … ٱلسَّمَآءِ } . 4 - جناس الاشتقاق في { مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } . 5 - العدول عن المضارع إِلى الماضي { وَبَرَزُواْ } بدل { ويبرزون } للدلالة على تحقق الوقوع مثل { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [ النحل : 1 ] فكأنه حدث ووقع فأخبر عنه بصيغة الماضي . 6 - الاستعارة في { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ } قال الشريف الرضي : وهذه من محاسن الاستعارة وحقيقةُ الهُوي النزول من علوٍ إِلى انخفاض كالهبوط والمراد تسرع إِليهم شوقاً وتطير إِليهم حباً ، ولو قال " تحنُّ إِليهم " لم يكن فيه من الفائدة ما في التعبير بـ { تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ } لأن الحنين قد يكون من المقيم بالمكان . لطيفَة : حكمة تعريف البلد هنا { ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِناً } وتنكيره في البقرة { ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } [ الآية : 126 ] أنه تكرر الدعاء من الخليل ، ففي البقرة كان قبل بنائها فطلب من الله أن تجعل بلداً ، وأن تكون آمناً ، وهنا كان بعد بنائها فطلب من الله أن تكون آمناً أي بلد أمنٍ واستقرار ، وهذا هو السرُّ في التفريق في الآيتين ، اللهم ارزقنا فهم أسرار كتابك العظيم .