Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 91-110)
Tafsir: Ṣawfat at-tafāsīr: tafsīr li-l-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المنَاسَبَة : لما استقصى تعالى في الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، وذكر جملة المكارم والفضائل ، حذَّر تعالى هنا من نقض العهود والمواثيق وعصيان أوامر الله تعالى ، لأن العصيان سبب البلاء والحرمان ، ثم ذكر تعالى ما أعده لأهل الإِيمان من الحياة الطيبة الكريمة . اللغَة : { تَنقُضُواْ } النقض ضدُّ الإِبرام ، وهو فك أجزاء الشيء بعضها من بعض { تَوْكِيدِهَا } التوكيد التثبيتُ يقال : توكيد وتأكيد { أَنكَاثاً } أنقاضاً والنكث : النقضُ بعد الفتل { دَخَلاً } الدَّخل : الدَّغل والخديعة والغش قال أبو عبيدة : كل أمرٍ لم يكن صحيحاً فهو دخَل { يَنفَدُ } نفد الشيء ينْفد فني { أَعْجَمِيٌّ } الأعجمي الذي لا يتكلم العربية وقال الفراء : الأعجم الذي في لسانه عجمة وإِن كان من العرب ، والعجمي الذي أصله من العجم { يُلْحِدُونَ } الإِلحاد : الميل يقال لحد وألحد إِذا مال عن القصد والاستقامة . سَبَبُ النّزول : أ - روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس عند المروة إِلى غلام نصراني يقال له " جبْر " وكان يقرأ الكتب فقال المشركون : والله ما يعلِّمه ما يأتي به إِلا جبرٌ الرومي فأنزل الله عز وجل { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ … } الآية . ب - عن ابن عباس " أن المشركين أخذوا عمّار بن ياسر وأباه ياسراً وأمه سُميَّة وصهيباً وبلالاً فعذبوهم ، ورُبطت " سُميَّة " بين بعيرين ووُجئ قُبُلها بحربة فقُتلت ، وقُتل زوجها ياسر - وهما أول قتيلين في الإِسلام - وأمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرهاً ، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول الكريم : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئنٌ بالإيمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن عادوا فعُدْ وأنزل الله { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ … } " الآية . التفسير : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ } أي حافظوا على العهود التي عاهدتم عليها الرسول أو الناس وأدوها على الوفاء والتمام { وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توثيقها بذكر الله تعالى { وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } أي جعلتم الله شاهداً ورقيباً على تلك البيعة { إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } أي عليم بأفعالكم وسيجازيكم عليها { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } هذا مثلٌ ضربه الله لمن نكث عهده ، شبِّهت الآية الذي يحلف ويعاهد ويُبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزلها وتفتله محكماً ثم تحلُه أنكاثاً أي أنقاضاً قال المفسرون : كان بمكة امرأة حمقاء تغزل غزلاً ثم تنقضه ، وكان الناس يقولون : ما أحمق هذه ! { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } أي تتخذون أيمانكم خديعة ومكراً تخدعون بها الناس { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي لأجل أن تكون أمة أكثر عدداً وأوفر مالاً من غيرها قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزَّ ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِ } أي إِنما يختبركم الله بما أمركم به من الوفاء بالعهد لينظر المطيع من العاصي { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي ليجازي كل عاملٍ بعمله من خير وشرّ { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي لو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد ، وجعلهم أهل ملةٍ واحدة ، لا يختلفون ولا يفترقون { وَلـٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } أي ولكنْ اقتضت حكمته أن يتركهم لاختيارهم ، ناسٌ للسعادة وناس للشقاوة ، فيضلُّ من يشاء بخذلانه إِياهم عدلاً ، ويهدي من يشاء بتوفيقه إِياهم فضلاً { وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم على الفتيل والقطمير { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } كرره تأكيداً ومبالغة في تعظيم شأن العهود أي لا تعقدوا الأيمان وتجعلوها خديعة ومكراً تغرون بها الناس لتحصلوا على بعض منافع الدنيا الفانية { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } أي فتزلَّ أقدامكم عن طريق الاستقامة وعن محجة الحق بعد رسوخها فيه قال ابن كثير : هذا مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها ، وزلَّ عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة ، المشتملة على الصدّ عن سبيل الله ، لأن الكافر إِذا رأى المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوقٌ بالدين ، فيصد بسببه عن الدخول في الإِسلام ولهذا قال { وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي يصيبكم العقاب الدنيوي العاجل الذي يسوءكم لصدّكم غيركم عن اعتناق الإِسلام بسبب نقض العهود { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي ولكم في الآخرة عذاب كبير في نار جهنم { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي لا تستبدلوا عهد الله وعهد رسوله بحطام الدنيا الفاني { إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي ما عند الله من الأجر والثواب خير لكم من متاع الدنيا العاجل إِذا كنتم تعلمون الحقيقة ، ثم علَّل ذلك بقوله { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ } أي ما عندكم أيها الناس فإِنه فانٍ زائل ، وما عند الله فإِنه باقٍ دائم ، لا انقطاع له ولا نَفَاد ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى { وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ولنثيبنَّ الصابرين بأفضل الجزاء ، ونعطيهم الأجر الوافي على أحسن الأعمال مع التجاوز عن السيئات ، وهذا وعدٌ كريم بمنح أفضل الجزاء على أفضل العمل ، ليكون الجزاء على أحسن العمل دون سواه ، وكل ذلك بفضل الله { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي من فعل الصالحات ذكراً كان أو أنثى بشرط الإِيمان { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } أي فلنحيينَّه في الدنيا حياة طيبة بالقناعة والرزق الحلال ، والتوفيق لصالح الأعمال وقال الحسن : لا تطيب الحياة لأحدٍ إِلا في الجنة لأنها حياة بلا موت ، وغنى بلا فقر ، وصحة بلا سقم ، وسعادة بلا شقاوة { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ولنجزينَّهم في الآخرة بجزاء أحسن أعمالهم ، وما أكرمه من جزاء ! { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ } أي إِذا أردت تلاوة القرآن { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ } أي فاسأل الله أن يحفظك من وساوس الشيطان وخطراته ، كيلا يوسوس لك عند القراءة فيصدَّك عن تدبر القرآن والعمل بما فيه { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي ليس له تسلطٌ وقدرة على المؤمنين بالإِغواء والكفر لأنهم في كنف الرحمن { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي يعتمدون على الله فيما نابهم من شدائد { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } أي إِنما تسلُّطه وسيطرته على الذين يطيعونه ويتخذونه لهم ولياً { وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } أي بسبب إِغوائه أصبحوا مشركين في عبادتهم وذبائحهم ، ومطاعمهم ومشاربهم { وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } أي وإِذا أنزلنا آيةٌ مكان آية وجعلناها بدلاً منها بأن ننسخ تلاوتها أو حكمها { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } جملة اعتراضية سيقت للتوبيخ أي والله أعلم بما هو أصلح للعباد وبما فيه خيرهم ، فإِنَّ مثل آياتِ هذا الكتاب كمثل الدواء يُعطى منه للمريض جرعات حتى يماثل الشفاء ، ثم يستبدل بما يصلح له من أنواع أخرى من الأطعمة { قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } أي قال الكفرة الجاهلون إنما أنت يا محمد متقوِّلٌ كاذبٌ على الله { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي أكثرهم جهلة لا يعلمون حكمة الله فيقولون ذلك سفهاً وجهلاً قال ابن عباس : كان إِذا نزلت آية فيها شدة ثم نسخت قال كفار قريش : والله ما محمد إِلا يسخر من أصحابه ، يأمرهم اليوم بأمرٍ ، وينهاهم غداً عنه ، وإِنه لا يقول : ذلك إِلا من عند نفسه فنزلت { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ } أي قل لهم يا محمد : إِنما نزَّله جبريل الأمين من عند أحكم الحاكمين بالصدق والعدل { لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي ليثبّت المؤمنين بما فيه من الحجج والبراهين فيزدادوا إِيماناً ويقيناً { وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ } أي وهداية وبشارة لأهل الإِسلام الذين انقادوا لحكمه تعالى ، وفيه تعريضٌ بالكفار الذين لم يستسلموا لله تعالى { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } أي قد علمنا مقالة المشركين الشنيعة ودعواهم أن هذا القرآن من تعليم " جبْر الرومي " وقد ردَّ تعالى عليهم بقوله { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } أي لسان الذي يزعمون أنه علَّمه وينسبون إِليه التعليم أعجميٌ { وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } أي وهذا القرآن عربيٌ في غاية الفصاحة ، فكيف يمكن لمن لسانُه أعجمي أن يُعلم محمداً هذا الكتاب العربيُّ المبين ؟ ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا الكتاب المعجز في فصاحته وبيانه ! ! { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ ٱللَّهُ } أي إِن الذين لا يُصدّقون بهذا القرآن لا يوفقهم الله لإِصابة الحق ، ولا يهديهم إِلى طريق النجاة والسعادة { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي لهم في الآخرة عذابٌ موجع مؤلم ، وهذا تهديدٌ لهم ووعيد على كفرهم وافترائهم { إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أي لا يكذب على الله إِلا من لم يؤمن بالله ولا بآياته ، لأنه لا يخاف عقاباً يردعه ، فالكذب جريمةٌ فاحشة لا يُقدم عليها مؤمن ، وهذا ردُّ لقولهم { إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } { وَأُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } أي وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة لا محمد الرسول الأمين { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } أي من تلفَّظ بكلمة الكفر وارتد عن الدين بعد ما دخل فيه { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } أي إِلا من تلفَّظ بكلمة الكفر مكرهاً والحال أن قلبه مملوءٌ إِيماناً ويقيناً ، والآيةُ تغليظٌ لجريمة المرتد لأنه عرف الإِيمان وذاقه ثم ارتدَّ إِيثاراً للحياة الدنيا على الآخرة قال المفسرون : " نزلت في عمار بن ياسر أخذه المشركون فعذبوه حتى أعطاهم ما أرادوا مُكْرهاً فقال الناس : إِنَّ عماراً كفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ عماراً ملئ إِيماناً من فرقه إِلى قدمه ، واختلط الإِيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تجد قلبك ؟ قال : مطمئناً بالإِيمان قال : إِن عادوا فعُدْ " { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } أي طابت نفسه بالكفر وانشرح صدره له { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي ولهم غضبٌ شديد مع عذاب جهنم ، إِذْ لا جرم أعظم من جرمهم { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ } أي ذلك العذاب بسبب أنهم آثروا الدنيا واختاروها على الآخرة { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } أي لا يوفقهم إِلى الإِيمان ولا يعصمهم من الزيغ والضلال { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أي ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم فجعل عليها غلافاً بحيث لا تُذعن للحق ولا تسمعه ولا تبصره { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } أي الكاملون في الغفلة إِذْ أغفلتهم الدنيا عن تدبر العواقب { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } أي حقاً ولا شك ولا ريب في أنهم الخاسرون في الآخرة لأنهم ضيَّعوا أعمارهم في غير منفعة تعود عليهم قال المفسرون : وصفهم تعالى بست صفات هي : الغضب من الله ، والعذاب العظيم ، واختيارهم الدنيا على الآخرة ، وحرمانهم من الهدى ، والطبع على قلوبهم ، وجعلهم من الغافلين { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } أي ثم إِن ربك يا محمد للذين هاجروا في سبيل الله بعد ما فتنهم المشركون الطغاة عن دينهم بالعذاب { ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ } أي ثم جاهدوا في سبيل الله وصبروا على مشاقّ الجهاد { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي إِن ربك بعد تلك الهجرة والجهاد والصبر سيغفر لهم ويرحمهم . البَلاَغَة : تضمنت الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي : 1 - التشبيه التمثيلي { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا } الآية شبه تعالى من يحلف ثم لا يفي بعهده بالمرأة التي تغزل غزلاً ثم تنقضه . 2 - الاستعارة في { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } استعار القدم للرسوخ في الدين والتمكن فيه لأن أصل الثبات يكون بالقدم ولما كان الزلل عن محجة الحق يشبه زلل القدم وانزلاقها عبَّر به عن الانزلاق الحسي بطريق الاستعارة . 3 - الطباق بين { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } وبين { أَعْجَمِيٌّ … عَرَبِيٌّ } وبين { يَنفَدُ … بَاقٍ } , 4 - جناس الاشتقاق { قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ } وفيه مجاز مرسل من إِطلاق اسم المسبَّب على السبب أي إِذا أردت قراءة القرآن . 5 - الاعتراض { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } الجملة اعتراضية لبيان الحكمة الإِلهية في النسخ ، وفيه التفات من المتكلم إِلى الغائب ، وذكر الاسم الجليل لتربية المهابة في النفس . 6 - الاستعارة اللطيفة { لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } استعار اللسان للغّة والكلام كقول الشاعر : @ لسانُ السُّوءِ تُهديها إِلينا وخُنْت وما حسبتُك أن تخونا @@ والعرب تستعمل اللسان بمعنى اللغة كقوله تعالى { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [ إبراهيم : 4 ] . لطيفَة : السرُّ في الاستعاذة قبل قراءة القرآن أن القرآن هو الذكر الحكيم ، والحق المبين ، ولما كان الشيطان يثير الشبهات بوساوسه ، ويفسد القلوب بدسائسه ، أُمر صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ بالله ويلتجئ إِليه عند تلاوة القرآن ، لأن قوة الإِنسان تضعف عن دفعه بسهولة فيحتاج إِلى الاستعانة بالله العلي الكبير .