Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 15, Ayat: 45-99)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى حال الأشقياء من أهل الجحيم ، أعقبهم بذكر حال السعداء من أهل النعيم ، ثم ذكر قصص بعض الرسل مع أقوامهم " لوط ، وشعيب ، وصالح " تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتأسى بهم في الصبر ، ثم ذكر الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين ، وختم السورة ببشارته عليه السلام بإهلاك أعدائه المستهزئين . اللغَة : { نَصَبٌ } تعب وإعياء { وَجِلُونَ } خائفون فزعون { ٱلْغَابِرِينَ } الباقين في العذاب { ٱلْقَانِطِينَ } القنوط : كمالُ اليأس { تَفْضَحُونِ } الفضيحةُ : أن يُظهر من أمره ما يلزمه به العارُ ، يقال : فضحه الصبح إذا أظهره للناس قال الشاعر : @ ولاح ضوءُ هلالٍ كاد يفضحنا مثلُ القلامةِ قد قُصَّت من الظُّفُر @@ { لَعَمْرُكَ } قسمٌ بحياة محمد صلى الله عليه وسلم أي وحياتك { سَكْرَتِهِمْ } السكرة : الغواية والضلالة { يَعْمَهُونَ } يترددون تحيراً أو يعمون عن الرشد . والعَمه للقلب مثل العمى للبصر { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } التوسُّم من الوَسم وهي العلامة التي يستدل بها على المطلوب يقال : توسَّم فيه الخير إذا رأى فيه أثراً منه قال ابن رواحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم : @ إني توسَّمتُ فيك الخير أعرفه والله يعلم أني ثابتُ البصر @@ وأصله التثبتُ والتفكر مثل التفرس وفي الحديث " اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " { ٱلأَيْكَةِ } الشجرة الملتفَّة وجمعها أيْك { ٱلحِجْرِ } اسم واد كانت تسكنه ثمود { عِضِينَ } أجزاءٌ متفرقة من التعضية وهي التجزئة والتفريق { ٱلْيَقِينُ } الموت لأنه أمر متيقن . سَبَبُ النّزول : روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال : أتضحكون وبين أيديكم الجنةُ والنار ؟ فشقَّ ذلك عليهم فنزلت { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ } " . التفسِير : { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } أي إن الذين اتقوا الفواحش والشرك لهم في الآخرة البساتين الناضرة ، والعيون المتفجرة بالماء والسلسبيل والخمر والعسل { ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ } أي يقال لهم : أُدخلوا الجنة سالمين من كل الآفات ، آمنين من الموت ومن زوال هذا النعيم { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } أي أزلنا ما في قلوب أهل الجنة من الحقد والبغضاء والشحناء { إِخْوَاناً عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } أي حال كونهم إخوةً متحابين لا يكدّر صفوهم شيء ، على سررٍ متقابلين وجهاً لوجه قال مجاهد : لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض زيادةً في الانس والإِكرام ، وقال ابن عباس : على سررٍ من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت والزبرجد { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } أي لا يصيبهم في الجنة إعياءٌ وتعب { وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } أي لا يُخرجون منها ولا يُطردون ، نعيمهم خالد ، وبقاؤهم دائم ، لأنها دار الصفاء والسرور { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } أي أخبر يا محمد عبادي المؤمنين بأني واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ } أي وأخبرهم أنَّ عذابي شديد لمن أصرَّ على المعاصي والذنوب قال أبو حيان : وجاء قوله { وَأَنَّ عَذَابِي } في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة ( وأني المعذّب المؤلم ) وكل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } أي وأخبرهم عن قصة ضيوف إبراهيم ، وهم الملائكة الذين أرسلهم الله لإِهلاك قوم لوط ، وكانوا عشرة على صورة غلمانٍ حسانٍ معهم جبريل { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً } أي حين دخلوا على إبراهيم فسلَّموا عليه { قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي قال إبراهيم إنّا خائفون منكم ، وذلك حين عرض عليهم الأكل فلم يأكلوا { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } أي قالت الملائكة لا تخف فإنا نبشرك بغلام واسع العلم ، عظيم الذكاء ، هو إسحاق { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } أي قال إبراهيم أبشرتموني بالولد على حالة الكبر والهرم ، فبأي شيء تبشروني ؟ قال ذلك على وجه التعجب والاستبعاد { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ } أي بشرناك باليقين الثابت فلا تستبعدْه ولا تيأس من رحمة الله { قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ } استفهام إنكاري أي لا يقنط من رحمة الله إلا المخطئون طريق المعرفة والصواب ، الجاهلون برب الأرباب ، أما القلب العامر بالإِيمان ، المتصل بالرحمن ، فلا ييأس ولا يقنط قال البيضاوي : وكان تعجب إبراهيم عليه السلام باعتماد العادة دون القدرة فإنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يخلق بشراً من غير أبوين ، فكيف من شيخ فانٍ وعجوزٍ عاقر ؟ ولذلك أجابهم بذلك الجواب { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ } أي قال إبراهيم ما شأنكم وما أمركم الذي جئتم من أجله أيها الملائكة الكرامُ ؟ { قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي أرسلنا ربنا إلى قومٍ مشركين ضالين لإِهلاكهم يعنون قوم لوط { إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } أي إلا أتباعَ لوط وأهلَه المؤمنين ، فسننجيهم من ذلك العذاب أجمعين { إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ } أي إلا امرأة لوط فقد قدَّر الله بقاءها في العذاب مع الكفرة الهالكين قال القرطبي : استثنى من آل لوطٍ امرأته وكانت كافرة فالتحقت بالمجرمين في الهلاك { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ } أي فلما أتى رسلُ الله لوطاً عليه السلام { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي قال لهم إنكم قوم لا أعرفكم فماذا تريدون ؟ { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي قالوا له بل نحن رسل الله ، جئناك بما كان فيه قومك يشكُّون فيه وهو نزول العذاب الذي وعدتهم به { وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } أي أتيناك بالحق اليقين من عذابهم وإنا لصادقون فيما نقول { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ } أي سرْ بأهلك في طائفةٍ من الليل { وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } أي كنْ من ورائهم وسرْ خلفهم لتطمئنَّ عليهم { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أي لا يلتفتْ أحد منكم وراءه لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم فيرتاع { وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } أي سيروا حيث يأمركم الله عز وجل قال ابن عباس : يعني الشام { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ } أي أوحينا إلى لوط ذلك الأمر العظيم أن أولئك المجرمين سيُستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحدٌ { مُّصْبِحِينَ } أي إذا دخل الصباح تمَّ هلاكهم واستئصالهم { وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ } أي جاء أهل مدينة سدوم - وهم قوم لوطٍ - مسرعين يستبشرون بأضيافه ، طمعاً في ارتكاب الفاحشة بهم ، ظناً منهم أنهم أناسٌ أمثالهم قال المفسرون : أُخبر أولئك السفهاء أن في بيت لوطٍ شباناً مرداً حساناً فأسرعوا فرحين يبشّر بعضهم بعضاً بأضياف لوط { قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ } أي هؤلاء ضيوفي فلا تقصدوهم بسوء فتُلحقوا بي العار وتفضحوني أمامهم { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ } أي خافوا الله أن يحلَّ بكم عقابه ، ولا تهينوني بالتعرض لهم بالمكروه { قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } أي قالوا ألم نمنعك عن ضيافة أحد ؟ قال الرازي : المعنى ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحدٍ من الناس إذا قصدناه بالفاحشة ؟ { قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } أي هؤلاء النساء فتزوجوهنَّ ولا تركنوا إلى الحرام إن كنتم تريدون قضاء الشهوة قال المفسرون : المراد بقوله { بَنَاتِي } بناتُ أمته لأن كل نبيٍّ يعتبر أباً لقومه { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي وحياتك يا محمد إن قوم لوط لفي ضلالهم وجهلهم يتخبطون ويترددون ، وهذه جملة اعتراضية جاءت ضمن قصة لوط قسماً بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم تكريماً له وتشريفاً قال ابن عباس : " ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرمَ على الله من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعتُ اللهَ أقسم بحياة أحدٍ غيره " { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } أي أخذتهم صيحةُ العذاب المهلكة المدمرة وقت شروق الشمس { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا } أي قلبناها بهم فجعلنا أعالي المنازل أسافلها قال المفسرون : حمل جبريل عليه السلام قريتهم واقتلعها من جذورها ، حتى رأوا الأفلاك وسمعوا تسبيح الأملاك ثم قلبها بهم { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } أي أنزلنا عليهم حجارة كالمطر من طين طبخ بنار جهنم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } أي فيما حلَّ بهم من الدمار والعذاب لدلالات وعلامات للمعتبرين ، المتأملين بعين البصر والبصيرة { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } أي وإن هذه القرى المهلكة ، وما ظهر فيها من آثار قهر الله وغضبه ، لبطريقٍ ثابتٍ لم يندرس ، يراها المجتازون في أسفارهم أفلا يعتبرون ؟ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } أي لعبرةً للمصدّقين { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ } أي وإنه الحال والشأن كان قوم شعيب - وهم أصحاب الأيكة أي الشجر الكثير المتلف - لظالمين بتكذيبهم شعيباً ، وقطعهم الطريق ، ونقصهم المكيال والميزان { فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي أهلكناهم بالرجفة وعذاب يوم الظُلَّة قال المفسرون : اشتد الحر عليهم سبعة أيام حتى قربوا من الهلاك ، فبعث الله عليهم سحابة كالظلة ، فالتجئوا إليها واجتمعوا تحتها للتظلل بها ، فبعث الله عليهم منها ناراً فأحرقتهم جميعاً { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } أي وإن قرى قوم لوط وشعيب لطريق واضح أفلا تعتبرون بهم يا أهل مكة ؟ { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ } هذه هي القصة الرابعة وهي قصة صالح عليه السلام أي كذبت ثمود نبيَّهم صالحاً - والحجرُ وادٍ بين المدينة والشام وآثاره باقية يمرُّ عليها المسافرون - قال البيضاوي : ومن كذَّب واحداً من الرسل فكأنما كذب الجميع ولذا قال { ٱلْمُرْسَلِينَ } { وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي وأريناهم معجزاتنا الدالة على قدرتنا مثل الناقة وما فيها من العجائب فكانوا لا يعتبرون بها ولا يتَّعظون قال ابن عباس : كان في الناقة آيات : خروجُها من الصخرة ، ودنوُّ ولادتها عند خروجها ، وعظمُ خَلْقها فلم تشبهها ناقة ، وكثرةُ لبنها حتى كان يكفيهم جميعاً فلم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } أي كانوا ينقبون الجبال فيبنون فيها بيوتاً آمنين يحسبون أنها تحميهم من عذاب الله { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } أي أخذتهم صيحة الهلاك حين أصبحوا { فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي ما دفع عنهم عذابَ الله ما كانوا يشيدونه من القلاع والحصون { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } أي وما خلقنا الخلائق كلَّها سماءها وأرضها وما بينهما إلا خلقاً ملتبساً بالحق ، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء المكذبين لئلا يعم الفساد { وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ } أي وإن القيامة لآتيةٌ لا محالة فيُجازى المحسنُ بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، فأعرضْ يا محمد عن هؤلاء السفهاء وعاملهم معاملة الحليم { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } أي الخالق لكل شيء ، العليمُ بأحوال العباد { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } أي ولقد أعطيناك يا محمد سبع آيات هي الفاتحة لأنها تثنّى أي تكرر قراءتها في الصلاة وفي الحديث " الحمدُ للهِ رب العالمين هي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُه " وقيل : هي السور السبع الطوال ، والأول أرجح { وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } أي وآتيناك القرآن العظيم الجامع لكمالات الكتب السماوية { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } أي لا تنظر إلى ما متعنا به بعض هؤلاء الكفار ، فإن الذي أعطيناك أعظم منها وأشرف وأكرم ، وكفى بإِنزال القرآن عليك نعمة { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي لا تحزن لعدم إيمانهم { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي تواضعْ لمن آمن بك من المؤمنين وضعفائهم { وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ } أي قل لهم يا محمد أنا المنذر من عذاب الله ، الواضح البيِّن في الإِنذار لمن عصى أمر الجبار { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى ٱلْمُقْتَسِمِينَ } الكاف للتشبيه والمعنى أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه ، فانقسموا إلى قسمين { ٱلَّذِينَ جَعَلُواْ ٱلْقُرْآنَ عِضِينَ } أي جعلوا القرآن أجزاءٌ متفرقة وقالوا فيه أقوالاً مختلفة قال ابن عباس : آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض ، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم له بقولهم سحر ، وشعر ، وأساطير ، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب مثل فعل كفار مكة { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي فأقسمُ بربك يا محمد لنسألنَّ الخلائق أجمعين عما كانوا يعملون في الدنيا { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } أي فاجهر بتبليغ أمر ربك ، ولا تلتفت إلى ما يقول المشركون { إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ } أي كفيناك شرَّ أعدائك المستهزئين بإهلاكنا إياهم وكانوا خمسة من صناديد قريش { ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ } أي الذين أشركوا مع الله غيره من الأوثان والأصنام { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وعيدٌ وتهديد أي سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدارين { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } أي يضيق صدرك بالاستهزاء والتكذيب { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } أي فافزع فيما نالك من مكروه إلى التسبيح والصلاة والإِكثار من ذكر الله { وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } أي اعبد ربك يا محمد حتى يأتيك الموت ، سمي يقيناً لأنه متيقن الوقوع والنزول . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي : 1 - الإِيجاز بالحذف في { ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ } أي يقال لهم أدخلوها . 2 - المقابلة اللطيفة في { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } مع الآية بعدها { وَأَنَّ عَذَابِي } فقد قابل بين العذاب والمغفرة وبين الرحمة الواسعة والعذاب الأليم ، وهذا من المحسنات البديعية . 3 - الكناية في { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ } كنَّى به عن عذاب الاستئصال . 4 - المجاز في { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ } أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مجازاً وهو لله وحده وذلك لما لهم من القرب والاختصاص لأنهم رسل الله أُرسلوا بأمره تعالى . 5 - الجناس الناقص في { ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } وجناس الاشتقاق في { فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ } . 6 - صيغة المبالغة في { ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } وفي { ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } . 7 - الطباق في { عَالِيَهَا سَافِلَهَا } . 8 - السجع بلا تكلف في مواطن عديدة مثل { آمِنِينَ ، مُّصْبِحِينَ ، مُعْرِضِينَ } . 9 - عطف العام على الخاص في { سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } . 10 - الاستعارة التبعية في { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } حيث شبّه إلانة الجانب بخفض الجناح بجامع العطف والرقة في كلٍ واستعير اسم المشبَّه به للمشبَّه ، وهذا من بليغ الاستعارات لأن الطائر إذا كف عن الطيران خفض جناحيه . تنبيه : الجمع بين هذه الآية { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وبين قوله { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } [ القصص : 78 ] وقوله { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] أن القيامة مواطن ، فموطنٌ يكون فيه سؤال وكلام ، وموطنٌ لا يكون ذلك فيه ، هذا قول عكرمة ، وقال ابن عباس : لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام هل عملتم كذا وكذا ، لأن الله عالم بكل شيء ، ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ فيقول لهم : لم عصيتم القرآن وما حجتكم فيه ؟