Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 111-128)

Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المنَاسَبَة : لما ذكر تعالى حال من كفر بلسانه ، وحال من كفر بلسانه وجَنَانه ، ذكر هنا الجزاء العادل الذي يلقاه كل إِنسان في الآخرة ، وما أعدَّه من العقاب العاجل في الدنيا لبعض المكذبين ، ثم ذكر قصة إِبراهيم الأوَّاه المنيب ، وأَمر الرسول صلى الله عليه وسلم باقتفاء آثاره المجيدة . اللغَة : { تُجَادِلُ } تخاصم وتحاجُّ { رَغَداً } واسعاً هنيئاً بلا كلفةٍ ولا تعب { أَنْعُمِ } جمع نعمة كالأشد جمع الشدَّة { أُمَّةً } إِماماً جامعاً لخصال الخير { قَانِتاً } مطيعاً خاضعاً من القنوت وهو الطاعة والخضوع { ٱجْتَبَاهُ } اصطفاه واختاره { حَنِيفاً } الحنيف : المائل عن الأديان الباطلة إِلى دين الإِسلام ، من الحنف وهو الميل . سَبَبُ النّزول : " لمَّا قُتل حمزة ومثَّل به المشركون في غزوة أُحد قال صلى الله عليه وسلم حين رآه " والله لأُمثلنَّ بسبعين منهم مكانك " فنزلت الآية الكريمة { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ … } الآية . التفسِير : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } أي ذكِّرْهم يوم القيامة حين تخاصم كلُّ نفسٍ عن ذاتها سعياً في خلاصها ، لا يهمها شأنُ غيرها { وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } أي تُعطى جزاءَ ما عملت من غير بخْسٍ ولا نقصان { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا ينقصون أجورهم بل يُعطونها كاملةٌ وافية { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً } هذا مثلٌ ضربه الله لأهل مكة وغيرهم ، بقومٍ أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فعصوا وتمردوا ، فبدَّل الله نعمتهم بنقمة { كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } أي كان أهلها في أمنٍ واستقرار ، وسعادة ونعيم { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } أي تأتيها الخيرات والأرزاق بسعةٍ وكثرةٍ من كل الجهات { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } أي لم يشكروا الله على ما آتاهم من خير ، وما وهبهم من رزق { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } أي سلبهم اللهُ نعمة الأمن والاطمئنان ، وأذاقهم آلام الخوف والجوع والحرمان { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } أي بسبب كفرهم ومعاصيهم ، قال الرازي : وهذا مثلُ أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينَة والخِصْب ، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به ، وبالغوا في إِيذائه ، فعذبهم الله بالقحط والجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ } أي ولقد جاءهم محمد بالآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة وهو رسولٌ منهم يعرفون أصله ونسبه فلم يصدقوه ولم يؤمنوا برسالته ، والآية دالة على أن المراد بهم أهل مكة وهو قول ابن عباس { فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } أي فأصابتهم الشدائد والنكبات وهم ظالمون بارتكاب المعاصي والآثام { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلالاً طَيِّباً } أي كلوا من نِعَم الله التي أباحها لكم حال كونها حلالاً طيباً { وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي واشكروا الله على نعمه الجليلة إِن كنتم مخلصين في إِيمانكم لا تعبدون أحداً سواه ، ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم فقال { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلْدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخَنْزِيرِ } أي لم يحرم ربكم عليكم أيها الناس إِلا ما فيه أذى لكم كالميتة والدم ولحم الخنزير { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } أي وما ذبح على اسم غير الله تعالى فإِنَّ فيه أذى للنفس والعقيدة { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فمن اضطر لأكل ما حرَّم الله من المذكورات من غير بغيٍ ولا عدوان فإِن الله واسع المغفرة عظيم الرحمة لا يؤاخذ من كان مضطراً ، ثم وبّخ تعالى المشركين الذين حلّلوا وحرّموا من تلقاء أنفسهم فقال { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ٱلْكَذِبَ هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } أي لا تقولوا أيها المشركون في شأن ما تصفه ألسنتكم من الكذب هذا حلالٌ وهذا حرام من غير دليلٍ ولا برهان { لِّتَفْتَرُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ } أي لتكذبوا على الله بنسبة ذلك إِليه { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } أي إِن الذين يختلقون الكذبَ على الله لا يفوزون ولا يظفرون بمطلوبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة { مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي انتفاعهم واستمتاعهم في الدنيا قليل لأنه زائل ، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم ، ثم ذكر تعالى ما حرَّم على اليهود فقال { وَعَلَىٰ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } أي وعلى اليهود خاصة حرمنا عليهم ما قصصنا عليك يا محمد مما سبق ذكره في سورة الأنعام عقوبة لهم وهي شحوم البقرة والغنم وكل ذي ظفر { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي وما ظلمناهم بذلك التحريم ولكنْ ظلموا أنفسهم فاستحقوا ذلك كقوله { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ } أي ثم إِن ربك يا محمد للذين ارتكبوا تلك القبائح بجهلٍ وسفه { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوۤاْ } أي ثم رجعوا إِلى ربهم وأنابوا وأصلحوا العمل بعد ذلك الزلل { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي إِنه تعالى واسع المغفرة عظيم الرحمة ، والآية تأنيسٌ لجميع الناس وفتحٌ لباب التوبة { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } أي إِنَّ إِبراهيم كان إِماماً قدوةً جامعاً لخصال الخير ولذلك اختاره الله لخلته { قَانِتاً لِلَّهِ } أي مطيعاً لربه قائماً بأمره { حَنِيفاً } أي مائلاً عن كل دين باطل إِلى دين الحق ، دين الإِسلام { وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } تأكيد لما سبق وردٌّ على اليهود والنصارى في زعمهم أن إِبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ } أي قائماً بشكر نعم الله { ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي اختاره واصطفاه للنبوة وهداه إِلى الإِسلام وإِلى عبادة الواحد الأحد { وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً } أي جعلنا له الذكر الجميل في الدنيا { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي وهو في الآخرة من أصحاب الدرجات الرفيعة ، وفي أعلى مقامات الصالحين { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } لما وصف تعالى إِبراهيم بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتَّبع ملته والمعنى ثم أمرناك يا محمد باتباع دين إِبراهيم وملته الحنيفية السمحة { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } أي وما كان يهودياً أو نصرانياً ، وإِنما كان حنيفاً مسلماً ، وهو تأكيد آخر لردّ مزاعم اليهود والنصارى أنهم على دينه { إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } أي لم يكن تعظيم يوم السبت وتركُ العمل فيه من شريعة إِبراهيم ولا من شعائر دينه ، وإِنما جعل تغليظاً على اليهود لاختلافهم في الدين وعصيانهم أمر الله ، حيث نهاهم عن الاصطياد فيه فاصطادوا فمسخهم قردةً وخنازير { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي وسيفصل الله تعالى بينهم يوم القيامة ، فيجازي كلاً بما يستحق من الثواب أو العقاب { ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } أي أدع يا محمد الناس إِلى دين الله وشريعته القدسية بالأسلوب الحكيم ، واللطف واللين ، بما يؤثر فيهم وينجع ، لا بالزجر والتأنيب والقسوة والشدة { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي وجادل المخالفين بالطريقة التي هي أحسن ومن طرق المناظرة والمجادلة بالحجج والبراهين ، والرفق واللين { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } أي إِن ربك يا محمد هو العالم بحال الضالين وحال المهتدين . فعليك أن تسلك الطريق الحكيم في دعوتهم ومناظرتهم ، وليس عليك هدايتهم ، إِنما عليك البلاغ وعلينا الحساب { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } أي وإِن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم فعاملوه بالمثل ولا تزيدوا قال المفسرون : نزلت في شأن " حمزة بن عبد المطلب " لما بقر المشركون بطنه يوم أُحد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لئن أظفرني الله بهم لأمثلنَّ بسبعين منهم " { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } أي ولئن عفوتم وتركتم القصاص فهو خير لكم وأفضل ، وهذا ندبٌ إِلى الصبر ، وترك عقوبة من أساء ، فإِن العقوبة مباحة وتركها أفضل { وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } أي واصبر يا محمد على ما ينالك من الأذى في سبيل الله ، فما تنال هذه المرتبة الرفيعة إِلا بمعونة الله وتوفيقه { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي لا تحزن على الكفار إِن لم يؤمنوا { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } أي ولا يضقْ صدرك بما يقولون من السَّفه والجهل ، ولا بما يدبرون من المكر والكيد { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } أي مع المتقين بمعونته ونصره ، ومع المحسنين بالحفظ والرعاية ، ومن كان الله معه فلن يضرَّه كيد الكائدين الَبَلاَغَة : تضمنت الآيات من صنوف البيان والبديع ما يلي : 1 - الاستعارة المكنية { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ } شبَّه ذلك اللباس من حيث الكراهية بالطعم المُر البشع وحذف المشبه به ورمز إِليه بشيءٍ من لوازمه وهو الإِذاقة على طريق الاستعارة المكنية . 2 - الطباق بين { حَلاَلٌ … حَرَامٌ } . 3 - الالتفات { وَآتَيْنَاهُ فِي ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةً } التفت عن الغيبة إِلى التكلم إشارة إِلى زيادة الاعتناء بشأنه وتفخيم أمره . 4 - التشبيه البليغ { كَانَ أُمَّةً } أي كان بمفرده كالأمة والجماعة الكثيرة لجمعه أوصاف الكمالات التي تفرقت في الخلق كما قال الشاعر : @ " وليس على الله بمستنكر أنْ يجمع العالم في واحد " . @@ تنبيه : دل قوله تعالى { وَجَادِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } على الحث على الإِنصاف في المناظرة ، واتباع الحق ، والرفق والمداراة ، على وجهٍ يظهر منه أن القصد إِثباتُ الحق وإِزهاقُ الباطل ، لا نصرة الرأي وهزيمة الرأي الآخر .